-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الجوانب الاستشرافية في الرؤية البنابية للنهضة والحضارة

الجوانب الاستشرافية في الرؤية البنابية للنهضة والحضارة

قد يبدو الحديث عن الفكر الاستشرافي في كتب مالك بن نبي فكرة افتراضية أو فضفاضة أو غير واقعية، لأن العصر الذي عاش فيه مالك بن نبي كان امتدادا نسبيا للعصر الكلاسيكي الذي بدأ يتعامل مع منتجات الحداثة والتكنولوجيا بطريقة محدودة ومحتشمة. في فكر مالك بن نبي رؤى استشرافية كثيرة تنبئنا إذا نحن أمعنّا النظر في كتبه عن كثير من معالم العالم المستقبلي الذي كان يدور في مخيلة مالك بن نبي من قراءاته وتحليلاته العميقة للفكر الحضاري وللمشكلات والتحديات المرتبطة به. لقد وظف مالك بن نبي خلفيته الهندسية لاستشراف مسارات الفكر الإنساني وتطوره مع مرور الزمن، وهذا ما جعله يبدع وبطريقة غير مسبوقة في وضع تصور هندسي للعالم في المراحل اللاحقة أو مرحلة ما يسمى بالعالم الرقمي.
هناك مسلمّات لا تقبل الجدل لمن تعمق في فكر مالك بن نبي وهو أن هذه الشخصية الفكرية ليست شخصية عادية تهتم بالأفكار الميتة أو تعيد تدويرها بين الناس بإضفاء مسحة مزيفة عليها، بل هو شخصية عالمية بأتم معنى الكلمة وشخصية ابتكارية إن صح التعبير، يتعامل مع الأفكار على أنها منتَج بشري قابل للتطوير تبعا لدورة الزمان والمكان.لم تحظ كتب مالك نبي بقراءة صحيحة للأفكار التي تضمنتها، بل كانت عرضة لقراءات مجتزأة ومكررة ومعادة لا تتعدى التوصيفات الظاهرية لمشكلة الحضارة ومشكلة الثقافة، فكتابه “المسلم في عالم الاقتصاد” و”مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي” وكتابه “وجهة العالم الإسلامي” لم تحظ بدراسة وافية شافية تمكن من الاهتداء إلى المعاني البعيدة التي رامها مالك بن نبي، بل اشتركت جلها إن لم تكن كلها في تكرار المكرر وهذا في نظري جهد غبي ونظرة قاصرة لأفكار مالك بن نبي الذي سبق زمانه وكتب عن مشكلات الحضارة بأبعادها الظاهرة والمحتملة.

• في كتاب: “المسلم في عالم الاقتصاد” رؤية استشرافية لمستقبل الاقتصاد العالمي
في هذا الكتاب في الفصل المعنون: “الأسس الحضارية لعالم الاقتصاد”، إشارات اشتشرافية لمالك بن نبي لمستقبل الاقتصاد العالمي الذي يجب أن ينتقل في نظره من اقتصاد الأرقام الصماء إلى الديناميكية الاقتصادية التي أصبحت في الراهن توجها ملحا للاقتصاديات العالمية. ويحمل مصطلح الديناميكية الاقتصادية هنا كل معاني القوة والحياة التي تجعل من العملية الاقتصادية عاملا مصاحبا ومساعدا على تحقيق النقلة النوعية الحضارية التي يراها مالك بن نبي المقصد الأسمى لأي مخطط اقتصادي. ويعبر مالك بن نبي عن هذا التوجه الاقتصادي بالإرادة الحضارية الكفيلة بخلق الثروة الاقتصادية وتوجيهها لخدمة الإنسان في كل الأطوار الحضارية التي يمر بها. يقول مالك بن نبي في هذا الصدد: “ولو عدنا إلى عالم الاقتصاد بهذه الاعتبارات (التي تحكمها في نظره العلاقة النسبية بين الإمكان الحضاري والإرادة الحضارية) فإننا لا نراه عالم الكميات وعالم الأرقام إلا في الرتبة الثانية، أي بعد ما تبعث فيه الإرادة الحضارية الحركة والحياة. إن طغيان الأرقام على الاقتصاد العالمي الراهن يجرده من كل أسباب الصلة بينه وبين الاقتصاد الرقمي الذي لا يتحقق إلا بتحويل الكم الاقتصادي النظري إلى وعاء اقتصادي رقمي”.

• في كتاب “شروط الحضارة” أفكار استشرافية تتجاوز شكليات التحليل الحضاري
من الضروري أن أقرر بأن دراستنا لكتاب “شروط النهضة” لمالك بن نبي في مجملها قراءات سطحية في حين أن هذا الكتاب يتجاوز ذلك ويتجاوز شكليات التحليل الحضاري الذي دأب عليه كثير من المختصين والمهتمين بفكر بن نبي أو بالبنابية التي أصبحت قطبا ومرجعا أساسيا في الدراسات الحضارية المعاصرة. لقد غلب السرد الأدبي على الدراسات التي عكف أصحابها عبثا على تأصيل وتحليل الرؤية البنابية لشروط الحضارة وقد أساءوا بهذا المنهج من حيث يشعرون أو من حيث لا يشعرون إلى فكر مالك بن نبي الذي قررنا في أكثر من مناسبة بأنه فكر إبداعي توليدي يتخذ من الفكرة الخام وسيلة لكشف كثير من الحقائق العلمية التي لا يدركها في الغالب قصيرو النظر من الباحثين مهما ادعوا علمهم ومعرفتهم بالفكر الحضاري لمالك بن نبي. إن بعض الاقتباسات من هذا الكتاب مجدية لتأكيد معالم النهضة كما تصورها واستشرفها مالك بن نبي. يؤكد مالك بن نبي في الباب الثاني من كتاب “شروط النهضة” والذي عنونه “المستقبل” على ضرورة التفكير في بناء مستقبل الإنسان وخاصة إنسان العالم الثالث ومنه الإنسان الذي يجب -حسبه- أن يؤسس على فكرة الانتقال الكلي من عامل التكديس إلى عامل البناء، ويخصص مالك بن نبي فقرات كثيرة في الباب الثاني للحديث عن حالة العالم الإسلامي وتعامله مع النهضة والمعطى الحضاري بصفة عامة، فالعالم الإسلامي فضل في هذا المجال الحضارة التكديسية على الحضارة البائية التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالمرحلة المستقبلية للحضارة. يقول مالك بن نبي في هذا الصدد: “ومن البين أن العالم الإسلامي يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة، أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة، وقد تنتهي هذه العملية ضمنا إلى أن نحصل على نتيجة ما، بمقتضى ما يسمى قانون الأعداد الكبيرة أعني قانون الصدفة، فكوم ضخم من المنتجات المتزايدة دائما، يمكن أن يحقق على طول الزمن، وبدون قصد “حالة حضارة”، ولكننا نرى فرقا شاسعا بين هذه الحالة الحضارية، وبين تجربة مخططة كتلك التي ارتسمتها روسيا منذ أربعين عاما، والصين منذ عشر سنوات، هذه التجربة تبرهن على أن الواقع الاجتماعي خاضع لنهج فني معين، تطبق عليه فيه قوانين الكيمياء الحيوية والديناميكية الخاصة سواء في تكونه أم في تطوره. وقد صدقت الأفكار الاستشرافية لمالك نبي على حالة الصين وعلى حالة روسيا نسبيا، فما ذكره مالك بن نبي من عوامل الاستعداد الحضاري للصين وقدرة هذه الأخيرة على تكييف وتوظيف هذه العوامل قد أتى ثمره وتحولت الصين إلى قوة اقتصادية عملاقة يحسب لها حساب في عالم الاقتصاد بكل تشعباته وتنوعاته وتجلياته. وأما حالة روسيا فقد سببت بعض الأوضاع الجيوسياسية إخفاقا أو تأخرا في تحقيق الانطلاقة الحضارية التي قد تتدارك في مرحلة لاحقة بعد أن تخرج روسيا من دوامة الصراعات الجيوسياسية لتلتحق بركب الصين. ويبقى العالم الإسلامي أقل العوالم حظا في فكر البناء الحضاري لأسباب تاريخية وسياسية معروفة.

• الزمن كركن من أركان الرؤية الاستشرافية في الفكر الحضاري لمالك بن نبي
يقول مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة” : “إن الزمن نهر قديم يعبر العالم، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي تعيش فيها كل الشعوب، والحقل الذي يعمل به، ولكن هذه الساعات التي تصبح تاريخا هنا وهناك، قد تصير عدما إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها”. إن الزمن في رؤية مالك بن نبي الحضارية ليس هو المراحل الزمنية التي تمر علينا وإنما هو المراحل التي نتقلب فيها من البداية، وينطبق ذلك على الحضارة التي لا يكون لها معنى في نظر مالك بن نبي إلا إذا اتسع إدراكها وفهمها لقيمة الزمن وامتداداته والذي لا يكون منه جدوى إذا بقي حبيس الماضي والحاضر ولم يتوجه إلى المستقبل الذي هو الغاية والمرحلة الحاسمة لكل حضارة. وهذا المستقبل هو ما عبرنا عنه في هذا البحث بالرؤية الاستشرافية أو المستقبلية كما يحلو لبعض المفكرين تسميتها.

• الاستشرافية لنقد الفكر الاستشرافي لمالك بن نبي
وهو ما وقفت عليه دراسة حضارية مهمة للأستاذ عبد القادر بوعرفة ضمن أعمال الملتقى الدولي الذي نظمته وزارة الشؤون الدينية والأوقاف بعنوان: “مالك بن نبي واستشراف المستقبل: من شروط النهضة إلى الميلاد الجديد”. يرى عبد القادر بوعرفة في بحثه ضمن هذه الملتقى والموسوم: “الراهن والمستقبل: دراسة نقدية لرسم معالم البنابية الجديدة” أن المنهج الاستشرافي الذي طبقه مالك بن نبي في تعامله مع الفكر الحضاري يمكن تطبيقه أيضا وبنفس الحدة على فكر مالك بن نبي نفسه، ومن وسائل تطبيق هذا المنهج: التخلي عن فكرة تقديس فكر مالك بن نبي حتى لا تتحول أفكار مالك بن نبي إلى شكل جديد من أشكال الصنمية الفكرية التي حذر منها مالك بن نبي نفسه، وكذا الإقرار بأن مالك بن نبي قد فهم عصره وأحاط بالمشكلات الحضارية والثقافية التي يتخبط فيها ولكنه عجز عمليا عن إيجاد حلول لها وهو ما يمكن – حسب الأستاذ عبد القادر بوعرفة – تداركه وتكملته من خلال ما سماه “البنابية الجديدة” أو بعبارة أخرى القراءة التجديدية لفكر مالك بن نبي التي هي شكل من أشكال المراجعات الفكرية التي خضع لها فكر كثير من الباحثين ويخضع لها فكر مالك بن نبي الذي لا يمثل الاستثناء بأي حال من الأخوال.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!