-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائر‮ ‬والصديق‮ ‬العدو‮ ‬

الجزائر‮ ‬والصديق‮ ‬العدو‮ ‬

من العنوان تعرف الأشياء، وعنوان كتاب الأستاذ خليفة بن قرعة هو (الجزائر والصديق العدو). وكان الذهن سينصرف إلى أصدقاء / أعداء عديدين لولا أنه أوضح مقصوده بعنوان فرعي هو: آراء في العلاقات الجزائرية الفرنسية. وهنا يقفز إلى الذهن سؤال وهو كيف أصبحت فرنسا الصديق للجزائر أو بالأحرى متى كانت صديقة لها، وهي ما هي منذ احتلت أرضنا بالقوة وحاربت مقاومتنا لها بالبطش ونفت قادتنا خارج وطنهم، وقد ختمت فصولها معنا بتفجير القنابل النووية على أرضنا فسممت هواءنا ولوّثت بيئتنا وقتلت وشوهت مواطنينا. إنها هي التي جعلت من نفسها عدوة‮ ‬كما‮ ‬تفعل‮ ‬أمريكا‮ ‬اليوم،‮ ‬وهي‮ ‬تستغفل‮ ‬العالم‮ ‬وتقول‮: ‬لماذا‮ ‬يكرهوننا؟

  • ‮ ‬
    هناك ربما سببان حوّلا فرنسا من عدو إلى صديق: أولهما حزب فرنسا، وثانيهما اتفاقيات إفيان، أما حزب فرنسا فقد كان وما يزال نشيطا ويمكن القول إن »الدولة دولته« تطبيقا لمثلنا القائل: »الأيام دول«. لقد ظهر هذا الحزب في الواقع منذ بدأت فرنسا تخطط لغزو الجزائر. فقد كانت عندئذ تعتمد على دعم بعض العناصر الجزائرية، ولكنها قليلة. وكلما بسطت فرنسا نفوذها على أرضنا بسطته بأنصار منا صنعتهم بالمال والتمكين السلطوي والتكوين الثقافي. وبذلك أصبح في الجزائر حزب أو كتلة ربطت مصيرها بمصير فرنسا، عند الهدوء والسكينة أو عند الاضطراب‮ ‬والثورة‮. ‬وليس‮ ‬هناك‮ ‬سر‮ ‬بين‮ ‬الفريقين‮: ‬ففرنسا‮ ‬تعرف‮ ‬أنصارها‮ ‬وهؤلاء‮ ‬يعرفون‮ ‬حليفتهم‮ ‬وراعيتهم‮. ‬
    كتب قادة فرنسا وباحثوها عن أنصارهم منا ونوّهوا بهم في كتب مطبوعة ومنشورة بالصور والبيانات مثل (أعيان المغاربة) و(الكتاب الذهبي). كما كتب الأنصار عن أنفسهم معترفين بالجميل للسيدة التي رفعت من شأنهم وحكمتهم في رقاب إخوانهم سواء كانوا من قادة الأعراش والخيام الكبيرة‮ ‬أو‮ ‬كانوا‮ ‬من‮ ‬خريجي‮ »‬مدرسة‮ ‬المهمة‮ ‬الحضارية‮«‬،‮ ‬أو‮ ‬من‮ ‬أصبحوا‮ ‬مديرين‮ ‬ووزراء‮ ‬وسفراء‮ ‬في‮ ‬عهد‮ ‬الاستقلال‮ ‬الذي‮ ‬لا‮ ‬يكادون‮ ‬يعترفون‮ ‬به‮ ‬إلا‮ ‬بقدر‮ ‬ما‮ ‬تعترف‮ ‬به‮ ‬فرنسا‮ ‬وتنص‮ ‬عليه‮ ‬اتفاقيات‮ ‬إيفيان‮. ‬
    في آخر عهد الثورة ظهر فريق انهزامي أصبح يردد أن الثورة قد ضعفت وأنه لا بد من التفاوض على إنهاء الحرب وعدم التمسك بحرفية بيان فاتح نوفمبر، وأن قادة »الداخل« لا يكادون يعترفون ببعضهم، وأن الولايات أصبحت شبه مستقلة عن بعضها، وأن الشعب قد ملّ الحرب ولم يعد قادرا على معاناة الجوع والتشرد، وأنه لن يكون هناك انتصار عسكري مهما طالت الحرب. فالأولى بالقادة أن يبحثوا عن مخرج يحفظ ماء الوجه ويحقق الحد الأدنى من شروط بيان أول نوفمبر. وقد بلغت أصداء هذا الرأي إلى »الخارج« فالتقطها وأخذ يروّج لها في الاجتماعات الخاصة والجلسات‮ ‬المغلقة،‮ ‬وعندما‮ ‬تقوت‮ ‬الفكرة‮ ‬أصبح‮ ‬دعاتها‮ ‬يتجرؤون‮ ‬على‭ ‬إشاعتها‮ ‬بين‮ ‬الأفراد‮ ‬والجماعات‮. ‬
    وقد تهيأ لتلك الفكرة الجو أثناء مفاوضات إيفيان، فكان سقف الشروط ينخفض والعد التنازلي يزداد سرعة، حتى أصبح الفرنسيون هم الذين يقدمون الأفكار والصياغات ونحن نبصم ونوقع. لذلك ولدت اتفاقيات إيفيان مشوهة وتعددت نسخها، فمنها ما أعلن وأذيع ومنها ما احتفظ به سرا، وتنازل الوفد عن أحدث ثوابت الحركة الوطنية والثورة وهو اللغة الوطنية فكتبت الاتفاقيات بلغة المستعمر وحدها، رغم الحديث العريض عن السيادة. هذا لا يعني أن الجميع كانوا فقط يبصمون بالعشرة فقد بذل بعض أعضاء الوفد جهدهم حتى لا يحدث للجزائر ما حدث لاتفاقية الداي حسين‮ ‬مع‮ ‬ديبورمون،‮ ‬وهي‮ ‬الاتفاقية‮ ‬التي‮ ‬قال‮ ‬عنها‮ ‬الماريشال‮ ‬كلوزيل‮ ‬لحمدان‮ ‬خوجة‮ ‬بعد‮ ‬شهرين‮ ‬من‮ ‬الاحتلال‮ ‬بأنها‮ ‬مجرد‮ »‬لعبة‮ ‬حرب‮«. ‬
    ونحن نشهد اليوم، بل منذ الاستقلال، تذويب الجليد بين الجزائر وفرنسا. فالزعماء، منا ومنهم ينصحوننا بطي صفحة الماضي والتوجه نحو المستقبل، وهم يربطون عنق الجزائر أكثر فأكثر بحبل فرنسا، حتى أصبح هم ونحن نفاخر بحرارة العلاقات بين البلدين في جميع الميادين، ومن مظاهر‮ ‬ذلك‮ ‬هذا‮ ‬التنازل‮ ‬المشين‮ ‬عن‮ ‬مؤسساتنا‮ ‬وثوابتنا‮ ‬لصالح‮ ‬المؤسسات‮ ‬والثوابت‮ ‬الفرنسية‮. ‬
    ومن مظاهر التنازل اختفاء الاحتفال بأعيادنا الوطنية، والاكتفاء منها بما لا يجرح شعور فرنسا ولا يمس كبرياء جيشها ومؤسساتها السيادية. فالأناشيد الحماسية لم يعد لها شعراء ولا منشدون، ولا جمهور ولا ملحنون، والاستعراضات العسكرية اختفت من الميادين والطرقات، والخطب التي تلامس الشموخ وتفخر بالجبال والشباب والإنجازات والهوية كلها قد وضعت في الأرضيف، وحلت محلها أشياء رمزية كوضع إكليل من الزهور وقراءة الفاتحة عند نار الجندي المجهول، تماما كما تفعل نساء العاصمة حين يزرن أقاربهن في المقابر أيام الأعياد.
    لو طبقت فلسفة (فرويد) على قادتنا لاكتشف علماء النفس أن أغلبهم تكوّن في مدرسة إيفيان السرية، ولو أزيحت الأقنعة عن الوجوه لوجد الباحثون أن جلهم من »الأعيان« القدماء و»الحراس« الأوفياء الذين رشحتهم فرنسا وباركت أفكارهم وخطواتهم. حتى انقلاباتنا وقضايا أمننا نقوم‮ ‬بها‮ ‬بالتنسيق‮ ‬مع‮ ‬الفرنسيين‮. ‬وهكذا‮ ‬فنحن‮ ‬مستقلون‮ ‬في‮ ‬الظاهر‮ ‬ومستعمرون‮ ‬في‮ ‬الباطن،‮ ‬حسب‮ ‬مفهوم‮ ‬اتفاقيات‮ ‬إيفيان‮. ‬
    في هذا الإطار تجاوز التقارب مع فرنسا المصالح الآنية إلى المصالح الاستراتيجية، ومنها الدخول في المنظمة الفرنكفونية، وحضور لقاء الإتحاد من أجل المتوسط، وربما الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تحت المظلة الفرنسية. وقد تعلمنا الدرس من كبرائنا وقادتنا، يبدأ بالغزل السياسي ويمر بمرحلة التمتع بالحديث والنظر في الوجوه، ثم تأتي مرحلة الركوع عند أقدام آلهة الفن والجمال والنور. وأثناء ذلك يمهد حزب فرنسا بتصريحات وتلويحات مفادها أن سياسة الكرسي الشاغر غير مجدية، وأن المشاركة يفرضها العصر والعلاقات بين الدول المتجاورة، ونحو‮ ‬ذلك‮ ‬من‮ ‬عبارات‮ ‬التخفيف‮ ‬من‮ ‬عنصر‮ ‬المفاجأة‮ ‬أو‮ ‬الصدمة‮ ‬حين‮ ‬تتم‮ ‬عملية‮ ‬الركوع‮ ‬والارتماء‮ ‬في‮ ‬الأحضان‮ ‬بدون‮ ‬ضجة‮ ‬ولا‮ ‬فضيحة‮.‬
    كتاب خليفة بن قرعة يتناول مثل هذه الموضوعات، والعنوان الفرعي للكتاب يتحدث كما قلنا عن العلاقات بين الطرفين، وهو لا يذهب بعيدا في تاريخ هذه العلاقات فهو لا يتناول المائة والثلاثين سنة من القمع والحرمان، وإنما يظهر في كتابه كأنه يحرر يوميات منذ خرج للحياة، فالبداية كانت أعقاب الثورة، من رقان وقصة اليرابيع إلى إثارة مسألة تمجيد الاستعمار وما حدث حولها من نقاشات وردود أفعال، مرورا بفترة حكم الرئيس الفرنسي السابق، ومسألة الحركى. يمكن للمرء أن يلاحظ أن الخط المشترك في هذه العلاقات هو التناقض، فمن ناحية تريد الجزائر‮ ‬إثبات‮ ‬هويتها‮ ‬ومن‮ ‬ناحية‮ ‬أخرى‮ ‬تواجه‮ ‬ضربات‮ ‬موجعة‮ ‬من‮ ‬فرنسا‮ ‬لا‮ ‬يهون‮ ‬منها‮ ‬سوى‮ ‬حزب‮ ‬فرنسا‮ ‬الذي‮ ‬يريد‮ ‬للجزائر‮ ‬أن‮ ‬تمتص‮ ‬دائما‮ ‬غضبها‮ ‬وتخدر‮ ‬إحساسها‮ ‬و‮»‬تبتلع‮ ‬السكين‮ ‬بدمها،‮ ‬كما‮ ‬يقول‮ ‬المثل‮«. ‬
    يضم كتاب الأستاذ ابن قرعة 27 مقالة متشابهة في الطول والموضوع، وهي مقالات كتبت بلغة صحفية ناصعة وبأسلوب واضح، والمؤلف هو نفسه صحفي متمرس، يعرف متى يتعجب وأين يستفهم، ومتى يخفف من حكمه وأين يضرب ضربته القاضية.
    وهو‮ ‬يجد‮ ‬في‮ ‬أحداث‮ ‬التاريخ‮ ‬الحديث‮ ‬والسياسة‮ ‬المعاصرة‮ ‬ما‮ ‬يساعده‮ ‬على‮ ‬ذلك،‮ ‬فقد‮ ‬أعطته‮ ‬سياسة‮ ‬فرنسا‮ ‬منذ‮ ‬الخمسينيات‮ ‬الذخيرة‮ ‬الحية،‮ ‬وأعطته‮ ‬أيضا‮ ‬مواقف‮ ‬أنصارها‮ ‬عود‮ ‬الثقاب‮ ‬ليقدح‮ ‬ويفجر‮. ‬
    ولكنه كان رفيقا بسياسة بلاده التي كان عليه أن يستعمل لها أيضا سيف الحجاج إذا اقتضى الأمر. ذلك أنه لولا هذه السياسة العرجاء المتكئة على عصا »راشية« لما مررت فرنسا مشاريعها في الجزائر وعلى مرمى ومسمع من أهلها فاقدي الإحساس والمسؤولية، وكأنهم نفضوا أيديهم من حماية‮ ‬مستقبل‮ ‬أبنائهم‮ ‬وبلادهم‮. ‬لقد‮ ‬انطلقت‮ ‬مقالات‮ ‬ابن‮ ‬قرعة‮ ‬منذ‮ ‬نهاية‮ ‬1999‮. ‬
    انطلقت المقالات من الدفاع عن الدولة الجزائرية »قبل« الاحتلال، وهي أطروحة عزيزة على بعض الجزائريين الذين يرون أن بلادهم كانت »مستقلة« وأن دولتهم كانت قائمة بكل مقاييس الدولة، وأن ثورة فاتح نوفمبر لم تزد على أن استرجعت ذلك الاستقلال من مغتصبيه. ثم يأتي دور مقاومة الاحتلال التي أبداها الجزائريون ليثبتوا للمحتل أنهم يدافعون عن »وطنهم« وعن دينهم الذي يمثل قمة ثقافتهم، وعن حريمهم الذي انتهكت حرماته ومقدساته. ثم تأتي مرحلة اليأس من التفاهم أو التعايش مع المحتل، وهي المرحلة الممتدة من الثامن مايو (1945) إلى فاتح نوفمبر (1954). أي عهد الحكام شاطينو ونيجلان وليونار. أما من المرحلة الأخيرة إلى شهر يوليو 1962 فهو عهد يمثل تتويج المقاومة وقمة اليأس من »العدو« أو من عدل فرنسا، كما تساءل ابن باديس. والنقطة التي عالج فيها ابن قرعة العلاقة في نطاق الولاء للوطن والعداء للعدو،‮ ‬دون‮ ‬توقف‮ ‬أو‮ ‬تساؤل،‮ ‬هي‮ ‬المرحلة‮ ‬الأخيرة‮. ‬
    والحق‮ ‬أن‮ ‬الجزائر‮ ‬مسؤولة‮ ‬أيضا‮ ‬على‮ ‬تمكين‮ ‬العدو‮ ‬من‮ ‬نفسها‮ ‬ومن‮ ‬مقدراتها،‮ ‬وهي‮ ‬التي‮ ‬لم‮ ‬تطبق‮ ‬مقولة‮ ‬امرئ‮ ‬القيس‮ ‬لصاحبته‮: ‬
    أفاطم‮ ‬مهلا‮ ‬بعض‮ ‬هذا‮ ‬التدلل 
      وإن‮ ‬كنت‮ ‬قد‮ ‬أزمعت‮ ‬صرمي‮ ‬فأجملي‮ ‬
    أو‮ ‬قوله‮ ‬لها‮ ‬بكل‮ ‬صراحة‮:‬
    فسلّي‮ ‬ثيابي‮ ‬من‮ ‬ثيابك‮ ‬تنسل‮ ‬
    وإنما‮ ‬طبقت‮ ‬الجزائر‮ ‬على‮ ‬فرنسا‮ ‬مقولة‮ ‬الشاعر‮ ‬الآخر‮:‬
    فإن‮ ‬كنت‮ ‬مقتولا‮ ‬فكن‮ ‬خير‮ ‬قاتل
    وإلا‮ ‬فأدركني‮ ‬ولما‮ ‬أمزق‮ ‬
    وهكذا‮ ‬جعلت‮ ‬الجزائر‮ ‬عدوها‮ (‬إن‮ ‬كانت‮ ‬تعترف‮ ‬أنه‮ ‬هو‮ ‬العدو‮) ‬خير‮ ‬الآكلين‮ ‬لها،‮ ‬ورمت‮ ‬بنفسها‮ ‬في‮ ‬أحضان‮ ‬اللبؤة‮ ‬التي‮ ‬لم‮ ‬تشبع‮ ‬من‮ ‬لحمها‮ ‬ودمها‮ ‬خلال‮ ‬مائة‮ ‬وثلاثين‮ ‬سنة،‮ ‬فكيف‮ ‬تشبع‮ ‬اليوم؟‮ ‬
    ومهما يكن من شيء فإن خليفة بن قرعة ثمرة من ثمرات الحركة الوطنية والثقافية العربية الإسلامية في الجزائر، ومن حقه أن يدافع بأسلوبه عن وطنه وجيله الذي ورث مسؤولية ضخمة ليس كل من هو في سنه يقدرها حق قدرها. ولا يستطيع الجيل الحاضر والذي بعد إدراك معنى الاحتلال والمقاومة‮ ‬والثورة‮ ‬إلا‮ ‬بالرجوع‮ ‬إلى‮ ‬تاريخ‮ ‬الجزائر‮ ‬الأقدم‮ ‬من‮ ‬سنتي‮ ‬1830‮ ‬و‮ ‬1954،‮ ‬ففي‮ ‬ذلك‮ ‬التاريخ‮ ‬الجواب‮ ‬الشافي‮ ‬وفصل‮ ‬الخطاب‮. ‬

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!