-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

التنافسُ الاستراتيجي في عالم ما بعد الغرب

ناصر حمدادوش
  • 976
  • 0
التنافسُ الاستراتيجي في عالم ما بعد الغرب

يدلُّ الأرشيف السِّياسي للعلاقات الأمريكية – الرُّوسية منذ عام 1994م، أي بعد 4 سنوات من انتهاء الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السُّوفياتي، على أن هناك غطرسةً غربيةً في “إذلال روسيا”؛ ففي الوقت الذي ينظر الرُّوس إلى أنَّ الحرب الباردة انتهت دون إطلاق نار من غير منتصرٍ أو مهزوم، كانت أمريكا تنام في عسل انتصارها التاريخي الذي كرَّس لها الأحادية القطبية بزعامة العالم، وهو ما منحها الغرور بممارسة السُّلوك الدولي بعقلية المنتصر، وتنتظر من غيرها التصرُّف بعقلية المهزوم.
وفي الوقت الذي كانت فيه أحلامُ القدِّيس “بوتين” بالانضمام إلى حلف الناتو منذ سنة 2000م، إلا أنَّ هذا الحلف كانت لديه وجهةُ نظرٍ أخرى بأنَّه تحالفٌ من الديمقراطيات، وأنه لا يشكل أيَّ تهديدٍ لروسيا، وأنه تحالفٌ دفاعيٌّ وليس هجوميًّا، إلاَّ أنَّ السُّلوك الغربي بتوسيع هذا الحِلف أبان للعقل الاستراتيجي الرُّوسي بأنَّ المحرِّك الأساسي لكلِّ السِّياسات الغربية منذ انتهاء الحرب الباردة هو ابتلاع روسيا وإلحاقها بالمنظومة الغربية للتفرُّغ للخطر الصيني القادم.
تأسَّس حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 1949م من 12 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ثم توسَّع إلى 16 دولة عند انتهاء الحرب الباردة، ولم تحترم أمريكا تسويات ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي في مباحثات توحيد ألمانيا عام 1990م، فانضمَّ عددٌ من جمهورياته السَّابقة إلى الناتو حتى بلغ عددُ أعضائه اليوم 30 دولة، ووصلت حدودُه الرَّسمية إلى الجغرافيا الرُّوسية، ومنذ عام 2008م تبنَّى رسميًّا سياسة: الباب المفتوح أمام جورجيا جنوبًا وأوكرانيا شرقًا للإغلاق الكلِّي على روسيا.
في سنة 1994م نصح مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق “بريجنسكي” أنْ تكون أوكرانيا محور اهتمامِ وتركيزِ الإستراتيجية الأميركية بعد انتهاء الحرب الباردة، لأنَّ سيطرة روسيا عليها سيمكِّنها من إعادة بناء إمبراطوريتها القيصرية من جديد، وأنه من دون أوكرانيا لن تعود روسيا إمبراطورية، واليوم يدرك بوتين بأنَّ أوكرانيا هي بمثابة سكينٍ في يد الغرب والولايات المتحدة لاحتواء روسيا وإعاقة طموحاتها الحضارية الكبرى، إذْ أنَّ كبار العالم اليوم يحدِّدون جغرافيا دولهم وفق رؤيةٍ حضاريةٍ وليس ضمن الأساس القانوني المتعارف عليه دوليًّا، إذ تنخرط في هذه الرُّؤى الحضارية: الأبعاد الدينية والتاريخية والقومية والثقافية واللغوية.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ هذه الحرب في أوكرانيا ما هي إلاَّ محصِّلةٌ لـ30 سنة من عدم الاستقرار في توازن القوَّة بين أمريكا وروسيا، وأنَّ أوروبا والناتو ما هم إلاَّ أدواتٌ لهذا الصِّراع ووقودٌ لهذه الحرب، وسيكون من المآلات الحتمية لهذه الحرب تغييرُ خارطة أوروبا، وإدخالُ الشكِّ في مستقبل النظام الأوروبي، وزعزعة هيكل الأمن الأوروبي، إذْ أنَّ هذه الأزمة كان من السَّهل تجنُّبَها لو لم تستسلم أمريكا وحلفاؤها الأوروبيون للغطرسة والمثالية الليبرالية وانتبهوا إلى الرُّؤى الأساسية للواقعية بتغيُّر العالم، وأنَّ مرحلة “ما بعد الغرب” قد تمَّ تدشينها منذ سنوات، وأنَّ أصواتًا أكثرَ عقلانيةً بدأت في الارتفاع للمطالبة بنظامٍ عالميٍّ جديد بدأت تتشكُّل ملامحه الكبرى.
وخلال يومي 09 و10 ديسمبر 2021م، ومن علياء برج الفوقية الأميركية التقليدية، والتي تعتبر نفسها معقل الديمقراطية العالمية، دعا الرئيس الأمريكي “جو بايدن” إلى قمَّةٍ دولية من أجل الديمقراطية، لمناقشة التحدِّيات والفرص التي تواجه الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين، والتي حضرها 110 دول، بالرَّغم من التقرير الصادر في 22 نوفمبر2021م عن المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية بستوكهولم، والذي تمَّ فيه إدراج أمريكا ضمن قائمة “الأنظمة الديمقراطية المتراجعة”، وهي القمَّة التي اعتبرها “بوتين” إعادةً لتقسيم العالم أمريكيًّا، والعودة إلى دخان الحرب الباردة، وخطوةً عدائيةً ضدَّ روسيا والصِّين.
وبالرَّغم من التباين في الرؤية الإستراتيجية بين روسيا والصِّين، وبقاء هواجس المخاوف المتبادلة بينهما، وأنَّ التقارب الذي لم يصل إلى نصف التحالف الحقيقي لا تزال تحكمه المصالح القريبة، وأنَّ المدى الإستراتيجي لا يزال يصبغ العلاقة بينهما بالتنافس، فإنَّ تحولاتٍ جذرية في بنية النظام الدولي والرَّغبة المشتركة بينهما في الحدِّ من تأثير التفرُّد الأميركي بقيادة العالم عزَّز التقارب المتزايد بينهما والدعوة إلى إقامة نظام “ما بعد الغرب”، وأنَّ العالم يتَّجه نحو التقاسم الثلاثي بين أمريكا والصين وروسيا لمناطق النفوذ ذات الأقطاب الثلاثة.
وحالة الصِّدام الدولي الآن في أوكرانيا هو التجلٍّي الأبرز لهذا النِّزال من أجل النظام العالمي الجديد، والبحث عن توازنٍ إستراتيجيٍّ فيه بعد اندلاع الحرب وترشُّحها للتوسُّع زمانيًّا ومكانيًّا أصبح من السَّابق لأوانه التكهن به. والأزمة المتدحرجة بين روسيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة أمريكا هي من أكثر الأزمات خطورة وجدّية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية 1945م، وليس من السَّهل على روسيا -والتي مثَّلت معسكرًا شرقيا ندِّيَّا للمعسكر الغربي مدة 70 سنة- أن تبقى مكتوفة الأيدي أمام هذا التوسُّع الغربي الذي ابتلع إلى حدِّ الآن 14 دولة من الجمهوريات السوفياتية السابقة، ليصل إلى أوكرانيا التي تعتبر عاصمتها “كييف” عاصمة ميلاد روسيا القيصرية الأرثوذكسية منذ 980م.
وترى القيادة الرُّوسية أنَّ أوكرانيا تنجذب تدريجيًّا نحو المدار الأمني الأميركي والاندماج في الفضاء اليورو- أطلسي قِبلة أوكرانيا الإستراتيجية بعيدًا عن روسيا، وهذا الغرب لم يرض بموقعها على الحياد لتصبح منطقة عازلة بين حلف الناتو وروسيا، وبالرَّغم من النظرية السياسية أنَّ التوترات الدبلوماسية يتراجع تأثيرُها مقابل حجم المصالح المشتركة، فإنَّ الإصرار على هذه الحديقة الخلفية لروسيا لا يُعدّ إلاَّ تهديدًا وجوديًّا لها، ولا مفرَّ من لغة المواجهة العسكرية مهما كانت تكلفتها الباهظة ماليًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا، والواضح أنَّ هذه الحرب على هذا الموقع الاستراتيجي للطرفين سيظلُّ جُرحًا لا يندمل، والعالم ما بعد هذه الحرب يختلف تمامًا عمَّا قبلها.
إنَّ النفاق الغربي يصرخ بصوتٍ عالٍ ليقدِّم للإنسانية دروسًا في احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان واحترام سيادة الدول وسلامة أراضيها، ولكن بازدواجية المعايير والكيل بمكيالين، فهو آخر من يحقُّ له إعطاء الدروس في ذلك، فالممارسات العدوانية لروسيا في انتهاك القانون الدولي الإنساني في أوكرانيا هي نفسها التي يمارسها العدوُّ الصهيوني في فلسطين ولبنان وسوريا، ومارستها الغطرسة الأمريكية والحلف الأطلسي في العراق وأفغانستان وليبيا وغيرها. إنَّ رصد الميزان المتصاعد للقوى الإقليمية والدولية يُثبت سذاجة الرُّؤية الأميركية للعالم المتغيِّر، وذلك بالتجاهل المتكرِّر للعوامل الموضوعية والتطورات التاريخية في المناطق الحيوية للصِّراع الدولي بما سيدفع إلى عالم “ما بعد الغرب”.
لقد كشف الصِّراع الإقليمي في سوريا فتور العزيمة الأميركية فيما يتعلَّق بهدفها المُعلن برحيل “بشَّار الأسد”، فلم تصمد أمام مواجهة الوجود العسكري الروسي وتوسُّع نفوذه في المنطقة طولاً وعرضًا، كما كشف الانسحابُ الأميركي الفوضوي من أفغانستان تراجع غرور القوة لديها، كما أثار اتفاق الغواصات مع أستراليا غضبًا فرنسيًّا بسبب إقصائها، وهو ما يعرِّي مشكلاتٍ خطيرةً في التنسيق بين أطراف الحلف الأطلسي، وبدلا من تهدئة العلاقات مع روسيا من أجل التفرُّغ لمواجهة التحدِّيات الصينية المتصاعدة، ها هي واشنطن تعجز عن التنبُّؤ بما يدور في عقل بوتين، وعن الحدِّ من التمدُّد الروسي في السَّاحة الأوكرانية رغم قسوة ردود الفعل من العقوبات المالية والاقتصادية والسياسية غير المسبوقة، وبالرَّغم من هذه الهدية الروسية بمنح أمريكا وأوروبا الفرصة لتوحيد الجبهة الغربية، إلاَّ أنَّ الوقائع العسكرية على الأرض تُثبت أنها ليست على قدر هذا التحدِّي، وهو ما يعطى الفرصة لروسيا بأن تفرض حضورها من جديد في القارة الأوروبية والمشهد العالمي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!