-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التطوُّر نحو التخلف

عمار يزلي
  • 1089
  • 1
التطوُّر نحو التخلف

الانكماش الحضاري الدوري، قانون طبيعي وناموس كوني إلهي يسري عبر الزمن والتاريخ، تماما كما هي أعمار الناس والكائنات، لها بداية ولها متوسط عمر ولها بداية انكماش ثم انحدار وأفول.

ما يحدث حولنا لا ندركه تماما، كوننا نعيش داخل الحركية والديناميكية العامة الكونية، ولا نتفطن له لأننا نعيش داخله، فقط من يرى الأشياء من خارج دائرة الدوران، يعرف كيف تجري الأمور وكيف تتغير وإلى أين ستصل، إن لم يكن في المنظور القريب العاجل، فمن المنظور المتوسط والبعيد. في النهاية، لا أحد يمكن أن يتنبأ بالمستقبل ولا بالغيب، ولكن، وفق القوانين الكونية والتاريخ المقارن وفهم قوانين وسنن الحياة، وقراءة متأنية لتراثنا الديني وثقافتنا الدينية بشكل عامّ، يُفهم أن التغيير والتغير فينا جميعا والدورات التي يمر بها التغير فينا ومن حولنا هي دورات وحلقات شبه حتمية، إنها بالتأكيد تقريبية وليست دقيقة بحساباتنا العلمية بالدقيقة والثانية والساعة والأيام والشهور، فالزمن هو زمن نسبي مرتبط بالمكان، لهذا نتحدث عن “زمكان”: فالزمان على كوكبنا ليس هو نفسه في القمر أو المريخ أو في مجرَّات سحيقة على بعد مليارات السنوات الضوئية: “ويوم عند ربك كألف سنة مما تعدّون” (الحج/47)، وأيضا “..في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة” (المعارج/4).

بهذا المعنى، وبحسب كل النظريات في التغير التاريخي وتعاقب الحضارات من ابن خلدون، إلى ماركس، إلى “توينبي”، و”شبنجلر”، و”مالك بن نبي”، وصولا إلى “فوكوياما” و”هنتغتون”، التغير يحصل معنا كل يوم لهذا لا نشعر به تماما. تماما كمن يوجد في قلب لعبة العجلة الكبرى في حدائق التسلية، يدور فيرتفع ويتسارع صوته وهو يتحدث لزميله، كما ترفع وتتسارع نبضات القلب مع تسارع الزمن والوقت وهو يدور داخل العجلة، إذ يفقد معنى الوقت ولا يعرف ماذا يحدث خارج دائرته المغلقة بفعل ديناميكية الزمن المسرّع بأقصى سرعة؟

ما يحدث اليوم، ونحن على أعتاب منتصف القرن الـ21، هو أن العالم يسير بسرعة قصوى نحو تغيرات أقصى، لم تشهدها الحضارات من قبل: فكلما تقدمنا في الزمن والتاريخ، زادت سرعة التغير والانتقال، وبالتالي فقدنا معها حاسة الوقت الحقيقي، ولم نعد نشعر إلا بمظاهر ذلك ممثلة في: “قلة الوقت” عندنا، وضيقه وعجزنا عن القيام بكل الأشياء في وقت واحد، والتي من مظاهرها أيضا: القلق، النزفزة العصبية، التضايق، الاختناق، اللهث الاجتماعي…

هذا كله يشير إلى أن التغيرات القادمة، آتية حتما ولا محالة، وعلى نطاق أوسع: فحضارات العالم القديم كانت محدودة جدا في الزمن والمكان، بدءا من حضارات ما قبل التاريخ وظهور الكتابة خلال وقبل العهود السومرية وحضارة ما بين النهرين مرورا بالحضارات الفارسية والصينية القديمة والفرعونية والإغريقية ثم الرومانية والإسلامية، وصولا إلى الحضارة الرأسمالية الغربية، العالم اليوم صار قرية صغيرة يتأثر كليا عبر الأجزاء: التغير يأتي دوما من الأطراف: “أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها” (الأنبياء/44). وهذا ما حدث مع الحضارات كلها، بما في ذلك الحضارة العربية الإسلامية في نهاية أوجها مع العهد الموحدي وبداية الانفصال من الأطراف عن الدولة المركزية، وانتهاء بالتفكُّك.

ما يحدث اليوم، أننا متجهون نحو رؤية عالم متعدد الأقطاب، لا محل له للإمبراطورية الواحدة المهيمنة على المشرق والمغرب: الانكماش قد بدأ وسيزداد، وسنرى بداية الانكماش أكثر ما بعد منتصف القرن الحالي، ولكنه في المنظور القريب، سنرى عدة “جزر” سياسية تنفصل تدريجيا عن القوة المهيمنة، كون قوى أخرى في طور الشباب والرشد تخطو خطوات أسرع نحو النمو والتوسُّع.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • لزهر

    أعتقد أن الإمام ابن سيرين (سمي بهذا الاسم لأنه يعلم كيف ستسير الأمور في المستقبل) استخدم كل ما هو ضد التأويل، أي يقول إن الأمور تسير إلى عكس ذلك، كالسعي في الدنيا، كأنه نحن نتقدم في السن، لكن في نفس الوقت نعود إلى الوراء لتحقيق أحلامنا عندما كنا صغاراً. يتم تفسير الموت على أنه عودة سريعة في لحظات قليلة ونتذكر كل شيء في حياتنا بطريقة معاكسة.