-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجزائر تحترق.. من المسؤول؟

الجزائر تحترق.. من المسؤول؟

بدأت الجزائر بالاحتراق منذ يوم 14/جوان/1830م المشؤوم عندما حاصرها أسطول الاحتلال الفرنسي المكوَّن من ثلاثة آلاف سفينة وعلى متنه قرابة أربعين ألفا من أعتى وأشرس الجنود التي أعدتها أقذر الإمبراطوريات الاستعمارية في العالم.. من نوعية المتعطشين للتخريب والحرق وللدماء وللقتل والتدمير والإحراق.. وبالفعل احترقت الجزائر يوم 05/07/1830م عندما سلمها المهزوم الداي حسين (ت 1937م) للقائد الدموي الفرنسي الكونت دو بورمون بقضِّها وقضيضها ومالها وزردها ومتاعها وخيراتها وقصورها ونضيدها، كما سلم المهزوم من قبله بقرون (أبو عبد الله الصغير) مفاتيح غرناطة للملكين الكاثوليكيين (فرديناند وإيزابيلا).. ومن يومها والجزائر تحترق لهيبا.. تحترق الحريقين المادي والمعنوي والروحي.. وللأسف الشديد فقد ظلت تحترق في قبضة الاستعمار طيلة قرن وثلث القرن حتى سنة 1962م..

وجاءت الثورة التحريرية التي سرعان ما أحرق ثوارها بعضهم بعضا، ففي ليلة أثيمة كما تنقل الكتب والمصادر والوثائق والمذكرات.. جاء قائدٌ ثوري من الدرجة الثانية إلى الأوراس سنة 1956م وأعدم في ليلة واحدة 1206 مجاهد من الرعيل الأول بحجة “عدم الانصياع لمقررات مؤتمر الصومام”.. ثم صفى الثوار بعضهم سنة 1957م وسنة 1958م في محاكم ثورية آثمة ذهب ضحيتها الأشراف المخلصون من ثوار الجزائر الصادقين، ثم أقصى بعضهم بعضا سنوات 1959..1963م..

ثم جاء الاستقلال الذي كنا ننتظر أنه سينهي عهد الاحتراق وإلى الأبد.. ولكن الاحتراق استمر وزاد ضراوة واشتعالا.. وعمل الكل –عدا القلة الوطنية الشريفة- بأنانيته وجهله وحسده وأثرته وطمعه ولؤمه وغيرته وأسقام نفسه المريضة وهوسه المرضي بالسلطة.. على حرق الجزائر بطريقته.. وهو يعتقد أنه يبنيها ويُعلي من شأنها بطريقته.. محققين فيهم قول الله تعالى في الفاشلين المغرورين.. (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا* أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا) (الكهف: 98 و 99)..

والغريب في الأمر أن جل الجزائريين لم يكونوا يحسون بأن بلدهم الجميل يحترق ويتألم ويتآكل ببطء شيئا فشيئا.. وهم ومن معهم -للأسف الشديد- سبب احتراقها وآلامها سواء أدروا وعلموا أم لم يعلموا ولم يدروا البتة.. ولم يحسوا بالاحتراق إلاّ هذه الأيام التي أحسوا أنها تحترق الاحتراق المادي والطبيعي والبيئي.. ولم يكونوا في يوم من الأيام يشعرون بأنها بالفعل تحترق الاحتراق المعنوي والقيمي والديني والقانوني والأخلاقي والتربوي والإداري والتسييري.. تحترق بالظلم والقهر والاستعلاء والاستئثار والأثرة والأنانية والحرمان والسرقة واللصوصية وغياب سلطة دولة القانون..

ولعلني -وأنا شيخ واعٍ ومستنير بالعلم والمنهج والبحث العلمي على أبواب السبعين من العمر الدعوي- أنقل لكم نفحات من الحرائق التي أُضرمت في الجزائر واحترقت بيد أبنائها.. ولعلّني هنا أذهب إلى أفقٍ أرحبَ من معالجة الحريق في ثوبه المادي البحت، إلى البحث والغور في أصوله ومسبِّباته ودوافعه لا في حيثياته ومظاهره التي تنقلها وسائل ووسائط الإعلام.. وليس تلك الإحصاءات التي تقدِّمها مؤسسة الحماية المدنية حول عدد الحرائق المسجَّلة دون إطفائها.. لأن الحريق الذي أُضرم دفعة واحدة وفي ساعة واحدة وفي مناطق مختلفة من الوطن ليس مجرد فعل إجرامي وحشي وهمجي وسطحي فقط، بل هو فعلٌ تنظيمي وجمعي مؤسس ومنسق ومؤطر ومنضبط.. له منطلقاته وأسسه وأهدافه وغاياته.. والرسالة واضحة لمن توجّهت بها تلك الأعمال التخريبية، والكل بات يفهمها من دون وسطاء ولا متدخّلين ولا محللين.. بل إن موجة الحرائق التي عصفت بالجزائر باتت تطرح أكثر من سؤال حول هوية ومنطلقات ودوافع فاعليها الذين ينبتون كالفطر السام في شتى أنحاء الوطن. ومن عرف المنطقة والبيئة حق معرفتها -وأنا أعرفها جيدا- يعلم إلى أين تتجه أصابع الاتهام، ويعلم من يتهم بحرق المنطقة الشبيهة بأدغال الأمازون.

وتعالوا نناقش الحريق المعنوي والقيمي والأخلاقي والديني الذي تعيشه الجزائر منذ قرنين خليا (1830-2021) إلى اليوم قبل أن نناقش البحث عن حقيقة الحرائق القائمة والمشتعلة ومن المسؤول عنها. لأنه في اعتقادي أنَّ الاحتراق القيمي والمعنوي والمنهجي والأخلاقي والديني والقانوني الذي اعترى الجزائرَ وشعبَها طيلة قرنين هو السبب في حرائق اليوم.

ألم يحرقها الراحل (أحمد بن بلة) –بالرغم من جهاده ووطنيته المتميزة- سنوات 1962-1965م بسياسته الشيوعية وأمميته الرابعة الهوجاء، ودمَّر فلاحتها وزراعتها ببروليتاريا الفلاحين الكسالى كما كنا نعاينهم أثناء الحملات التطوعية الجامعية (1977-1981م)؟ ألم يحرقها الراحل (هواري بومدين) – بالرغم من إخلاصه ووطنيته المتميزة- بالاشتراكية وبروليتاريا العمال الفاشلين والصناعات الثقيلة وثوراته الثلاث (الزراعية والصناعية والثقافية) التي أهلكت الحرث والنسل سنوات 1965-1978م؟ ألم يحرقها بإقصائه لقادة الثورة الحقيقيين واستقدام ضباط فرنسا الذين سمَّموه وقتلوه؟ ألم يحرقها الشاذلي بن جديد – بالرغم من وطنيته وصدقه وعفويته المتميزة- عندما أطلق العنان لضباط الاستعمار الفرنسي يتحكمون فيها سنوات 1979-1991م وباع إرث الاشتراكية بالدينار الرمزي وكان أول من وضع حجر الأساس للبرجوازية الاشتراكية.. وكان هو ونظامه من أسَّس للرأسمالية بأموال الحزب والدولة والاشتراكية التي بيعت بالدينار الرمزي؟ ألم يحرقها أولئك منذ التسعينيات بعد توقيف المسار الانتخابي سنة 1992م؟ ألم يحرقها العهد البوتفليقي باستقدامه للأراذل والمغامرين واللصوص والمفسدين والفاسدين من كل حدب وصوب؟ ألم يحرقها باستبعاده للشرفاء والوطنيين والأطهار والمخلصين؟

وفي ختام مطاف البكاء الاحتراقي عن الاحتراق المعنوي والقيمي والأخلاقي والقانوني والإداري.. أرجو أن تتنبه السلطة إلى أنها في حرب مع تنظيمات وخلايا منظمة ومهيكلة.. ولعلنا نلفت انتباهها إلى أن هؤلاء المغامرين يمكنهم أن يلجؤوا إلى أساليب أكثر قذارة ومكرا والذهاب في عمليات أخطر.. والسؤال المطروح اليوم هو:

لماذا الجيش وليس الحماية المدنية؟

ولعلني أنبهكم إلى تحليل سيميائي للصور عن رجال المطافئ في العالم ورجال الحماية المدنية عندنا في الجزائر، وبطريقة المقارنة بين الفريقين نصل إلى الحقائق المرعبة الآتية.. فجل الحرائق التي تابعناها في العالم نشاهد رجال الحماية المدنية من ذوي البنيات الضخمة والقوية.. إلاّ عندنا فالملاحظ على جل رجال وأعوان الحماية المدنية الذين نعرفهم ويسكنون بجوارنا، أو من نشاهدهم في مراكز الحماية المدنية أو.. فهم من ذوي البنيات الضعيفة ومن قصار القامة.. وممن لا يستطيعون مكابدة الملمات.. أتعلمون لماذا؟ السر يعود إلى سياسة التوظيف في الحماية المدنية، ولعلني أنقل لكم حادثة حقيقية جرت في إحدى ولايات الوطن الجزائري المحروق منذ الاستقلال بالبيروقراطية والمحسوبية والجهوية والرشوة.. وقد روى لي بروفيسورٌ كبير في أحد أقسام اللغات الأجنبية أن مسابقة أُجريت في الحماية المدنية لاختيار ثلاثين عونا.. وقد أُعِدّت القائمة للأسف سلفا وفق تدخلات الإدارة الفاسدة لتعيين وتوظيف أقرباء ومعارف ذوي النفوذ، فما كان من هذا المسؤول إلاّ أن ترك الثلاثين الأوائل من القائمة وبدأ بالواحد والثلاثين.. وقال قولته المشهورة: (من هنا بدأ الصح) فانقلبت عليه الإدارة وحُوِّل المسكين إلى الصحراء عقوبة له لأنه أراد إحقاق العدل وتوفير الفرصة الحقيقية لأبناء الجزائر وإعطاء الحق لمن يستحقه.. وهكذا الأمر في التعليم بمختلف أصنافه والصحة والإدارة والصناعة.. ومن هنا فقد نشأ جيلٌ مظلوم ومحروم ومبعَد ومقصى.. ولا أمل له في جزائر المترفين الذين يسبح أبناؤهم في الشواطئ الخاصة على مرأى ومسمع ومشاهدة أبناء الشعب المحروم، فما تنتظرون منه؟

ولعلني أختم لكم بهذا المشهد الصادم والذي يعمق صورة الضياع ويزيد في مشهد التيه والضبابية.. والذي يعكس تهور الإدارة واستهزاءها بالأمة.. فقد نقلت إحدى الصحف الوطنية الأربعاء 11/05/2021م نبذة عن المعيَّن الجديد على رأس اللجنة المستقلة للانتخابات بتلك الولاية، وهي لا تدري أن الأمة مليئة بالأذكياء والنبهاء والفطناء ممن يحللون ويفهمون ويقرأون وراء وما خلف السطور لا ما بينها فقط.. أن الرئيس الولائي الجديد متقاعدٌ من الإدارة، وكان آخر منصب تقلده هو نائب رئيس ديوان الوالي، وهو الآن على رأس هذه اللجنة. والسؤال المطروح: متقاعد؟ وماذا يصنع على رأس لجنة الانتخابات وقد عاش وفنى وتقاعد في الإدارة التي أترعت بالتزوير والاحتيال والنصب واللصوصية والفساد والسرقة؟ ماذا تنتظرون ممن قرأ مثل هذا الخبر الصغير؟ أعتقد أنكم بحاجة لمستشارين أوعى من الموجودين في مكاتب الراحة والنوم.

ونصيحتي الصادقة والمباشرة والعفوية والسوية للسلطة القائمة: إذا أردتم الخير للجزائر فاعدلوا هو أقرب للتقوى والنجاح والفوز.. اعدلوا.. فالحريق سياسيٌّ لا إجرامي معزول حسب فهمي المتواضع.. اعدلوا وساووا بين أبناء الجزائر، وأعطوا من يستحق ومن يستأهل حقه، تفلحوا وتفوزوا..

ورحم الله الشاعر العباسي ابن الرومي الذي كان محظيا عند خلفاء بني العباس ولكنه رغم حظوته تلك تشوَّق إلى بلاد الروم موطنه الأصلي فقال:

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعه وأن  *** لا أرى الدهر له مالكا

وحُبِّبَ أوطان الرجال إليهم  *** مآربُ قضاها الشباب هنالكا

ما أعظمها من عاطفة وما أشقها من مهمة.. إنها الكتابة في زمن الاحتراق. أللهم اشهد أني بلّغت.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
10
  • وطنية حتى النخاع

    "و نعشق الارض التي لا هواء بها و لا ماؤها عذب و لكنها وطن" ....الحريق بأرضي حريقا مزمنا.... الوطن يحترق روحا و جسدا... فمن أشعل النار...و من يطفئها؟؟

  • جزائري مسلم عربي

    مقال رائع وجارح في الوقت نفسه. بارك الله فيكم

  • banix

    المشكل في الجزائر هو قلة الكفاءة و عدم الانتباه إلى تفاصيل الاشياء و عدم الاستفادة من دروس الماضي وعدم استشراف ما هو قادم

  • ثانينه

    المسؤول الاول هو هدا النظام البائس الدي لايكسب ولا طائره اطفاء واحده..مند 60 سنه من التسيير الفوضوي في جميع القطاعات..والمؤسف اننا مازلنا في نفس المنهاج من السياسه الارتجاليه ..من يحاسب من

  • الحسين الجزائري

    ماألذوقع هذا الكلام في النفس على الرغم من شدته.لافض فوك يا أستاذ.اعتبروا يا أولي الأبصار.

  • الوطني الغيور

    أللهم احرق من حرقها.. أللهم أعد مجدنا وبساطنا الأخضر... أللهم خلصنا جور المفسدين والفاسدين..اللهم خر واختار وهيء لنا امرا رشدا يعز فيه أهل طاعتك؟. ويذل فيه أهل معصيتك...

  • احمد

    المستشار في قضايا كبيرة جدا

  • الوطني الغيور

    ولكن لا تحبون الناصحين؟؟؟

  • الرد لا تستحق

    لا اريد الفتنة

  • مخلص

    الله يعطيك الصحة مقال لخصت فيه كل شئ...وعلم أنه من إنتقدك فهو من قريب أو بعيد من الطبقة ...إياها .