الرأي

التهجم على قرار الإنقاذ في الباكالوريا. لماذا؟!

لمباركية نوّار
  • 954
  • 11
ح.م

رغم الطابع الاستثنائي لقرار وزارة التربية الوطنية الذي خفّض عتبة النجاح الدنيا في امتحان شهادة الباكالوريا بعلامة واحدة عن المعهود، إلا أن هذا القرار قوبل بموجات رفض عنيفة واعتراضات شديدة من قبل أطراف عديدة. ووصلت حدّة المعارضين، أحيانا، إلى حدّ التهجم على المدرسة الوطنية. وحتى قبل الوقوف على آثار هذا القرار، فقد جعل منه بعضهم مشجبا من فولاذ علقت عليه نقائص المنظومة التربوية وجمعوها فيه. والأغرب هو أن بعض الانتقادات جاءت حتى ممن لا يملكون أدنى علاقة بالتربية، ومن أولئك الذين لا يحملون هذه الشهادة، وعجزوا عن نيلها. ولم يرحم المنتقدون سمعة ومعنويات وكرامة فئة من الطلاب لا ذنب لهم سوى أنهم نجحوا بمساعدة لم يطالبوا بها، ولم تكن من صنع أيديهم، ولم يراعوا عواطف أوليائهم وذويهم.

لا يحمل القرار في طياته قبح الشعبوية على وجه الإطلاق، ولو أريد له أن يملك هذه الصفة لخفّضت عتبة النجاح أكثر حتى تتسع رقعة فعله السحري. وإنما هو قرار فرضته ظروف قاهرة من جراء انتشار فيروس الكورونا الذي تعني النجاة من قبضته من بعد الإصابة به معجزة. ولم يتسبب هذا الوباء في غلق أبواب المدارس، فحسب. وإنما نشر رعبا مخيفا تولدت عنه ظروف قاسية هزت وخلخلت نفسيات الناس كبارا وصغارا، وما بالك بمن ينتظره اجتياز امتحان مصيري؟. وهو الامتحان الذي جرت اختباراته في جو خاص مشحون بالقلق والريبة ومملوء بالحيطة والحذر. أفلا تشفع هذه العوامل بأن تقدم للمتعلمين تسهيلاتٌ في زمن العسر؟. ولا تجعل كتاب المنشورات والتعليقات في الفضاء الأزرق يستحون من عرض تدوينات صادمة، ولا تحمل كلماتها إلا التهجم والسخرية، وتهزأ من فصيل من المتعلمين الأبرياء نجحوا بقرار إنقاذي شجاع. فأين غابت مدركات الحس المواطناتي الرفيع عن هؤلاء؟.

يذهب اللوم حادا إلى الأساتذة الذين عيَّروا متعلميهم، ولطموا معنوياتهم بدل أن يشدوا على أيديهم، ويرأفوا بأحاسيسهم. وقد قرأت وقرأ غيري ما يسوق الخجل إلى النفوس من عبارات الاستهزاء والازدراء، مثل عرض تخصصات عليهم ملأى بجناية السخرية والتحقير. ولم نقرأ في مواقف ما يسمى بـ”نقابات التربية” المناهضة للقرار استغرابا كليا. إذ كيف ينتظر موقفٌ إيجابي لمناصرة المتعلمين في ظرف عسير ممن كانوا يتفقون على الدخول في إضرابات مفتوحة طويلة المدى، ويحرمونهم من نعمة العلم؟. وفي هذه المرة، دخلت ما يسمى بـ”نقابة المفتشين” معترك الخصام، ورفعت مطلبها لإبطال هذا القرار إلى قمة السلطة. وكان الأولى من هذه “النقابة” الأخيرة أن تنظر في الأخطاء التي تبرز كل سنة في أسئلة الامتحانات الرسمية، وعن سرقتها جاهزة من بعض المصادر، وعن تعرُّض بعض الأسئلة إلى معارف محذوفة من المناهج أو غير مقررة فيها. أو ليست محاولة تصحيح هذه الأمور نافعة في مخطط تجويد مخرجات المدرسة الجزائرية؟. ولعلنا نرى في المرتبة الذيلية التي احتلتها الجزائر في مسابقة أولمبياد الرياضيات الأخيرة (2020م) مقدار الجهد المبذول من طرف هذه الفئة في الجانبين العلمي والبيداغوجي؟.

لا يمكن للاستثناء أن يُفسد أو يعطل فعل قاعدة معلومة وإن رافقها أبد الدهر. فكيف يستطيع قرارٌ غلب عليه الطابع الاجتماعي والإنساني والمحدودية الزمانية أن يحدث تغييرات في نظامنا التعليمي، وأن يكون طفرة لحظية تكسبه التخلف وترميه بالتراجع؟. فهل يُظن أن الأمر شيبه بفيروس الكورونا الذي أدخلت على ذخيرته النووية طفرة جعلته مفترسا وشرسا وعدوانيا إلى حد لا يطاق؟. والعاقل المتابع لشؤون التعليم يستقبح موقف هؤلاء المعارضين المتهجِّمين، ويتساءل في عفوية: كيف غفلت أعينهم عن رؤية الأثر الشنيع لما يسمى بـ”الدروس اللصوصية” التي لم تتوقف حتى في زمن الكورونا الرهيب، وما ألحقته من علل وخيبات وانكسارات بمنظومتنا التربية منذ ما يقارب من أربعة عقود من الزمن؟. أليس الحري بهم أن يحزموا أمرهم لمقاومة ومحاربة هذه العلة النجسة؟. ولا بأس أن نسألهم من باب إقامة الحجة: أيهما أحق بالنقد التفوق المغشوش في امتحان شهادة الباكالوريا بواسطة عكاز “الدروس اللصوصية”، أم النجاح بعلامة ضعيفة؟. وللعلم، فإن شهادة الباكالوريا ليست شهادة تأهيلية، وإنما هي تأشيرة للالتحاق بالجامعة لمن رغب في ذلك. ولو تُقرر، فرضا، وزارة التربية الوطنية أن النجاح في كل الامتحانات الرسمية لن يكون إلا إذا حصل المتعلم الممتحَن على علامة تعادل أو تزيد عن خمس وسبعين في المائة (15/20) من العلامة الكلية، فهل سيتحسن حال المدرسة بين عشية وضحاها ويرتقي مردودها بين عشية وضحاها؟. وإذا تحقق ذلك، فأين تمضي النسبة الفائضة من المعلمين والأساتذة؟. وأين تجد ما يسمى بـ”نقابات التربية” المنخرطين المساندين لهرطقاتها؟.

يقيني أن مدرستنا الوطنية ليست مدرسة نخبوية، ولا تشتغل على هذا الأساس لأسباب تاريخية وعراقيل تنفس بها حاضرنا بتعقيداته المختلفة. ولكن، هذا لا يعني أنها لا تتوفر على متعلمين ذوي درجات عالية من نضج القدرات والذكاء والتميز. وأنها لا تملك ما يمكِّنها من الزحف نحو التقدم لمنح تعليم نوعي في كل المستويات. ولا يحق أن ننكر عطاءها الكمي المعتبر وتأديتها دورا كبيرا في نشر المعرفة بغضِّ النظر عن معيار النوعية. ويمكن لمدرسة بهذه المواصفات أن تتسلق مدارج الرقي عندما يُنتقى لها معلمون وأساتذة وفق معايير عالية وحازمة، ويُنتدب لإدارتها إداريون أكفاء في كل المستويات، ويسند الإشراف فيها إلى مفتشين مؤهلين علميا وبيداغوجيا بدل أن يُسلَّم إلى مفتشين جاؤوها بطرق ملتوية، ويفتقرون إلى الجدارة والاستحقاق.

في تاريخ تعليمنا، كانت مدارس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تجري دورتين لامتحانات نهاية الأطوار التعليمية. وكانت الدورة الأولى تجري في نهاية الموسم الدراسي، وتتبع بدورة أخرى في مطلع شهر سبتمبر حتى ترفع من نسبة الناجحين. ولم تكن تفرِّق بين من حالفه الحظ ونجح في الدورة الأولى ومن نجح متأخرا في الدورة الثانية؛ لأن أخلاق المربين في هذه المدارس كانت عالية، ولا تنزل إلى حضيض رذيلة تعيير متعلميهم حفظا لكرامتهم. وفي عهد قريب، كان إجراء الإنقاذ المعتمد على دراسة البطاقة التركيبية الذي قد يصل إلى الانطلاق من تسع علامات، كان إجراءً معمولا به، ولم يكن عرضة للنقد الحاد الذي رأيناه هذه المرة. ومن المعروف في منحنيات متابعة ودراسة نتائج المتعلمين في كل أنواع الامتحانات المدرسية والرسمية أن الكتلة الأكثر ضخامة هي كتلة المتعلمين المتحصلين على علامات واقعة في المجال الممتدّ من ثماني علامات إلى عشر علامات، وهي الكتلة المتضررة باعتبار أنها قريبة من عتبة الصعود. ومن بين الدوافع التي شجعت المربين على تبني المقاربة التدريسية بالكفاءات هو تحسينها لنسبة النجاح في مختلف الامتحانات. ومنذ سنوات قليلة، أطلعت على دراسة أجريت في الشقيقة تونس أظهرت أن الإضافة في حصائل نتائج المتعلمين قد تصل إلى ثلاث علامات كاملة لما تُبنى الأسئلة على أساس تقويم الكفاءات.

بمعنى أن طبقة كبيرة من المتعلمين ستكون مشمولة في قرار النجاح من دون إنقاذ أو دفع. ولو عمدنا إلى بناء اختبارات المواد المدرَجة في الامتحانات الرسمية على أساس تقويم الكفاءات المسطرة في المنهاج لتوصلنا إلى رفع النتائج المحصلة في كل الامتحانات بما في ذلك امتحان الباكالوريا. ولا أجد، من جانبي، ضيرا إن بلغت ثمانين بالمائة. واعتقد أن هذا هو المخرج السليم الذي ينبغي أن تعمل به وزارة التربية لاحقا، وأن تشتغل على منظوره طبقات المفتشين في مختلف الأطوار بدل أن تتلهى برفع الأصوات الناشزة للطعن في قرارات وزارية تُسنُّ لصالح المتعلمين.

لا أجد عيبا في قرار الإنقاذ غير المشروط الذي أقرَّته وزارة التربية الوطنية استثناءً إلا من حيث نظرة المساواة ذات الطابع الشمولي بين كل الشُّعب. واعتقد أن متعلمي الشعب الأدبية قد هُضمت حقوقهم قليلا فيما يخص التمتع بمزية هذا القرار كبقية زملائهم في الشعب الأخرى؛ لأن هناك فرقا بين من يقوَّم تقويما بالغا من خلال إنتاجاته الخاصة التي يعرضها انطلاقا من نظرته الذاتية ويحكم عليها من طرف من يملك منذ الوهلة الأولى نظرة مغايرة لا يسمح لنفسه التنازل عليها، كما في مادة الفلسفة، ومن يقوَّم من خلال صب مسترجعات مخزنة ومحفوظة في ذهنه على الورقة. وهذا ما سنعود إليه بالتفصيل في سانحة أخرى.

مقالات ذات صلة