-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حضور فكر مالك بن نبي في جنوب شرق آسيا

بقلم: د. بدران بن لحسن
  • 320
  • 0
حضور فكر مالك بن نبي في جنوب شرق آسيا

إن الحديث عن حضور فكر مالك بن نبي في جنوب شرق آسيا يحتاج منا خطوة أولية تتعلق بحضور هذه المنطقة في فكره، لنعرف بعدها كيف انتقلت أفكاره إلى تلك المنطقة التي تمثل اليوم ثقلا ديموغرافيا واقتصاديا وثقافيا في العالم الإسلامي.
وقد اهتم بن نبي بالمنطقة منذ وقت مبكر، فكتب (فكرة الإفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ) آملا أن يكون كتابه دفعة تنظيرية لفكرة التحرر التي تحملها شعوب ما كان يسمى “دول عدم الانحياز”، وهي شعوب في غالبها إفريقي آسيوي تسعى للتحرر من الاستعمار ومن استقطاب المعسكرين الشيوعي والليبرالي. غير أن أمله هذا لم يجد له صداه الذي توقعه عند القادة السياسيين، رغم تواصله الشخصي معهم، وسعيه العملي لتوصيل أفكاره.
ولكن، من الناحية النظرية، فإن بن نبي قد ختم كتابه (وجهة العالم الإسلامي) بعنوان استشرافي تحت اسم (المآل الروحي لعالم الإسلام)، رأى فيه أن العالم الإسلامي ظل، خلال قرون طويلة، متجمداً في أشكال، أدت إلى وجود القابلية للاستعمار فيه، ونتج عنها الاستعمار. واليوم يتحرك العالم الإسلامي نحو الغد المأمول، أو بعبارة أخرى: “إن تاريخه قد استعاد حركاته، ودبت فيه الحياة، إذ أصبح في وضع متحرك، وتكشفت له بعض الآفاق منذ قريب”.
ورأى بن نبي أن سبب هذه الحركية الجديدة أمران؛ أولهما حركات الإصلاح والتحديث في العالم الإسلامي، أما الأمر الثاني فيعود إلى الظواهر الكبرى لانتقال الحضارة في مستواها العالمي؛ بانتقال مركز الحضارة من البحر المتوسط إلى آسيا، حيث اعتبر هذا الأمر الثاني إحدى الظواهر الجوهرية منذ الحرب العالمية الثانية، وانتهى تركّز العالم على شواطئ البحر الأبيض، وتشكل فيه قطب شرقي مقابل للقطب الغربي الذي كان يتحكم في كل شيء.
وفي هذا السياق التاريخي، “أصبح العالم الإسلامي يخضع لجاذبية جاكرتا، كما يخضع لجاذبية القاهرة أو دمشق” كما يقول. وهذا الانتقال إلى مرحلة آسيوية، يراه بن نبي سيحدث تأثيرا نفسيا وثقافيا وأخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، يجعله يتحكم في مستقبله، وتشكيل الإرادة الجماعية لهذا العالم. وهذا الانتقال، سيسجل “تحرر العالم الإسلامي من معوقاته وقيوده الداخلية” التي ورثها عن عصور التخلف وعن استكانة العالم العربي للقابلية للاستعمار.
وقد رأى بن نبي أن هذا الاتجاه واضح في باكستان وإندونيسيا، ومعها ماليزيا وبقية دول جنوب شرق آسيا. بالرغم من أن الإسلام فيها حديث نسبيا إذا قورن بعهده في العالم العربي. وهي كما يرى “بلاد جديدة فتية يتفوق فيها جانب الفكر والعمل على جانب العلم التقليدي المغلق؛ وإن العالم الإسلامي لقادر هنالك على تجديد نفسه، فيتحول إلى طاقة ناشطة، ويتعلم طرق الحياة”. بهذه النظرة وهذا الأمل نظر بن نبي إلى جنوب شرق آسيا المسلم؛ نظرة تفاؤل بأن يكون موطئ قدم نهضة حضارية إسلامية جديدة.
والعجيب أن السنة التي توفي فيها مالك بن نبي (1973)، هي السنة التي شهدت أول بدايات حضور فكره في تلك الديار، وبداية تأثر نخبتها بفكره وأطروحته ومنظوره الحضاري لمعالجة مشكلات الحضارة الإسلامية، حيث يذكر لي الدكتور محمد نور منوتي في حديث معه أنه في عام 1973م، وخلال المؤتمر الدولي التاريخي للشباب الإسلامي، الذي نظمته الحكومة الليبية في عهد معمر القذافي، شكل أنور إبراهيم، الأمين العام أنذاك لـحركة الشباب الإسلامي الماليزي، وفدا يضمه هو وصديق فاضل (الرئيس السابق لاتحاد الطلاب المسلمين الماليزيين الوطنيين) وخمسة أعضاء آخرين من حركة الشباب المسلم، لحضور مؤتمر طرابلس. وهناك اقتنى الوفد مجموعة من الكتب باللغة العربية، وكان من بينها بعض كتب مالك بن نبي، ومن أهمها كتاب شروط النهضة وغيرها.
ويؤكد منوتي أنه بعد عودته من ليبيا، تدارس أنور إبراهيم مع قادة حركة الشباب المسلم الماليزي أفكار مالك بن نبي من خلال حلقات دراسية أسبوعية. وصار الأستاذ صديق فاضل وهو أحد مثقفي حركة الشباب المسلم الماليزي البارزين والذي يتقن قراءة وكتابة اللغة العربية أهم شخص يشرح أفكار مالك بن نبي. وبعد استيعاب فكر بن نبي، بدأ قادة حركة الشباب المسلم الماليزي في شرح هذه الأفكار لمنسوبيها في جميع أنحاء البلاد.
وعندما انضم أنور إبراهيم إلى السياسة الوطنية وأصبح وزيراً في عهد محاضير محمد من 1982 حتى 1998، دافع أنور إبراهيم عن فكرة القابلية للاستعمار عند بن نبي، ورأى أنها آلية مهمة لفهم هزيمتنا الداخلية وأن مشكلاتنا داخلية أساسيا وينبغي أن نتحرر من هذه القابلية للاستعمار لنتمكن من بناء نهضة حضارية، وقدم ذلك في محاضرة شهيرة عام 1978 بعنوان “دعوة إلى الإسلام”، وردد رأي مالك بن نبي في أن القادة المسلمين الجدد في العالم الإسلامي كانوا مسؤولين عن استمرار الاستعمار.
ومن جهته كان صديق فاضل (1982-1991) أكثر قادة الشباب المسلم الماليزي الذين تبنوا فكر مالك بن نبي منذ بدايته وحتى اليوم، وظهر ذلك جلياً في كتاباته ولقاءاته العامة. فخلال المؤتمر السنوي الثاني عشر لحركة الشباب المسلم الماليزي في عام 1983، شرح صديق فاضل أفكار مالك بن نبي عن استمرار الفشل في واشنطن وموسكو للدفاع عن التقدم المادي. ونتيجة لذلك، توفر فرصة كبيرة للمسلمين لتشجيع الإسلام كبديل، ربما هذه فترة تاريخية واستراتيجية للأمة الإسلامية، لكن صديق كان يرى كما يرى مالك بن نبي أنه إذا أراد المسلمون أن يقدموا الإسلام كبديل في نهاية القرن العشرين، يجب على المسلمين أن يكونوا في مستوى الحضارة.
كما كان صديق فاضل شديد التأثر بأفكار مالك بن نبي، متبينا لأطروحته في مشكلة الأفكار، وفي نقد الكسل الذهني وفوضى الأفكار في العالم الإسلامي. وفي خطاب حركة الشباب المسلم الماليزي بمناسبة المؤتمر الواحد والعشرين للحركة، ذكر اسم مالك بن نبي كمفكر اجتماعي وثقافي مع مفكرين بارزين آخرين عند مناقشة أفكارهم الإصلاحية.
وفي عام 1994، نشرت حركة الشباب المسلم الماليزي كتاب الدكتورة فوزية بريون الباحثة الليبية بعنوان (مالك بن نبي: حياته ونظرية في الحضارة) وذلك في إطار الاستراتيجية الفكرية والثقافية للحركة من أجل تعريف القراء بآراء ومساهمات هؤلاء المفكرين البارزين، كما دعمت ترجمة كتبه إلى الماليزية والإنجليزية ونشرها على نطاق واسع.
إن تبني أفكار بن نبي من قبل حركة الشباب المسلم، وعلى رأسهم أنور إبراهيم وصديق فاضل وغيرهما، وانتشار بعض كتبه بين النخبة، فتح المجال لانتشار أفكاره في الوسط الأكاديمي، وبخاصة بعد تأسيس الجامعة الإسلامية العالمية في 1988. فبإعداد من أنور إبراهيم الذي كان وزيرا للتربية أنذاك، قام محاضير محمد بالإعلان عن تأسيس الجامعة، التي كانت جامعة عالمية في برنامجها وهيئتها التدريسية وفي جنسيات طلبتها. وقد انضم إليها باحثون وأساتذة ماليزيون من حركة الشباب المسلم ومن العالم العربي والإسلامي ممن كان لهم معرفة عميقة بفكر بن نبي.
كما تم تنظيم ندوتين دوليتين عن مالك بن نبي في جامعة ملايا في كوالالمبور في 1991، حيث قام معهد الدراسات السياسية بكوالالمبور ، برئاسة أنور إبراهيم ، وزير التعليم أنذاك ، بالتركيز على العمل مع معهد الدراسات العليا بجامعة ملايا لجلب العديد من العلماء المحليين والدوليين لمناقشة العديد من القضايا الملحة في المجتمع الإسلامي حول موضوعات النهضة والتنمية والتغير الاجتماعي والتخلف والمسائل الأخرى ذات الصلة.
وكان العقل المدبر لهذا المؤتمر الدكتور عثمان بكر، الأمين العام لحركة الشباب المسلم الماليزي (1975 – 1981)، الذي أصبح فيما بعد أستاذاً لفلسفة العلوم في جامعة ملايا. أشرف أنور إبراهيم على المؤتمر. وقدم المفكر الماليزي الأستاذ محمد كمال حسن عرضًا ممتازًا للتفكير الشامل لمالك بن نبي ومساهمته الكبيرة في إحياء الفكر الإسلامي، واستغرق المؤتمر أربعة أيام، مما يدل على جدية الاهتمام بأفكار مالك بن نبي ومساهماته في التنظير لحل مشكلات الأمة الإسلامية.
ثم بعد ذلك توسع العمل على فكر بن نبي في بقية الجامعات الماليزية، فقد تمت كتابة العديد من الأطروحات والرسائل الجامعية وأوراق العمل في موضوعات مختلفة في معهد ماليزيا للتعليم العالي في كليات الدراسات الإسلامية بجامعة ملايا، وفي الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا وجامعة بوترا، والجامعة الوطنية، وغيرها. وكان من بين خريجي الجامعة الإسلامية العالمية وبقية الجامعات طلبة من إندونيسيا وبروناي وسنغافورة والفلبين وتايلندا أنجزوا بحوثا وأطروحات أكاديمية في فكر مالك بن نبي.
ولكن هذا لا ينسينا أن نموذج التنمية الماليزي الذي قاده محاضير محمد وأنور إبراهيم كان قد تبنى خيارات ثقافية واجتماعية واقتصادية استراتيجية من أطروحة بن نبي في مركزية الإنسان، وأهمية العامل الثقافي في التنمية والتحضر، ودور الروح في تحرير الطاقات الإنسانية، وفي وضع رؤية تنموية تستحضر الانتماء الحضاري للمجتمع في ماليزيا، وفي إندونيسيا، اللتان تقودان تجربة تنموية أعطت ثقلا جديدا للأمة الإسلامية، قد لا يتوفر في بقية مناطق جغرافيا المجتمعات الإسلامية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!