-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

“الحرب الدائمة”

“الحرب الدائمة”

عقد آل القاسمي عزما، وتسلحوا عزما، فقرروا أن يسنوا في زوايتهم بالهامل سنة حسنة يضيفون بها إلى الوظيفية المعروفة للزاوية من تحفيظ للقرآن الكريم وتدريس للعلوم الشرعية والعربية، واصلاح ذات البين وظيفة أخرى، وهي أن تكون قوة إقتراح بمناقشة قضايا ذات تأثير على مصير الوطن والأمة، قد لا يوليها المسؤولون ما تستحقه من اهتمام، أو يتخذون في شأنها قرارات تحت اكرهات ـ داخلية أو خارجية ـ تكون عواقبها سيئة.

  • إن السنة الحسنة التي أعنيها هي إحداث ندوة فكرية دورية اختير لها عنوان “المنبر القاسمي”، الذي أقيمت ندوته الأولى يوم الخميس 2 جويلية الماضي.
  • لقد أحسن صنعا القائمون على هذه الزاوية العلمية ـ وفي مقدمتهم الأخوان الفاضلان الشيخ محمد المأمون، والأستاذ محمد المهدي ـ عندما استفتحوا هذا المنبر بمناقشة ما اعتبره أخطر قضية، وهي قضية الهوية التي أسميها “الحرب الدائمة”، لأن الحروب المسلحة ـ وكثيرا ما تكون الهوية سببا في نشوبها ـ لابد أن تنتهي مهما يطل أمدها. ألم تنته الحروب الصليبية المسلحة التي استمرت قرنين كاملين؟ ألم تتوقف الحرب الجزائرية الإسبانية التي دامت ما يقرب من ثلاثة قرون؟ ولكن “حرب الهوية” هي التي جعلت الجنرال الانجليزي اللنبي يقول عند دخوله مدينة القدس الشريف في ديسمبر 1917: “اليوم انتهت الحروب الصلبية”، بالرغم من انقضاء سبعة قرون على انتهاء الحروب الصليبة المعروفة، وإن “حرب الهوية” هي التي جعلت الجنرال الفرنسي غورو عندما دخل دمشق في سنة 1920، يسرع الخطى إلى ضريح المجاهد صلاح الدين الأيوبي، ويقول شامتا: “ها قد عدنا يا صلاح الدين”، كما أن “حرب الهوية” هي التي أنطقت رئيس حكومة فرنسا ووزير خارجيتها، جورج بيدو، فقال ـ في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي عندما اندلعت العمليات الجهادية في المغرب العربي ـ: “إن الصليب سيحطهم الهلال”
  • (la croix ècrasera
  • le croissant)، فكان رد الشعب الجزائري عندما نصره الله على قوم جورج بيدو في عام 1962 هو:
  • يا محمد مبروك عليك   
  •  الجزائر رجعت ليك
  • لقد استندت في تسيمة صراع الهوية “الحرب الدائمة” إلى قوله تعالى “ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم..”، فهذه الآية الكريمة وإن نزلت في “سرية نخلة” إلا أنها عامة، يؤيد ذلك صيغة المضارع التي وردت فيها، فالمضارع يفيد التجدد والاستمرار، كما تؤيد ذلك شواهد التاريخ التي تؤكد أنه منذ بزغ فجر الإسلام واعداؤه في مشارق الأرض ومغاربها يكيدون له للإتيان عليه والتخلص منه، ويتربصون بأتباعه من شعب مكة إلى غوانتنامو..
  • إن المتأمل في هذه الآية الكريمة يلحظ أمرا هاما وهو أنها لم تذكر وسيلة القتل التي يعتمدها ويستعملها أعداؤنا لردنا عن ديننا، وذلك لأنها قضية ثانوية، وهي وسيلة متغيرة، وقد لايكون ذلك “الرد” بسلاح مادي.. وما أكثر ما ينفق أعداؤنا من أموال على وسائل الإعلام.. ـ التي سميت بحق “وسائل التضليل الشامل” ـ لصدنا عن ديننا، أي تجريدنا من هويتنا الرئيسية.
  • لقد أشار الأستاذ مالك بن نبي ـ رحمه الله ـ إلى منهاجين يستعملهما أعداؤنا في “قتالهم” لنا، وهما:
  •  الإبدال، أي نزع الإسلام منا وإعطاؤنا بديلا منه. (نصرانية، شيوعية، هندوسية، كونفوشيوسية…) فإن لم يستطيعوا كان منهاج:
  • الإغراق، أي إغراق ديننا بمجموعة من “الأفكار”، وإيهامنا أنها لا تتناقض مع الاسلام، إن لم تكن هي الإسلام فيتسنه طعمه، ويتغير لونه، وتتبدل ريحه، ولهذا ظهرت بيننا مصطلحات نشاز مثل “اشتراكية الاسلام”، “ديموقراطية الإسلام”، “المسلمون الكاثوليك”..
  • إن الهوية الرئيسية لنا نحن المسلمين هي الإسلام، فقد جاء في القرآن الكريم حكم ربنا سبحان وتعالى: “إنما المؤمنون إخوة”، وجاء فيه أيضا: “وأن هذه أمتكم أمة واحدة”، وإن تباعدت أقطارها وتعددت ألسنتها واختلفت ألوانها.. ولهذا لم يرد في القرآن الكريم مصطلح “الدولة”، في حين نجد مصطلح “الأمة” يتردد كثيرا. وقد لفتت هذه القضية نظر المفكر مارسيل بوازار، فانتهى إلى القول: »أن فكرة “الأمة” خاصة بالإسلام(1)«، وأنه »ليس لفكرة الأمة« الإسلامية مقابل في فكر الغرب، ولا في تجربته التاريخية(2)«.
  • ليس معنى “الأمة” أن يتنكر المسلم لوطنه، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – مخاطبا مكة المكرمة: “والله إنك لأحب البلاد إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت”؛ فإذا كات “المؤمنون إخوة”، وهم” أمة واحدة”؛ فالأقربون أولى المعروف، ولهذا كان الإمام إبن باديس، وهو أحد أهم المدافعين عن هوية الجزائر يقول: “أعيش للإسلام وللجزائر”.
  • لقد أجمع المشاركون في هذه الندوة الأولى من هذا “المنبر القاسمي”، وهم الأساتذة بلحاج شريفي، وسعيد شيبان، وعبد الرزاق ڤسوم، وعبد الوهاب حمودة، وعثمان سعدي، ومحمد الصغير بلعلام، وكاتب هذه السطور، وما منهم إلا له مقام معلوم في العلم والعمل؛ أجمعوا على أن “الهوية الجماعية” للجزائريين هي: 
  •  الإسلام، الذي وحدنا بعد ما كنا طرائق قددا، وقبائل متنافرة، وعروشا متدابرة متناحرة، وقد أصاب أعداؤنا الفرنسيون عندما سموه “العنصر الموحد”.
  • اللغة العربية، لأنه لا يمكن بغيرها أن يفهم الإسلام فهما دقيقا، وهي التي اختارها الله – العليم الخبير – لغة كتابه الخاتم، فوسِعته لفظا وغاية، وهي التي ارتضاها آباؤنا الأولون، ولم يتخذوا ـ عندما أقاموا دولهم الأمازيغية ـ غيرها لسانا رسميا لدولهم، فوحدت ألسنتنا وأفكارنا كما وحد الإسلام قلوبنا.
  •  الشعور بالإنتماء إلى هذا الطون الكريم، الذي هو جزء غال من الأمة العربية الإسلامسة.
  • إنه لا يضر هذه “الهوية الجماعية” أن تكون ضمنها “هويات فرعية”، كالتعبد بمذاهب مختلفة، وكالتخاطب بلهجات محلية في الشؤون اليومية، وكالتعلق بمناطق معينة.. وصدق من قال:
  • كم منزل في الأرض يألفه الفتى
  •    وحنينه أبدا لأول منزل
  • نشكر الإخوة القاسميين على إحداثهم هذا “المنبر”، وندعو الله ـ العلي القدير ـ أن يمدهم بروح منه ليوفقوا في هذا العمل النوعي، ويستمروا فيه، وننصح لهم ـ وهم ممن يحبون الناصحين ـ أن يأخذوا الأمر بقوة، فهو فصل وما هو بالهزل، وليعدوا للأعداد القادمة من هذا “المنبر” إعدادا كافيا، ولا يكونوا من المستعجلين، و»إن يعلم الله في قلوبهم خيرا يؤتكم خيرا«.
  • 1) مارسيل بوازار: إنسانية الإسلام. ص 145
  • 2) المرجع نفسه. ص 182
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!