-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مالك بن نبي كما عرفته

محمد جاب الله
  • 409
  • 0
مالك بن نبي كما عرفته

تعرفت على الأستاذ مالك بن نبي في خريف سنة 1965 عن طريق الأخوين رشيد بن عيسى حفظه الله وعبد الوهاب حمودة رحمه الله، اللذان دعواني إلى حضور ندوته الفكرية التي يقيمها مساء يوم السبت في بيته الكائن في شارع “فرنكلين روزفيلت” قرب قصر الشعب، ومنذ ذلك الحين لم أتغيب عن تلك الندوة إلا حين أدائي للخدمة الوطنية بداية من شهر أكتوبر 1972.
لم نكن نسمع من قبل بالأستاذ بن نبي، فهو غير معروف عند عامة الجزائريين، وقليل من الناس قد اطلعوا على كتبه فلا أثر لها في المكتبات سواء باللّغة الفرنسية التي كان يكتب بها أو باللّغة العربية التي نقلت إليها معظم كتبه.
كنت أشعر شخصيا بشيء من الرهبة والتوجس وأنا مقبل صحبة صديقي عبد العزيز بوليفة لأول مرة على مدير التعليم العالي والكاتب الإسلامي الكبير والمفكر الفذّ في عصره، كما وصفاه لنا الأخوين رشيد وعبد الوهاب، وما إن تخطينا عتبة بيته، حتى شعرت بالاطمئنان، أولا لبساطة المكان، ثم حفاوة استقبال صاحب البيت، إذ بقدر ما وهبه الله من بسطة في العلم، حباه بطلاقة المحيا، ولين الحديث فيغمرك السرور، وأنت تستمع له قائلا بعد التحيّة مشيرًا بيده إلى أحد الكراسي تفضل يا بني.
سرعان ما ذهب ذلك الروع، وأعقبه الانبهار والتقدير، حيث أجواء التواضع وعدم التكلف من قبل عالم ومسؤول كبير في الجامعة الجزائرية، فلا وجود لحاجب عند الباب ولا طول انتظار، ولا وجود لأثاث فاخر في المكان، كل ما هنالك الكلمة الطيبة والبشاشة وحسن الاستقبال.
كان الأستاذ مالك بن نبي مرتديا منامة فوقها معطف خفيف (Robe de chambre)، جالسا برفقة نفر قليل (لا أتذكر أسماءهم ولا عددهم )، ولا أتذكر محور حديثه في تلك الندوة الأولى، وكل ما أذكر هو الانطباع الإيجابي الذي تركته في نفسي؛ وتوالت الندوات الأسبوعية وكانت تتطلب منا تركيزا شديدا لمتابعة ما يقول، وتدريجيا بدأت أتعلم مفردات وأسماء واستمع إلى أفكار ومفاهيم جديدة غير التي كانت رائجة في أوساط الطلبة ولا عند الوعاظ والأئمة، مع الإحساس العميق بأنها نابعة من ثقافة إسلامية أصيلة، ورغبة صادقة في نشر الوعي بمتطلبات النهوض الحضاري على أساس الفهم الصحيح للإسلام.
وما هي إلا أسابيع معدودة حتى غدت ندوة السبت أشبه بالغذاء للجائع أو الدواء للمريض.
توالت ندوات السبت منتظمة، وشعرنا بمرور الأسابيع بالعزة تسري في وجداننا، فديننا الإسلام الذي تناله السهام من كل جهة، نحن الذين نشأنا على تعظيمه، والفخر بالانتماء إليه، له من جهابذة الفكر والعلم من يبطل ادعاء اعدائه وتنكُّرِ أبنائه؛ لم يكن يعلّمنا الأحكام والنصوص الشرعية ولكن كيف نكون مسلمين متحضرين، صالحين في أنفسنا مفيدين لمجتمعنا أي في مستوى الدور الذي أناطنا الله به ” الاستخلاف في الأرض”.
لم يكن عدد من يحضر ندوة السبت كبير، قبل افتتاح مسجد الجامعة، وكانت الندوات تتمحور حول فكر الأستاذ بن نبي، ويلقيها باللغة الفرنسية، ومن خلالها بدأ يتشكل وعينا ويزداد علمنا، وأصبحنا نرى العالم من حولنا بمنظار جديد؛ وشيئا فشيئا بدأ يتحطم عالم الأشخاص والهالة التي كنت أتخيلها شخصيا حول بعض رموز السياسة والحكم في البلاد العربية، وبدأت القيم تحل محل الصنم.
لقد أدخلنا الأستاذ إلى عالم الأفكار، ولا علم لنا به من قبل، غير أن وضوح الفكرة في ذهن بن نبي، وأسلوبه الفريد في ايصالها إلينا، وتلك القدرة على التأني والتفسير المبسط المتدرج، والهدوء والتؤدة في عرض الأفكار، كلها بيئة ملائمة تجعلك تتابع وتستوعب ما يقول وتتشوق للمزيد، وكان يستعين بالطبشور والسبورة أحيانا، وكأننا بصدد درس في الرياضيات، كان يخاطب عقولنا مباشرة دون بهرجة ولا تنميق.
وما هي إلا أشهر معدودات، حتى غمرتني نشوة في اكتساب المعرفة، ورغبة في الاطلاع على كتب كثيرة لمفكرين كبار وفلاسفة، وسياسيين قدامى ومعاصرين، مسلمين وغير مسلمين، كانت أسماؤهم ترد على لسان الأستاذ في استشهاده بهم أو في استدلاله بمواقفهم عند المقارنة أو في توضيح فكرة أو تصويب خطأ.
كانت أحداث التاريخ حاضرة على الدوام في فكر بن نبي ولكن بقراءة واقعية منصفة دون تشنيع ولا تبرير، بل كان، رحمه الله، يحذر من النزعة الدفاعية التبريرية والتغني بالأمجاد كما يفعل بعض من كتب عن تاريخ المسلمين، دون ذكر الأخطاء والدسائس، ويرى الأستاذ في ذلك تنويم وتخدير للعقل المسلم ليبقى ملتفتا صوب الماضي منتشيا به دون استفادة منه لاقتحام المستقبل، وبالمقابل لا يتنكر بن نبي للصفحات المشرقة لذلك الماضي ويذكّر بمساهماته الأساسية الفكرية والعلمية وبدوره الفعال في إرساء دعائم الحضارة الإنسانية.
كنا أثناء ندوة السبت نستمع إلى الأستاذ بن نبي وكأننا نقرأ كتبه على المباشر، وأسبوع بعد أسبوع بعدما كانت الأفكار الجديدة والمفردات الغريبة تتلاطم في ذهني فإذا بها تتضح شيئا فشيئا وتتجلى معالمها من قبيل مفاهيم (الحضارة، والثقافة، والفاعلية، والقابلية للاستعمار والصراع الفكري..).
خلال تلك السنوات التي قضيناها في صحبة بن نبي، كان الأستاذ يبدو هادئا بشوشا معنا في كل الندوات، يطرح أفكاره بوضوح، يقف مرفوع الهامة، لا تظهر عليه علامات التوتر أو القلق أو الانكسار، فهل كان كما يبدو لنا في واقع يومياته؟
كنا نعلم أنه رحمه الله، يتألم في صمت محتسبا بإيمانه بالله ثم يقينه بأنه على حق، واستطاع أن يبقى متماسكا ومصرا على أداء رسالته النبيلة، وغرس معالم على طريق النهضة في عقول وقلوب شباب من بلاده، ولو على حساب صحته واستقرار أسرته، ولقد دون تلك المعانات في دفاتر مذكراته.
في خريف سنة 1971، زار مجموعة من الطلبة الأتراك وزوجاتهم المتحجبات مسجد الطلبة والأستاذ بن نبي وقررنا في المسجد أن نقيم على شرفهم مأدبة عشاء وتطوعت لذلك، وذهبت مع الأخ عبد القادر حميتو لدعوة الأستاذ مالك فقال لي -وهو يعلم أن السهرة ستطول- إذا ممكن أن أبيت عندكم لأني لا أحبذ العودة في ساعة متأخرة من الليل، فرحبت به وقضى ليلته في بيتنا العائلي في بولوغين.
كانت هذه المناسبة بمثابة إخطار لنا بأنه يتعرض إلى مضايقات، ومن يقرأ دفاتره اليومية التي تمثل الجزء الثالث من مذكراته، خاصة التي دونها بعد عودته إلى الجزائر، يتعرف على ما تعرض له من ابتلاء، وما تحمل من أجل أفكاره ومواقفه، ولقد وصل الأمر إلى الاعتداء الجسدي عليه سنة1971 عندما فشل أعداءه في هزيمته فكريا ونفسيا، بعدها قرر الإخوة وعلى رأسهم الأستاذ عبد الوهاب حمودة رحمه الله بأن يقوم بعض الطلبة بالمبيت عنده وبالتناوب لإشعاره بالاطمئنان والمؤانسة.
كان مهددا بإخراجه من بيته ولذلك شرعنا في السعي لاقتناء منزلا له تحسبا لذلك.
وبالرغم من كل المعاناة، كنا في بيته، رحمه الله، أثناء الندوة نشعر كأننا في قاعة دراسة لا في بيت خاص عامر بأهله من فرط السكينة والهدوء الذي يغمره، ولقد كنت مواظبا على حضور الندوة لسنين طويلة ولم أذكر أنه وقع يوما وأنا حاضر في الندوة، ضجيج أو شجار أو حدث عائلي يجعل الأستاذ يقطع الندوة أو ينشغل عنها، فالمرة الوحيدة التي انسحب فيها الأستاذ من الندوة، والتي قرأت عنها ولم أحضرها بسبب أدائي للخدمة الوطنية، كانت يوم 23/05/1973 حين استلم برقية عاجلة من مستشفى فرنسي تخبره بوفاة زوجته الأولى خديجة، فتأثر وطلب من الأخ رشيد بن عيسى مواصلة الندوة ودخل بيته والألم يعتصر قلبه، كما وصف ذلك في دفتر مذكراته لذلك اليوم.
من المعلوم أن بن نبي رحمه الله كان كثير الحذر والحيطة وهو الخبير في الصراع الفكري وأساليبه المتنوعة التي عانى منها طوال حياته، فلم يكن إذن من السهل أن يطلع الحضور على العلاقات التي تربط ساكني ذلك البيت أو نمط حياتهم مثلا، ولكن مع مرور الزمن أصبحت تربط بعضنا وبالأخص نحن الأوائل، بالأستاذ علاقة ود واطمئنان، كما كانت لنا معه لقاءات خارج الندوات، ومناسبات أتاحت لنا فرصة التعرف عليه عن قرب، وفي مكتبه الخاص، الذي يقع جنب القاعة الفسيحة التي تقام فيها الندوة الأسبوعية ويفتح فيها الباب الخارجي للمنزل، كان يصلي بنا في مكتبه العصر أو المغرب أحيانا، كما كانت زوجته الكريمة تقدم لنا في تلك الزيارات الخاصة القهوة مصبوبة في فناجين بعددنا، وكانت بناته يأتينه من حين لآخر، وذلك لم يحدث أبدا في الندوة الأسبوعية، فيتهلل وجهه فرحا، ويستقبلهن بابتسامة عريضة تظهر عاطفة الأبوة، والسعادة التي تغمره لرؤيتهن، كان بيته من حيث “عالم الأشياء” كما يسميها الأستاذ متواضعا، لا يختلف عن بيوت الجزائريين البسطاء، لا بهرجة فيه ولا تكلف، ولكنه نظيف، عامر بالسكينة والمودة بين أفراده.
كان رحمه الله يتسم بالأناقة والاعتناء بمظهره في بيته أو في الشارع، أثناء الندوة كان يرتدي منامة ومعطف البيت مع البرنوس في الشتاء، ولكن في الشارع لا تراه إلا ببدلة أنيقة وربطة العنق.
يتصف بن نبي بالثقة في النفس والاقتناع الراسخ بصحة أفكاره، ولذلك كان جريئا في إبداء آرائه والمجاهرة بأفكاره، وكانت تلك الصفات ملازمة لشخصيته منذ شبابه كما أثبت ذلك في مذكراته.
لم تكن ندوة الأستاذ مالك، رحمه الله، نظريات وأفكارا مجردة، بل كانت تشريحا لوضعية تخلفنا وإظهار سبل تغييرها، كما كانت منبرا للمعرفة وطرق اكتسابها؛ فكان بن نبي على اطلاع بكل ما يصدر من كتب وفي كل المجالات وكان تأتيه خاصة عن طريق صديقه الدكتور عبد العزيز خالدي، وكان كثيرا ما يفتتح الندوة بملخص لكتاب جديد أو مقال مهم في صحيفة، وفي ذلك حث على المطالعة والاطلاع على الأفكار مهما كان مصدرها، كما كان لكل حدث طارئ أثناء الأسبوع نصيبه من التحليل وتشريح سياقاته ومدلولاته، أذكر منها على سبيل المثال، اعدام الشهيد سيد قطب ومناقشة كتابه معالم في الطريق حين صدر في طبعته الفرنسية، وكتاب الشهيد “مالكوم إيكس”، أو مغزى “حركة الامريكان السود” وإسلام ونجاحات الملاكم محمد علي كلاي، وذكرى المحطات الوطنية الكبرى وبعض الشخصيات، وحرب الانفصاليين المسيحيين في بيافرة بنيجيريا، وانفصال بنغلاديش على الباكستان…
كان للأستاذ مالك الفضل في حثنا على إيجاد مصلى في الجامعة، كما كان له مع الأخوين رشيد بن عيسى وعبد الوهاب حمودة الفضل بعد الله في فكرة عقد مؤتمرات الفكر الإسلامي، والمساهمة في وضع برامجها خاصة الأربع الأوائل كما كان محاضرا أساسيا خلالها، وكنا نحن طلبة ندوته المؤطرين الأساسيين لها.
تزامن الملتقى الأول مع افتتاح مسجد الجامعة في عطلة شتاء 1968، وعقب ذلك عرفت الندوة ارتفاعا كبيرا في عدد الحضور من الطلبة والطالبات وكثير منهم معربين فأقام الأستاذ بن نبي ندوة خاصة بهم يوم الأحد، وبعد افتتاح المسجد أنشأنا مجلة مسجد الطلبة تحت عنوان “ماذا أعرف عن الإسلام” كما شرعنا في طباعة بعض كتب الأستاذ بن نبي.
لقد أتاحت لنا ندواته الفرصة لمعرفة بعض أصدقائه، كالدكتور عبد العزيز خالدي، والبروفيسور الجراح علي العقبي، والسيد المهندس الفلاحي صالح بن ساعي (وهو الشقيق الأصغر لملهمه ورفيقه في المعاناة والنضال الفكري السيد حمودة بن ساعي)، والدكتور عمار طالبي الذي كان يحضر بعض الندوات، كما كان يحضرها من حين لآخر الدكتور كريبع النبهاني أستاذ الفلسفة، والممثل الأديب إبراهيم حيمود (مومو)، والأستاذ العربي غولة، وغيرهم.
لكن من بين هؤلاء جميعًا يبرز اسم الطبيب الدكتور عبد العزيز خالدي، وذلك بسبب علاقته الخاصة والقديمة بالأستاذ بن نبي.
كان الدكتور خالدي كثير التردد على الأستاذ بن نبي وعندما يأتيه يختلي به في مكتبه الخاص ثم ينصرف؛ ولقد شاهدته مرارا يأتي صحبة آخرين من بينهم السيد الحاج يعلى والي العاصمة، وقال لي أخيرا أستاذي في مادة الفيزياء في سنتي الجامعية الأولى، السيد “يوسف منتلشتا” أطال الله في عمره أنه كثيرا ما كان يزور الأستاذ بن نبي صحبة الدكتور خالدي وأسر لي أن هذا الأخير كان يخصه بمحبته وحمايته، والسيد “يوسف منتلشتا” هو أول دكتور جزائري في مادة الفيزياء وأول مدير لجامعة الجزائر برتبة دكتور خلفا للسيد مالطي الذي حل محل الأستاذ بن نبي. ولقد خص الأستاذ بن نبي الدكتور “يوسف منتلشتا” بمقال في صحيفة الثورة الإفريقية ليوم 20 جانفي 1967 تحت عنوان “تشريف الذكاء”.
هذه نبذة حول صحبتي لبن ني والندوة الفكرية الأسبوعية التي أقامها، في بيته منذ السنة الجامعية 1964/1965 إلى أن وافته المنية سنة 1973 رحمه الله وجازاه خيرا عن كل ما قدمه من أجل نهضة أمته ويقظة شعبه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!