الجزائر
تذبذب في العلاقات بسبب تناقضات فرنسا في ملف الذاكرة

الجزائر ـ باريس .. خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف

الشروق
  • 3303
  • 24
ح.م

كشفت التطوّرات المتضاربة التي تشهدها العلاقات الجزائرية الفرنسية هذه الأيام، وجود أوساط لا تريد استمرار الهدوء الذي يطبع العلاقات بين الجزائر وباريس منذ سنوات، فبمجرد أن يُرسم توجّه يستهدف تعزيز جسور الترابط بين البلدين، إلا ويبرز توجه آخر يناقضه، من داخل المؤسسات الفرنسية ذاتها، الأمر الذي خلق حالة من الإرباك في أوساط المراقبين. ولم تكن الخطوة الانتقائية التي بادر بها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بشأن الماضي الاستعماري لبلاده، سوى مقدمة لقرارات وتحرشات أخرى مناقضة، اضطرت سفير باريس بالجزائر، كسافيي دريانكور، ليخرج على مرتين لتبرير ما يجري.. فما خلفية ما يجري على محور الجزائر ـ باريس؟ ومن يريد وقف استمرار استقرار العلاقات الثنائية؟ ومن المستفيد من توتير الأجواء بين فرنسا ومستعمرتها السابقة؟ وإلى أي مدى يمكن أن تصل الاستفزازات الفرنسية تجاه الجزائر؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول “الملف السياسي” لهذا العدد الإجابة عليها.

قرارات تناقض أخرى من مصدرها
“ثورة مضادة” في محيط قصر الإيليزي

الجزائر

تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية ما يمكن وصفها بالأزمة الصامتة، فالاستقرار الذي لطالما تميزت به العلاقة بين الجزائر وباريس طيلة السنوات الست الماضية، لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة.

القرار الذي أقدم عليه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالاعتراف بأن التعذيب كان عملا مؤسساتيا في فرنسا الاستعمارية، قبل أن يطلب الصفح من عائلة صديق الجزائريين، موريس أودان، الذي اختطف ثم اغتيل من قبل جيش الاحتلال الغاشم، جلب متاعب للعلاقات الثنائية، ويبدو أن أطرافا من المعسكر الآخر (…) تقف خلفها.

ما يجري هذه الأيام على محور الجزائر باريس، يمكن وصفه أيضا، بأنه ثورة مضادة ضد الكوّة التي فُتِحت في جدار الصد الفرنسي، ضد كل خطوة من شأنها أن تصب في طريق انصياع باريس لحقائق التاريخ، والاعتراف بجرائم الاستعمار التي ارتكبتها في الجزائر وتقديم الاعتذار للجزائريين.

ومعلوم أن تلك الخطوة المتمثلة في الاعتراف بأن التعذيب كان عملا مؤسساتيا في الدولة الاستعمارية ونظامها في الجزائر، ثم طلب الصفح من عائلة موريس أودان، قد سبب انزعاجا لدى الحرس القديم من الدوائر الحالمة بعودة “الجزائر الفرنسية”، وتمظهر هذا الانزعاج في محاولة ماكرون تطييب خاطر هؤلاء المتذمرين.

 ومعلوم أن خطوة ماكرون التي فرضتها “الثورة المضادة”، تمثلت في تكريم مجموعة من “الحركى” وهي التسمية التي تطلق على الجزائريين الذين عملوا إلى جانب الجيش الفرنسي خلال الثورة التحريرية، حيث وقّع على مرسوم رقّى بموجبه ستة حركى إلى درجة جوقة الشرف برتبة فارس، وهي أعلى رتبة تكريم تمنحها الدولة الفرنسية، وكذا ترقية أربع شخصيات إلى درجة الاستحقاق الوطني برتبة ضابط و15 آخرين إلى رتبة فارس.

ما يدفع على الشك والريبة، هو أن قرار ماكرون جاء بعد أسبوع فقط من تقديم الاعتذار لعائلة “الشهيد” موريس أودان، ما يرجح فرضية اشتغال “الثورة المضادة” على هذا الصعيد، والتي لم تتوقف عند هذا الحد، بل تم توظيف أحد الوجوه الدبلوماسية المعروفة، ممثلة في سفير فرنسا الأسبق، بيرنار باجولي، الذي انخرط في مسار “الثورة المضادة” عندما راح يتحدث عن مسؤولية الجزائر في الكشف عن رفاة الجنود الفرنسيين الذين قتلوا في الجزائر خلال الثورة التحريرية، وكذا الإساءة للجزائر ولرئيسها أملا في حصول موقف متشنج من الطرف الجزائري، يزيد من تأزيم الوضع.

كل هذه المعطيات تعبر عن حقيقة مفادها أن العلاقات بين الجزائر وباريس تنطوي على حساسية مفرطة، وهو الوضع الذي جعلها عرضة لأزمات قد تندلع من حين لآخر ولأسباب قد تبدو تافهة أحيانا.. وفي مثل هذا الوضع، كان يتعين على المسؤولين الفرنسيين ضبط تصرفاتهم وسلوكاتهم ومواقفهم مع هذه الخصوصية، من أجل الحفاظ على إبقاء العلاقات الثنائية عند المستوى المأمول من قبل الطرفين.

من بين المقاربات التي تم الدفع بها في سياق تحليل هذا التضارب في المواقف الفرنسية، هو أن باريس غير مستعدة لأن تنافسها أي دولة على نفوذها في الجزائر ولو كانت دولة أوروبية، وهنا يمكن ربط التشنج الفرنسي بزيارة المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، للجزائر الأسبوع قبل المنصرم، وهي الزيارة التي كسرت حظر زيارة الرؤساء للجزائر ومنهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الذي تحدث عن زيارة دولة يجريها للجزائر، غير أنه لم يوف لحد الآن.

ما يرجح فرضية هذه المقاربة، هو أن غداة زيارة المستشارة الألمانية، خرج السفير الفرنسي بالجزائر، كسافيي دريانكور، ليتحدث عن “مثالية” العلاقات الجزائرية الفرنسية، في خرجة لم تكن مدروسة، وهي “الخرجة” التي اعتبرت من قبل الكثير من المراقبين، تشويشا على زيارة المستشارة الألمانية، التي كانت مؤجلة من شهر فيفري من العام المنصرم، لأسباب صحية تخص الرئيس بوتفليقة.

ذات مرة قال بيرنار كوشنير وزير الخارجية الفرنسي في عهد الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي، إن تحسن العلاقات الجزائرية الفرنسية مرهون باختفاء جيل الثورة، غير أن الواقع يقول إن ترميم العلاقات الثنائية يمر عبر اعتراف فرنسا بمسؤوليتها التاريخية في الجزائر، واقتناع الدوائر الحالمة بـ “الجزائر فرنسية”، بأن هذا الحلم قد مات وأصبح من الماضي منذ أزيد من نصف قرن من الزمن.. فهل يعي المشككون؟

أمين عام منظمة أبناء الشهداء سابقا الطاهر بن بعيبش لـ “الشروق”:
فرنسا اعتذرت لأودان ولن تعتذر للجزائريين

الطاهر

مسلسل من التحرّشات الفرنسية استهدف الجزائر خلال الأيام الأخيرة مثل تكريم الحركى، الاعتذار الانتقائي لضحايا الجرائم الاستعمارية (موريس أودان دون غيره).. ما خلفيّات ذلك؟

هذا موضوع قديم يتجدّد في كل مرحلة، وأنا أتأسّف لأننا كل مرة نجتر نفس الكلام ونفس الأقوال.

فمنذ 20 سنة ونحن نؤكد ومن مختلف المنابر أن فرنسا تدافع عن مصالحها، وسياستها قائمة على تكريم من تشاء وتجاهل من تشاء، وبالتالي لا تعليق لي على سياسة الدولة الفرنسية، لأنها سياسة معروفة للجميع وبادية للعيان وأمر بديهي…ففرنسا تبحث دوما عن مصلحتها في أي مشروع أو سلوك تقوم به.

والإشكال في الموضوع، يكمن في الجزائر وليس في فرنسا، فعندما تخاف السلطة في بلدنا أن تعتبر أو تقول في جملة صريحة بأن الاستعمار الفرنسي جريمة، وعندما يسقط قانون تجريم الاستعمار في البرلمان، فهنا تسقط جميع الأجوبة والأسئلة.

والمُؤسف، أننا نخاف تجريم هذا الاستعمار الذي ارتكب أبشع الجرائم ضد الإنسانية بالجزائر منذ 1830، في وقت نسمع أصواتا لفرنسيين وطنييّن يؤكدون كل مرة على بشاعة الاستعمار ويُطالبون حكومتهم بالاعتراف بجرائم فرنسا في الجزائر.

ما تعليقكم على الكيفية التي تعامل بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع الماضي الاستعماري لفرنسا في الجزائر (الاعتذار لعائلة أودان)؟

فرنسا تُقدّم لنا اعترافاتها قطرة بقطرة، وكأنهم يُقدّمون لنا خدمة، وأصلا أنا ضدّ مطلب الاعتراف، فالأهم من اعتراف فرنسا بجرائمها هو أن تبادر الدولة عندنا لتدوين تاريخنا، وتقدّمه كما هو وتعلن عنه في جميع المحافل الدولية دون خجل أو خوف.

وإذا اعتذرت فرنسا فماذا سيحصل؟ ستُغلِق الملفٌّ أكيد، والأكيد أن فرنسا لن تعترف بجرائمها، لأن العملية تتبعها إجراءات كثيرة، أهمها تقديم تعويضات، وهي تخاف من ذلك.

وبخصوص قضية الفرنسي أودان، فالسّؤال المطروح لماذا تعترفُ الدولة الفرنسية بمسؤوليتها في تعذيب فرنسي ولم تعترف بذلك للشهيد العربي بن مهيدي. فهذه الدولة التي ارتكبت “محارق” في قرى ومداشر الجزائر، وأحرقت نساء وشيوخا وأطفالا أحياء بعدما أغلقت عليهم المغارات، لا ننتظر منها الكثير.

سفير فرنسا السابق بالجزائر، بيرنار باجولي، تحدث عن مسؤولية الجزائر في الكشف عن رفاة الجنود الفرنسيين الذين قتلوا خلال الثورة.. ألا يعتبر هذا استفزازا؟

تصريحات بيرنار باجولي لا أقول إنها استفزاز، لأن صاحبها مواطن فرنسي وسفير سابق وهو في بلد ديمقراطي ويدافع عن بلده فرنسا، ولا توجد صداقة أو أخوة بيننا حتى نعتبرها استفزازا.

أما بخصوص رفاة الجنود الفرنسيين التي تحدث عنها، ففي رأيي إذا كانت الأمور تسير بطريقة عادية، فلا حرج إذا كان يعلم هذا الشخص أين مكان الرفاة، فنعطيه رفاتهم ونفتح قبورهم إذا أرادو “الله يسهل عليهم”.

ولكن بالمقابل على فرنسا أن تعيد جماجم المجاهدين، ويحق لنا أن نسألها: هل كنتم تقطعون رؤوس البشر؟ وكيف حصلتهم على الجماجم؟.

وأنا قلت سابقا، إن ما أقدمت عليه الجماعات الإرهابية في سنوات العشرية السوداء بالجزائر، من قطع رؤوس المواطنين، هو امتداد لسياسة الاستعمار الفرنسي المعروف بقطع الرؤوس.

السفير الفرنسي الحالي بالجزائر، كسافيي دريانكور، تبرأ من تصريحات باجولي.. هل هذا يكفي لتجاوز الأزمة الصامتة بين البلدين؟

كلام السفير الفرنسي الحالي لا يساوي شيئا، لأنه كلام رجل دبلوماسي، فهو عبر عن موقفه بدبلوماسية مثلما تقتضيه الأعراف والتقاليد الدبلوماسية بين البلدان.

أما باجولي حتى ولو اعتبرناه مواطنا فرنسيا يقول ما يشاء لصالح دولته، ولكن لا ننسى أنه كان سفيرا بالجزائر، وبالتالي فكلمته لها امتدادات سياسية.

كيف السبيل برأيكم لوضع حدّ لغياب الندية في العلاقات الجزائرية الفرنسية؟

عندما تكون عندنا مؤسسات شرعية وقوية، تتكلم باسم الشعب الجزائري، ويوجد مسؤولون يحفظون ذاكرة الشهداء الجزائريين، تكون لدينا الندية في علاقتنا مع فرنسا.

السيناتور إبراهيم بولحية يؤكد:
“لن نقبل باعتذار مجزأ من فرنسا ويجب أن يشمل الاعتراف جميع الضحايا”

مسلسل من التحرشات الفرنسية استهدف الجزائر خلال الأيام الأخيرة مثل تكريم الحركى، الاعتذار الانتقائي لضحايا الجرائم الاستعمارية (موريس أودان دون غيره).. ما خلفيات ذلك؟

معلوم أن كل الجزائريين يتابعون العلاقات بين الدولتين والتي شابها الكثير من المد والجزر، ففترات تكون عادية وطبيعية وفترات تتأزم… فرنسا لم تتخلص من نظرتها الاستعمارية لمستعمراتها وخاصة الجزائر التي تعتبر الجنة المفقودة، حقيقة إننا لا نستغرب التحرشات بالنظر للتاريخ المليء بالألم والدماء والجرائم التي ارتكبت في حق الشعب الجزائري، يجب أن تكون علاقات بين البلدين ندية وعلاقات دولة ذات سيادة مع دولة مستقلة لا تكون علاقات تابع ومتبوع وسيد مع تابعه نحن دوله ضحت من أجل استقلالها ومن أجل إخراج المستعمر الذي ارتكب جرائم بشعة في حقنا.

ما تعليقكم على الكيفية التي تعامل بها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع الماضي الاستعماري لفرنسا في الجزائر (الاعتذار لعائلة أودان)؟

منذ ترشيح ماكرون للرئاسة وعندما بدأ يغازل في الجزائر قلت إن الاعتراف إما أن يكون كاملا وشاملا يتحرى الحق وإما أن لا يكون مجزأ أو انتقائيا كما لجأ له مؤخرا، هذه جرائم ارتكبت في حق شعب سلبت إرادته ويجب الاعتراف بما حصل له، حقيقة الأمر متوقف على الشعب الجزائري والمؤسسات الجزائرية والتي يجب أن تلعب  دورها من أجل الضغط للاعتراف بكل الجرائم، فلم ننس بعد أول محرقة في التاريخ تعرض لها الجزائريون وارتكبتها فرنسا سنة 1845 التي حرقت الآلاف من الجزائريين في جبال الظهرة وبقي مسكوتا عنها لحد الآن، رغم أن جنرالات  فرنسا اعترفوا بها، فهذه من ضمن الجرائم التي لن يغفرها التاريخ وغيرها من جرائم القنابل النووية والإبادات، أما اعتراف فرنسا بمسؤوليتها في تعذيب موريس أودان فهذا تأكيد لموقف الجزائر منذ 1962 بأنه مناضل  فرنسي وقف لجانب الجزائر، ونحن نثمن  هذا الاعتراف لكن يجب أن يشمل كل التعذيب الذي مارسته فرنسا وطال الآلاف.

سفير فرنسا السابق بالجزائر، بيرنار باجولي، تحدث عن مسؤولية الجزائر في الكشف عن رفات الجنود الفرنسيين الذين قتلوا خلال الثورة.. ألا يعتبر هذا استفزازا؟

السفير الفرنسي السابق كان مدير مصالح الأمن الفرنسية كنا نتمنى أن يتكلم لما كان سفيرا في الجزائر ممثلا لمصالح دولته فنحن نتساءل هل كان فاقدا للذاكرة، هل نسي أنه كانت هناك دولة فرنسة تحتل الجزائر هي المسؤولة عن جثامينهم وليس الجزائر، لأنه لم لم تكن هناك سلطة جزائرية حتى نحملها المسؤولية، باجولي أصيب بالخرف أصبح يهرف بما لا يعرف.

السفير الفرنسي الحالي بالجزائر، كسافيي دريانكور، تبرأ من تصريحات باجولي.. هل هذا يكفي لتجاوز الأزمة الصامتة بين البلدين؟

هذا أحسن رد على باجولي والذي لما كان سفيرا تبرأ من الكثير من التصريحات آنذاك وكان يقول إن العلاقة بين الجزائر وفرنسا هي علاقات نموذجية وعميقة، والسفير الحالي دريانكور فهو أيضا يمثل مصالح دولته ويحرص أن تكون العلاقات جدية وممتازة ومستقرة.

كيف السبيل برأيكم لوضع حد لغياب الندية في العلاقات الجزائرية الفرنسية؟

لا أوافقكم الرأي علاقتنا كانت دائما ندية مع فرنسا وغيرها من الدول والرئيس بوتفليقة يحرص دائما أن يكون قرارانا سياديا وعلاقتنا ندية وأن الدولة الجزائرية عندما تتبوأ مقعدها عند الدول تملؤه بجهادها وجهود غيرها لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول ولا تقبل أن يتم  التدخل في شؤونها.

مقالات ذات صلة