الرأي

الجانب الإنساني في سيرة الأسقف هنري تيسي

محمد بوالروايح
  • 668
  • 5
الأرشيف

الأسقف هنري تيسي، نختلف معه عقديا وفكريا ولكننا نلتقي معه إنسانيا، فالإنسانية ليست مذهبا عقديا ولا مشربا فكريا، إنها المشترك الذي يجمعنا على اختلاف عقائدنا وأفكارنا في بوتقة واحدة ولغاية جامعة هي سعادة الإنسان. لستُ من جيل هنري تيسي ولا من أقرانه، ولكنني عرفته منذ مدة حاضرا ومحاضرا في الندوات العلمية التي تنظم داخل وخارج الجزائر، وقد كان من رواد جامعة الأمير عبد القادر، وشرِّفت بحكم المنصب الذي كنت أشغله نائبا لمدير الجامعة للعلاقات الخارجية والتعاون بدعوته مع لفيف من الأساتذة المسيحيين لحضور الفعاليات العلمية التي تهتم بقضايا الأديان والإنسان، فكان لا يتردد في تلبية الدعوة.

من الطبيعي أن يناضل الرجل بحكم عقيدته المسيحية لخدمة رسالة الكنيسة التي ينتمي إليها، ولكنه لم يُعرف عنه أنه اتخذ من هذه الخدمة الكنسية مطية للتحامل على الآخر من أجل تحقيق مكاسب دينية بوسائل دنيئة، ولم يُعرف عنه أنه دخل في جدال عقيم حول قضية عقدية أو انساق وراء فكرة شيْطَنة كل ما هو غير مسيحي، ولم يُعرف عنه أنه دخل في خصام مع أي كان من أتباع الأديان بل كان –وما شهدنا إلا بما علمنا- نموذجا للعقل المسيحي الناضج الذي يناقش ولا يشاكس ويحاور ولا يناور.

هنري تيسي رجل دين فرانكوجزائري، ولكنه لم يجار الفرانكفونية في تزمُّتها وتنابزها. لقد كان محبا للعربية، فصيحا بها لا يُشق له غبار، يتكلم بها بطلاقة أفضل بكثير من بعض أهلها وحملة لوائها. هو فرنسي المولد، ولكنه جزائري الهوى حتى قبل أن يحصل على الجنسية الجزائرية في منتصف الستينيات، إذ عُرف بدفاعه المستميت عن استقلال الجزائر، كما عُرف بشخصيته المتزنة الهادئة حتى في الظروف الحرجة، فبعد حادثة مقتل رهبان دير تبحرين، أبدى هنري تيسي تعاونه مع السلطات لكشف الجناة، ودعا المسيحيين الغاضبين إلى ضرورة الفصل بين الفكر التدميري والفكر التنويري الإسلامي.

من لطائف الأسقف تيسي أنه بعد حادثة دير تبحرين، ظل مدافعا عن قيم التعايش والإخاء الإنساني، وقد تجلى هذا الموقف في الكتاب الذي كتبه مناصفة مع ميناسيان ماري دومينيك “تبحرين: الأخوَّة حتى النهاية”. لم يتهم تيسي الجزائر والجزائريين بتدبير اغتيال رهبان تبحرين لأنه يعلم أن المسيحيين وغيرهم قد عاشوا في الجزائر سنوات طويلة آمنين على أنفسهم وأملاكهم وكنائسهم وقد كانت قيادة الثورة التحريرية توصي الثوار والفدائيين الجزائريين بعدم التعرُّض لدور العبادة بما فيها المسيحية.

تتميز كتب تيسي بمسحة إنسانية، فهو يولي المشترَك الإنساني أهمية قصوى ويحث المسيحيين والمسلمين على العمل بمقتضاه من أجل الحفاظ، كما يقول، على البيت الإبراهيمي الذي يجمعهم، إذ لا معنى للإبراهيمية في ظل هدم الروابط الإنسانية، وتوافق فكرته هذه دعوة القرآن الكريم المجتمع الإنساني إلى التعارف “يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم”. ليس في كتب تيسي التي قرأتُها تحريضٌ على الإسلام، ومنها: “الكنيسة في الإسلام” و”رسالة الكنيسة” و”تاريخ مسيحيي شمال إفريقيا” و”رسائل الجزائر” و”مسيحيو الجزائر: مشاركة الأمل”.

تبرأ تيسي في أكثر من لقاء وحوار من العمل التبشيري الذي تقوم به الكنائس البروتستانتية، وأكد أن الكنيسة الكاثوليكية قد تضررت، وأن صورتها لدى الرأي العام الجزائري قد اهتزت بسبب ما تقوم به هذه الكنائس. لقد نال تيسي احترام الجزائريين أو نسبة كبيرة منهم على الأقل الذين يجمعون على أن مشكلتهم ليست مع الكنائس المسيحية التي  تمارس الطقوس الدينية في ظل احترام القوانين والتشريعات المعمول بها بل مع الكنائس التنصيرية التي  تتجاوز الدعاية الدينية إلى محاربة عقيدة ومرجعية الأمة، وتعتمد على أساليب الإغراء والإغواء لتنصير الجزائريين وإدخالهم في المسيحية حتى وهم لها كارهون.

يمثل هنري تيسي صنفا من الشخصيات الدينية التي فضلت أسلوب الحوار والتعاون مع الآخر في إطار عناصر التوافق المتاحة وداخل فضاء الإنسانية الرحبة، وهو ما جعله قريبا من المؤسسات والهيئات الإسلامية على خلاف بعض الشخصيات الدينية المسيحية التي فضلت أسلوب المناورة فبقيت منبوذة مغضوبا عليها حتى من داخل البيت الكنسي. توفي تيسي فحفظت له كثيرٌ من المكونات الدينية والثقافية في الجزائر جميل صنيعه وجليل مواقفه، ونعاه المجلس الإسلامي الأعلى بأنه كان مثالا لقيم التسامح والحوار والتعايش.

نحن أمَّة تؤمن بثقافة التسامح مع الآخر، ولذلك ليس من الغريب أن يصرِّح تيسي ويبوح بعظيم توقيره وتقديره لهذه الأمة وللأمير عبد القادر بسبب القيم الإنسانية التي ناضل من أجلها. لقد مُنح تيسي جائزة الأمير عبد القادر للسلام سنة 2018 بمناسبة الاحتفال بالذكرى 186 لمبايعة الأمير لأنه كان من محبي أفكاره وهو يعدّه  من أوائل من أسسوا وكرسوا ثقافة الحوار بين الحضارات في زمن الصراعات والعداوات المستحكَمة.

هنري تيسي مع المطران عطا الله حنا وآخرين، من الشخصيات المسيحية التي أكبر فيها مواقفها المنصفة، فالكنيسة الكاثوليكية في الجزائر أحوج ما تكون بعد رحيل تيسي إلى شخصية مسيحية مرنة ومتزنة تجلب لها احترام الآخرين على نقيض من كرسوا  ثقافة العداء والجفاء فانتهوا غير مأسوف عليهم، يُلعنون على كل لسان ويُشهَّر بهم في كل ميدان.

كان تيسي من أقطاب الحوار الإسلامي المسيحي الذي يريده حوارا مبنيا على ثقافة الاحترام وليس على ثقافة الاتهام، ومن توجيهاته في هذا المجال أنه لا فائدة من هذا الحوار إلا إذا حقق خمسة أهداف: أولها أن تكون الغاية من الحوار بناء المشترَك الإنساني، وثانيها أن تتولاه نخبةٌ لامعة، عارفة بشؤون الحوار لا جماعة إمَّعة لا تفقه رسالتها ولا تعي دورها، وثالثها أن تستعيد العلاقات المسيحية الإسلامية عن طريق الحوار قوَّتها التي كانت عليها، ورابعها أن يحرص المسيحيون والمسلمون على تشكيل تحالف إسلامي مسيحي مناهض لثقافة الكراهية، وخامسها أن يوقع المسيحيون والمسلمون ميثاق شرف يقضي باحترام ثقافة الآخر وديانته.

اعترف تيسي بأن الأقلية المسيحية التي تشكل جزءا من النسيج المجتمعي في الجزائر لا تعاني أي شكل من أشكال التضييق، وبأنها تؤدي طقوسها الدينية في كامل الحرية، مفندا بذلك الادِّعاءات الكاذبة بحملةٍ جزائرية منظمة تستهدف التضييق على المسيحيين، وفي هذا الصدد، يعود هنري تيسي بتاريخ التعايش السلمي بين الإسلام والمسيحية إلى تاريخ اتفاقية تحرير الأسرى الموقعة بين الأمير عبد القادر والأسقف “دوبيش” ويؤكد بأن هذه الاتفاقية لا تزال صالحة وقائمة إلى الآن، وقد دُعمت بصدور قانون ممارسة الشعائر الدينية لغير المسيحيين سنة 2006 الذي يثمِّنه تيسي على خلاف من انتقده وعدَّه مظهرا آخر من مظاهر التضييق على المسيحيين في الجزائر.

مقالات ذات صلة