الرأي

الجزائر بين شهر الحصاد وشهر الإيجاد

عبد الرزاق قسوم
  • 770
  • 2

تصبب الجبين ماء من شدة العرق، وتعددت أخاديد الوجه من طول الأرق، وأصاب الأولياء كثير من الاضطراب والقلق، وما ذلك إلا إيذانا، بحلول شهر الحصاد في الأفق.
فشهر يونيو من كل عام، هو دون الشهور موعد الحصاد، لكل أنواع الجهد والجهاد، ففيه تدور آلات الفلاحين لجني الغلل والثمار، وتبيض وجوه وتسود وجوه الكبار والصغار، فتعلو الزغاريد من النسوة في الديار، ويصاب البعض بالانكسار، والبعض الآخر باليأس والانتحار.
وفي خضم هذه المشاعر الممزوجة بالانتصار والانكسار، تعلقت الأبصار بالشاشات التلفزيونية – هذه السنة – بمناسبة كأس العالم، فكان حصاد الأقدام، حيث تقدمت فرق بلدان إلى الأمام وتقهقرت فرق أخرى، كالفرق العربية والإسلامية، لتصنف ضمن قائمة الأقزام. ويذكرني هذا بقول الشاعر العراقي جميل صدقي الزهاوي في قصيدته:
وللغرب أعوام وللشرق مثلها
ولكنها الأعوام في الشرق تسئم
ففي الغرب أفراح وفي الشرق غمة
وما الأرض إلا جنة وجهنم
شقيقان هذا ليل أبنائه بهم
مضيء، وهذا يوم أهليه مظلم
وتختلف الأيام إلا أقلها
ويختلف التفكير، والعرق والدم
لقد عشنا، في جزائرنا الحبيبة هذه اللحظات الممزوجة بالأفراح والأتراح، فبينما الزغاريد تتعالى هنا وهناك في كل بيوت وطننا، وتقام الاحتفالات تتويجا لحفظة القرآن الكريم، واحتفاء بالفائزين في ميادين العلم والعرفان، جاءت كارثة ما أصبح يعرف عندنا بـ”كارثة كمال البوشي”، صاحب الأطنان من “الكوكايين”، وما أفرزته هذه الكارثة الوطنية من مآسي وأحزان.
فبلادنا الآمنة المستقرة، التي توحي -ظاهريا- بالأمن والأمان والاطمئنان، أصابتها كارثة “البوشي”، التي جاءت لتنغص على الجميع فرحتهم، وتوقع البلد في نوع من الغليان، أظهر ما كان خافيا، من صراع الأسماك والحيتان، تجاوز في خطورته، الأودية المحلية والشطئآن، ليشمل بحار ومحيطات البلدان والأوطان.
فأي حصاد مسموم قاتل – هذا الذي أفرزه البحر الأبيض المتوسط- الذي كنا نظن أنه بحيرة سلام واستحمام، واستجمام قبل أن يتحوّل إلى رحلة قاتلة للمغامرين من الشباب المبحرين نحو المجهول، يطاردهم اليأس والبؤس، والظلم والشؤم في بلدانهم، فتضاف إلى هذه المأساة، مأساة أخرى هي جلب السموم القاتلة، الملوثة لزرقة البحر ورمزية الطهر؟
ويذكرني صفاء البحر واضطرابه، بوصف إيليا أبي ماضي – الشاعر اللبناني- في رائعته “الطلاسم”، والتي يخاطب فيها البحر بقوله:
يرقص الموج وفي قاعك حرب لن تزولا
تخلق الأسماك، لكن تخلق الحوت الأكولا
ما الذي الأمواج قالت، حين ثارت؟
لست أدري…!

هذه -إذن- هي قصتنا مع شهر يونيو، شهر الأرق والعرق، والقلق على أكثر من صعيد.
فكيف سيكون حالنا، مع شهر يوليو وهو شهر الإيجاد والإنجاز في البلاد، حيث تستعد بلادنا فيه، لتخليد ذكرى الجهاد والاستشهاد، في الخامس من يوليو يوم الفرحة الوطنية، بتحقيق النصر، وتجديد العزم على مقاومة كل أنواع القهر، إيذانا بطلوع الفجر.
فقد ظللنا نمني النفس، بأن الغد الأفضل قادم حيث، يتراءى لنا – في عيد الشباب -أجيال صاعدة، تشق طريقها من خلال الجامع والجامعة، والملعب والمكسب- لتحقيق النهوض الحضاري المأمول، والقضاء على التخلف الشمولي المرذول.
وكيف يمكن التوفيق بين طموح الجيل الجديد المشروع، ومنغصات الجيل الفاسد، وما يعيشه من إفساد في الربوع؟
أي تبرير يمكن أن يقدمه جيل الهزائم الاقتصادية والثقافية والاجتماعية وحتى السياسية، لما يأتيه من فضائح لم تعد تستثنى منها كل الشرائع؟
فالتدهور الاقتصادي الذي تعانيه بلادنا بسبب انهيار الأسعار وتزايد جشع المفسدين المتواطئين مع الاستعمار، وخونة الديار، والنكسة الثقافية التي تعيشها ثقافتنا العربية الإسلامية، بسبب تنكر أبنائها لها، وخذلانها لانتشارها وإشعاعها، إلى الحد الذي جعل أساتذة اللغة العربية في كلية العلوم الإسلامية بباريس، الأستاذة نجمة، وهي المغتربة بفرنسا تقول: “أن اللغة العربية تعيش مأساة هجرانها والقضاء عليها من أبنائها في ديارها، والأمل معقود على جيل المغتربين كي يعيد إلى اللغة العربية، ما فقدته في ديارها الأصلية”.
فهل هناك لعنة أسوأ من هذه، أن تموت اللغة العربية في ديارها، وبين أبنائها، بسبب المنظومة التربوية الجائرة، والقوانين التنفيذية القاهرة، وخذلان الطبقة الثقافية الوطنية الخائرة؟
ولا تسألني عن التمزق الاجتماعي، والتدهور الأخلاقي، الذي صار ينخر جسم أمتنا، مما ينذر بأن العدو المتربص بنا قد يكسب رهانه الشيطاني، للإيقاع بنا، وإفساد استقرارنا، والانتقام من صمودنا وانتصارنا.
إننا – ونحن نعيش شهر الحصاد بما يحمله من أفراح وأتراح، وشهر الإنجاز بما يحتويه من تطلعات وتمنيات – لا نملك إلا أن نرفع أكفنا إلى السماء، أن يكفكف الله دموعنا، ويمنّ بالوعي العميق على جموعنا، وأن يجنبنا محنة السلب بعد العطاء، ومحنة القحط بعد النماء.
إنّ الذين جاهدوا، واستشهدوا من أجل تحقيق الاستقلال، يتميزون بالعفاف والطهارة، والصدق والشجاعة والمهارة، فعسى أن ينجينا الله تعالى، ثم بفضل تضحياتهم، البلاء والخسارة، والذلة والحقارة، (وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ) “سورة إبراهيم، الآية: 20”.

مقالات ذات صلة