-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

مداخل التجديد التربوي العربي في ضوء المشروع الحضاري عند بن نبي

بقلم: د. حسان عبد الله حسان
  • 206
  • 0
مداخل التجديد التربوي العربي في ضوء المشروع الحضاري عند بن نبي

توجّه القراءة المتأنية لمشروع مالك بن نبي إلى مداخل عديدة يحتاجها النظام التربوي العربي المعاصر، يمكن أن نشير إلى أهم تلك المداخل الكبرى في المسارات التالية:

1 / إعادة النظر (أو تجديده) في ما يتعلق بطبيعة التربية ووظيفتها، على أساس أنها – أي التربية – عملية تستهدف “بناء إنسان الحضارة” أو تهيئ الإنسان لبناء المجتمع الحضاري، باعتباره العنوان الرئيس الذي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، “فالتربية مشروع يستهدف بناء مجتمع تاريخي من خلال إعداد الإنسان المتحضّر الذي يكون نواة هذا المجتمع، الذي ينتظر منه أن يسجل حضوره في التاريخ، بما يساهم في ترسيخ معاني التكريم الرباني للجنس البشري وبما يضيفه إلى الحياة البشرية من أبعاد عقدية وخلقية ترقي هذه الحياة وتزكيها وتباركها، ومن ثمّ، تؤهلها للإنجاز الناجح للوظيفة التاريخية التي كلف بها الإنسان من قبل الإرادة الإلهية” (1) وبهذا، تكون التربية المرجوة تربية حضارية تسعى إلى إنشاء مجتمع الحضارة التاريخي وليس مجرد القيم على تلبية احتياجات الإنسان الضرورية اليومية أو الحياتية الضيقة.

2 / مركزية الدين أو الفكرة الدينية في الفلسفة التربوية الحضارية التي تسعى لـ”بناء إنسان الحضارة”، وهذا يعني أن فلسفة التربية ينبغي أن تجمع بين عالمين (الشهود والغيب) في تكامل بينهما، ولا تجنح إلى أحدهما على حساب الآخر، وهو ما يؤدي إلى اعتبار الدين (عقيدة ومفاهيم وتصورات ومنهج تفكير) الأساس في تركيب العناصر الجديدة للعملية التربوية وفي مدخلاتها، فالدين هو الفكرة الدافعة الرئيسة لبناء مجتمع الحضارة، وهو صاحب الدفعة في تحقيق العالمية الإسلامية الأولى. ومن ثمّ، فإن مركزيته تستدعي حيوية للفرد والمجتمع كان لها رصيد التجربة عندهم.

3 / تكامل المعرفة في مصادرها ووسائلها، فلسفة التربية الحضارية –أيضا- ترتكز على فكرة “تكامل المعرفة” في النظر إلى مصادرها أو وسائلها بإدماج الوحي كمصدر رئيس لها مع باقي المصادر النظرية الأخرى، أي أن المعرفة في تصور التربية الحضارية تقوم على الجمع بين المصادر الإلهية (الوحي)، والاجتهادات البشرية (العقل، الحس) وما نتج عنهما من نظريات وعلوم ومعارف مختلفة، مع مراعاة تباين درجات المعرفة، ومعايير النظر إلى كلٍ منهما.
4 / الإنسان محورًا للتربية الحضارية؛ ينبغي أن يكون الإنسان هو المحور الأساس للتربية الحضارية؛ لأنه هو الذي يحرك التاريخ والمجتمع، فإذا تحرك الإنسان، تحرك المجتمع والتاريخ وإذا سكن، سكن المجتمع والتاريخ. وهذا يتطلب شمولية النظرة للإنسان بأن تدور تربيته حول ثلاث دوائر: التزكية والتعليم والحكمة. وذلك “بوصف الإنسان خليفة الله في الأرض والكائن الحي المكلف، صاحب الملكات والمواهب والذي سخر الله الكون له، والمؤمن برسالات السماء صاحب الدور الحضاري الخلاّق، باعتبار أن الهدف الأساسي هو تمكين الإنسان من أن يكون صالحًا، فاضلاً طبقًا لما جاء به الإسلام”. (2)

5 / “الرأسمال الفكري” – وهو من إبداعات التربية الحضارية عند مالك بن نبي – من المقومات الأساسية لفلسفة التربية الحضارية ويقوم هذا المرتكز على اعتبار أن “الفكرة” أهم ثروة في المجتمع يمكن أن يتحصل عليها، وهذا يعني أن تدعّم هذه الفلسفة “قيمة الفكرة” في البناء التربوي للإنسان لما لها من دور في تحقيق الإشعاع الحضاري. وهذا يتطلب – أيضًا – تنقية “عالم أفكار” النظام التربوي من كل ما علق به من اختراقات معرفية وثقافية تأصّلت فيه، وأن يتم اكتشاف الأفكار الصالحة في تراثنا ومصادرنا الفكرية، لتكون سبيلًا للتأهيل التربوي الحضاري.

6 / شبكة العلاقات الثقافية والاجتماعية: من الضرورات المعرفية أن تتضمن فلسفة التربية الحضارية تصورات ومفاهيم حول إنشاء بناءات جديدة لشبكة العلاقات الاجتماعية والثقافية في النظام التربوي وفي تنشئة الإنسان، التي تمتد بتأثيراتها إلى المجتمع، والذي تمزقت فيه هذه الشبكة الاجتماعية والثقافية، بسبب الخلل الذي وجد في الإنسان الفرد. واستعادة فعالية هذه الشبكة رهن بمعالجة الخلل الذي أصاب الذات المسلمة، ورهن باستعادة فعاليتها الاجتماعية والثقافية.

7 / الأصالة – الذاتية الحضارية، يقوم هذا المرتكز في الفلسفة التربوية الحضارية على معالجة أمرين: أولهما، التخلص من الأفكار المستوردة في النظام التعليمي والتربوي العربي والمسلم، حيث أن هذه الأفكار التي تم استيرادها من النموذج المعرفي الغربي ومحاولة إنباتها في واقعنا منذ عصر التعليم الحديث لم تنتج حضارة، ولم تساهم في حل أزمات المجتمع المسلم الحضارية، وهو ما يعني عدم صلاحية الأفكار المستوردة في فلسفة وبرامج التربية التي تنقل من مجتمع لآخر؛ لأن التربية وأفكارها “بنت بيئتها التي نشأت فيها”. وفي نفس الوقت، فإن فلسفتنا التربوية في حاجة إلى التخلص – أيضًا – من الأفكار القاتلة التي ورثناها من عصور التراجع الحضاري، وهذا يعني العمل على تنقية التراث التربوي مما علق به من شوائب؛ إبداع “منهجية جديدة للتعامل مع تراثنا التربوي يكون عنوانها “منهجية الاستفادة”، وتتجاوز بذلك منهجيتي “الاستعادة المطلقة” أو “الرفض المطلق”، أن تكون منهجية قائمة على توظيف التراث بالقدر الواقعي واللازم لحل مشاكلنا التربوية. وثانيهما: العمل على تأصيل العلوم والمعارف التربوية استنادا إلى نموذجنا المعرفي التوحيدي بمكوناته التصورية والمفاهيمية وأطره المرجعية.

8 / الفعالية، يأتي هذا المرتكز لمعالجة ما يعانيه نظامنا التربوي من غلبة “اللفظية” عليه، والتي أصبحت حرفة للعقل العربي، صرفته عن تحقيق واقع أفضل له وقادر على تحقيق طموحاته، وهذا ما جعل “الحفظ والاستظهار” جوهر العملية التربوية في عالمنا العربي والإسلامي؛ وغابت معها الفعالية وفيها، وهذا يوجب أن تدعّم فلسفة التربية الحضارية مبدأ “الفعالية”، حيث يربط المتعلم بين ما يتعلمه وبين واقعه، أي أن يكون للتعلم مردودًا اجتماعيًا وقيميًا وحضاريًا في واقع المتعلم والمجتمع المحيط حوله، وأن تكون أهدافه تعالج مشكلاته الحضارية الحقيقية لا مشكلات حضارة أخرى، وأن تراعى إمكاناته واحتياجاته وأهدافه هو، لا إمكانات واحتياجات وأهداف حضارة أخرى.

9 / المقصدية الحضارية، يعاني نظامنا التربوي والتعليمي من غياب “الهدفية” و”المقصدية” وهو مترتب بالضرورة على عدم وجود فلسفة تربوية واضحة لهذا النظام، وفيما يستفاد في هذا العنصر إبداع “مقصدية حضارية” الفلسفة والتربية ولمكونات النظام التعليمي (الميدان التطبيقي لها). والمقصدية الحضارية هي “الإدراك والوعي للحالة الحضارية القائمة التى يعيشها المجتمع العربي والإسلامي وهي مرحلة ما بعد التحضّر”، ومن ثمّ، نعنى بها في النظام التعليمي “إعداد الإنسان لمرحلة التحضّر أو مجتمع الحضارة”، وهذا يتطلب: إدراك الحالة الحضارية القائمة وجوانب الخلل فيها، الوعي بالمقومات التربوية والثقافية القادرة على تحقيق النهوض، تشييد (تحديد) الأهداف التربوية الناجزة للفعل الحضاري مبينة دور النظام التربوي والتعليمي فيها.

10 / التغيير الذاتي: المبدأ التغييري للتربية الحضارية هو “التغيير الذاتي” استنادًا إلى النهج القرآني “إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”، (الرعد:11)، وهذا يعني تقديم مبدأ التزكية على التعليم. وهذا ما ينبغي أن تتضمنه فلسفة التربية الجديدة في أهدافها ومفاهيمها. ذلك لأن العامل النفسي هو الأساس في “التغيير” الذي هو هدف التربية والتعلم بالأساس، وأن العامل النفسي هو الأساس- أيضًا – في الانتقال إلى مجتمع التحضّر أو مجتمع الحضارة. وهذا يتطلب في النظام التعليمي تهيئة المناخ المعنوي والمادي من أجل تحقيق هذا النمط من التغيير الذي يعد الخطوة الأولى نحو أي إصلاح مطلوب سواء على المستوى الفردي أو الجماعي أو الحضاري.

هوامش:
(1) عمر النقيب: “مقومات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي التربوي”، ص:66.
(2) علي خليل مصطفى: “أصول الفكر التربوي الحديث بين الاتجاه الإسلامي والاتجاه الإسلامي والاتجاه التغريبي”، ص: 496.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!