-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

البُعد الوطني في فكر الحركة الإسلامية

ناصر حمدادوش
  • 362
  • 0
البُعد الوطني في فكر الحركة الإسلامية

من أولويات الحركة الإسلامية المعاصرة بعد سقوط الخلافة الإسلامية رسميًّا سنة 1924م: استعادة الخلافة الإسلامية ككيانٍ دوليٍّ للأمة، وقد قال “محمد رشيد رضا” في كتابه “الخلافة” عن حكم الإمامة ونصب الخليفة: “أجمع سلف الأمة وأهل السُّنة وجمهور الطوائف الأخرى على أنَّ نَصْب الإمام -أي توليته على الأمَّة- واجبٌ على المسلمين شرعًا، لا عقلاً فقط..”.

أوْلى روَّادُ الصحوة الإسلامية المعاصرة أهميةً بالغة لسؤال الانتماء إلى الوطن، فهذا “ابن باديس” (1889م– 1940م) قد أصدر جريدة “المنتقد” سنة 1925م، وجعل شعارها: “الحقُّ فوق كلِّ أحد، والوطن قبل كلِّ شيء”، وقال عن الخصوصية الوطنية للجزائر التي تختلف تمامًا عن فرنسا: “إنَّ هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت..”.

ومن خصوصيات الإسلام أنه دينٌ عالميٌّ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعثتُ للنَّاس عامَّة”، وهو ما تبَنَّته الحركة الإسلامية، كما قال الإمام “حسن البنا”: “الإسلام نظامٌ شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعًا، فهو دولةٌ ووطن أو حكومةٌ وأمَّة، وهو خُلُقٌ وقوة أو رحمةٌ وعدالة، وهو ثقافةٌ وقانون أو علمٌ وقضاء، وهو مادةٌ وثروة أو كسبٌ وغِنى، وهو جهادٌ ودعوة أو جيشٌ وفكرة، كما هو عقيدةٌ صادقة وعبادةٌ صحيحة سواء بسواء”، وهو ما يستدعي علاقةً بين الدِّين والدولة، وأن يكون لهذه الأمة كيانٌ سياسيٌّ دوليٌّ يسمَّى في الأدبيات التقليدية: الخلافة، فجعل “حسن البنَّا” مراحل الدعوة في ركن العمل ومراتبه عند الأخ المسلم: “إصلاح النَّفس، وتكوين البيت المسلم، وإرشاد المجتمع، وتحرير الوطن، وإصلاح الحكومة، وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، وأستاذية العالم..”، إلا أنّ هناك خلطًا بين شمولية الفهم للإسلام وبين شمولية التنظيم العامل له، فتشكَّلت تنظيماتٌ إسلاميةٌ أممية عابرةٌ للحدود والقارات، تجاوزت خصوصيات الدول الوطنية وسيادتها، وهو ما طرح إشكالية التوفيق بين عالمية الفكرة وقُطرية التنظيم، وبين عالمية الدعوة وسيادة الدولة، ووضع مسألة البُعد الوطني للحركة الإسلامية على طاولة البحث والمساءلة؟ وهناك أزمةٌ بنيويةٌ صاحبت نشأة الدول الوطنية الحديثة، والتي تتمثَّل في:

  • أزمة الشَّرعية: لم تتوقَّف أزمتها على أزمة شرعية الأنظمة السِّياسية التي تحكمها، بل تعدَّت إلى أزمة بنائها، فقد تشكَّلت على أساس الاستبداد والفساد والتزوير، ولم تحترم مبدئية الشورى وآلية الديمقراطية في تشكُّلها وبنائها على أساس الشرعية والمشروعية.

2- أزمة الهوية: فقد أصبحت لكلِّ دولةٍ وطنيةٍ حديثةٍ هويةٌ فرعيةٌ خاصةٌ بها، متجاوزةٌ للهوية القومية أو الدينية. وبسبب أزمة الشرعية والهوية للدول الوطنية الحديثة تأسَّست هذه الحركات الإسلامية وطرحت مشروعها الإصلاحي والتغييري، إلاَّ أنها اصطدمت بثنائية الانتماء إلى الأمة ضمن الفكرة الإسلامية العالمية، والانتماء إلى الوطن ضمن الحدود السِّيادية للدولة القُطرية، وهو ما طرح إشكالية مركزية الدولة في فكر الحركة الإسلامية والبُعد الوطني لها، فقد تأسَّست على حلم إعادة الخلافة الإسلامية إيديولوجيًّا، لتجد نفسها أمام تحدِّي إقامة الدولة الإسلامية ضمن الحدود الجغرافية الموروثة عن الاستعمار.

وكثيرٌ من الحركات الإسلامية استوعب فكرُها البعدَ الوطني، إلاَّ أنّ هناك مراهقةً فكرية في التعامل مع الأوطان (الأقطار) لدى البعض، على اعتبار أنها حدودٌ جغرافيةٌ جسَّدت تقسيم الأمة بواسطة أعدائها، وبالتالي يجب التمرُّدُ عليها، وعدم الإيمان بها، وهو ما يورِّطهم في خياراتٍ صدامية تدمِّر المشروع الإسلامي ذاته، حتى قال بعضهم في تعبيرٍ صارخٍ عن أزمةٍ عَقَدية: “الوطن وَثَن”، وهو ما يفرض معالجة مسألة العلاقة بين الدِّين والدولة، وهي الإشكالية التي لم تكن مطروحة قبل السُّقوط الرسمي للخلافة الإسلامية، فثار الجدل حول حاجة الإسلام إلى الدولة، وحاجة الأمة إلى الخلافة كضرورةٍ من أجل الاستئناف الحضاري من جديد، وقد تأسَّس البُعد الوطني في فكر الحركة الإسلامية على عدَّة اعتبارات شرعية، منها:

1- العلاقة الفطرية بين المسلم والأرض: فالإسلام دين الفطرة، ولقد نطق ذلك الشَّاعر العربيُّ الأصيل بها، فقال:

بلادي وإنْ جَارَت عليَّ عزيزةٌ

وقومي وإنْ ضَنُّوا عليَّ كِرام

ولقد تُرجمت تلك المشاعرُ القلبية من النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أُكرِه على الخروج من مكة، فالتفت إليها وعيناه تفيض من الدَّمع حُزنًا على فراقها: “واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إليَّ، ولولا أنَّ أَهْلَكِ أخرَجوني منكِ ما خَرجت”، وكانت الهجرة إلى المدينة كذلك رحلةً للبحث عن وطنٍ يحتضن الفكرة، وقد تعلَّق الأنبياء بأوطانهم، ولا أصدق من الدُّعاء لها، مثلما خلَّد القرآن عن سيِّدنا إبراهيم عليه السلام منهجه في بُعده الوطني بقوله تعالى: “وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا، وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ..”(البقرة: 126)، وارتبط المشروعُ العقائدي للمسلم بالتمكين له في الأرض، كما قال تعالى: “ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّٰاهُمْ فِي ٱلْأَرْضِ أَقَامُواْ ٱلصَّلَاةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنكَرِ، وَلِلَّهِ عَٰقِبَةُ ٱلْأُمُورِ” (الحج:41).

2/ الإيمان بأخُوَّة الوطن: صحيحٌ أنّ من أرقى صور الأخوَّة هي: أخوَّة الدِّين في مثل قوله تعالى: “إنما المؤمنون إخوة” (الحجرات: 10)، إلا أنّ هناك أخوَّةً أخرى خارج الأخوَّة الدينية، وهي الأخوَّة في الجغرافيا، مثل قوله تعالى: “كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ” (الشعراء: 106)، وهي أخوّةٌ قومية.

بل رتَّب الإسلام على الجوار الجغرافي حقوقًا شرعيةً مهما كان الدِّين أو الجنس أو اللغة، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: “الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ… فَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ فَجَارٌ مُشْرِكٌ لَا رَحِمَ لَهُ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ حَقَّانِ فَجَارٌ مُسْلِمٌ، لَهُ حَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ، وَأَمَّا الَّذِي لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ فَجَارٌ مُسْلِمٌ ذُو رَحِمٍ، لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْإِسْلَامِ وَحَقُّ الرَّحِمِ”.

3/ الشَّهادة في سبيل الله من أجل الوطن: يتحفَّظ بعض الإسلاميين على الوطن والوطنية وكأنهما مسكونان بحمولاتٍ علمانيةٍ لا علاقة لها بالدِّين، والحقيقة عكس ذلك، ولا أدلُّ على ذلك من معيار الولاء على أساس الدِّين والوطن في مثل قوله تعالى: “إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ..”(الحجرات: 09)، ومن الواجبات العقائدية: الدفاع عن الوطن، كما قال تعالى عن مبرِّرات القتال في سبيل الله: “وما لَنَا ألَّا نقاتل في سبيل الله وقد أُخرِجنا من ديارنا وأبنائنا..” (البقرة: 246)، وأنَّ الموت من أجل ذلك شهادةٌ في سبيل الله، فقال صلى الله عليه وسلم: “مَنْ قُتِلَ دُونَ مالِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دِينِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَنْ قُتِلَ دُونَ أهلِهِ فهوَ شَهيدٌ”.

وقد أوْلى روَّادُ الصحوة الإسلامية المعاصرة أهميةً بالغة لسؤال الانتماء إلى الوطن، فهذا “ابن باديس” (1889م– 1940م) قد أصدر جريدة “المنتقد” سنة 1925م، وجعل شعارها: “الحقُّ فوق كلِّ أحد، والوطن قبل كلِّ شيء”، وقال عن الخصوصية الوطنية للجزائر التي تختلف تمامًا عن فرنسا: “إنَّ هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت..”، وكان الشعار المدوِّي والصارخ للجمعية بما يحمله من أبعادٍ وطنية: “الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا”، وخير ما جسَّد وطنية “ابن باديس” هو مقالٌ صدَّره بسؤال: لمن أعيش؟ فقال مجيبًا: أعيش للإسلام والجزائر.

ونجد من رواد الحركة الإسلامية المعاصرة: الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، وقد أبان عن بُعده الوطني في كتابه: “الجزائر المنشودة.. المعادلة المفقودة: الإسلام والوطنية والديمقراطية”، فتحدَّث في الفصل الرابع منه عن: الوطنية، معتبرًا أنَّ المشروع السِّياسي الوطني قام على مبدأ الاستقلال التام والكامل، وعلى السَّعي إلى بناء الدولة الوطنية ذات السِّيادة، وأنَّ السِّمة الأساسية التي طبعت التيار الوطني على المستوى الإيديولوجي وعلى المستوى العملي والنضالي، هي: الطابع الإسلامي، في جمعٍ بين البُعد الوطني والهوية الإسلامية.

لقد كان فكر الحركات الإسلامية المعاصرة ومسارها متفاعلاً في كثيرٍ من عطاءاته مع مشروع الدولة الوطنية، إذ يحمل مشروعًا لتحرير الأقطار من كلِّ أشكال الاستعمار السِّياسي والاقتصادي والثقافي، وتنميتها في إطار هويتها الطبيعية، وتقوية مناعتها وإكسابها القدرة على التموقع المحترم والوجود الفاعل في الخريطة الدولية. وإذا كانت الحركات الإسلامية قد حسمت في بُعدها الوطني من الناحية الفكرية والمنهجية، فإنها بحاجة إلى تعزيزها لهذا المسار الحضاري أكثر، وذلك يتطلب وعيًا متجدِّدًا بطبيعة التحديات الوطنية وانخراطًا أكبر في مسارات الإحياء والتنمية الشاملة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!