-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحركة الإسلامية بين إقامة الدِّين وإقامة الدَّولة

ناصر حمدادوش
  • 820
  • 0
الحركة الإسلامية بين إقامة الدِّين وإقامة الدَّولة

من أخطر المسائل حساسيةً في “فقه المعاصرة”، والتي تواجه الفكر الإسلامي والحركة الإسلامية المعاصرة، هي: سؤال الدَّولة وعلاقتها بالدِّين، أو تلك العلاقة الملتبسة بين “الدِّين والدَّولة” أو بين “السِّياسة والأخلاق” أو بين “الهوية والقيم”. وقد لا تكمن الإشكالية على مستوى الإسلاميين بقدر ما تواجههم على مستوى البيئة الشَّعبية والرَّسمية.

وقد لا تتمركز هذه الإشكالية على المستوى النظري لديهم بقدر ما هي خطيرةٌ على مستوى مفصلية الانتقال من الفكر إلى الفعل لديهم، مع أنه لم تكن هناك إشكاليةٌ جوهريةٌ في تطبيق الأنموذج الإسلامي في المواءمة بين “الدِّين” و”الدَّولة” عبر مسيرة التاريخ الإسلامي تنظيرًا وتنفيذًا، فقد صنع “أتباع النصِّ الديني” روائع الحضارة الإسلامية الأطول في تاريخ البشرية، والتي عاش العالم في ظلالها، وامتدَّت إشعاعاتها إلى الحضارة الغربية المعاصرة عبر الاحتكاك المباشر معها في الأندلس، وعبر سرقة “الأرشيف ومنتج الحضارة الإسلامية” من طرف الدول الاستعمارية المعاصرة.

إنَّ قدَر الفكرة الإسلامية -التي تتناغم مع الطبيعة الدستورية والقانونية للإسلام- هو الوصول إلى الدولة والنهضة والحضارة وأستاذية العالم، كما قال تعالى: حتى لا تكون فتنةً، ويكون الدِّين كلُّه لله(الأنفال:39)، ومن خصائص هذه الفكرة أنها حيَّةٌ ومتحرِّكة ضمن السيرورة السُّننية النَّصية للتجديد على رأس كلِّ مائة سنة لهذا الدِّين، كما قال صلى الله عليه وسلم:إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلِّ مائة سنة مَن يجدِّد لها أمر دينها، وهي صيرورةٌ تاريخيةٌ حتميةٌ في الاستئناف الحضاري للأمة من جديد، وذلك لخصوصية هذه “الفكرة الدينية” التي لا تتعرَّضُ للسُّقوط الكلِّي في غياهب ما بعد الحضارة، وفق ما عبَّر عنه “فيلسوف الحضارة” في العصر الحديث الأستاذ الكبير “مالك بن نبي” (1905م– 1973م)، إذ يقول في إحدى حواراته سنة 1971م: “إنَّ المشكل الرئيسي –بل أمُّ المشكلات– التي يواجهها العالم الإسلامي هي مشكلة الحضارة، وكيف تدخل الشعوب الإسلامية في دورة حضارية جديدة، وكيف تعود الشعوب الإسلامية التي خرجت من حلبة التاريخ لدورة حضارية جديدة.”.. إنَّ سقوط الحضارة الإسلامية ثم الدولة الإسلامية رسميًّا سنة 1924م لا يعني السُّقوط الكلِّي لكلِّ عناصرها، لبقاء “الفكرة الإسلامية” على مستوى الفرد والمجتمع، وهو ما اشتغلت عليه الحركة الإسلامية في القرن الماضي على مستوى “الصحوة الإسلامية” ضمن “فقه الدعوة”، رغم المحاولات الضَّارية للحركة الاستعمارية والاستشراقية التي اجتاحت العالم الإسلامي في العصر الحديث للقضاء عليها عبر المسخ الثقافي والاستيلاب الحضاري، ومحاولات تدجين عناصر الهوية والانتماء.

ولا يمكن التصديقُ في حقِّ الفكرة الإسلامية بالخروج الكلِّي لها من الدورة الحضارية بشكلٍ نهائيٍّ، والخلود في مرحلة ما بعد الحضارة، بسبب ذلك الحِفظ الإلهي النظري للمادة الخام للحضارة الإسلامية، وهو الوحي، في قوله تعالى: إنَّا نحن نزَّلنا الذِّكر، وإنَّا له لحافظون (الحِجر:09)، ولعدم وقوع الفراغ في الرجال الحاملين لهذا المشروع وفق “سنة الاستبدال” المباشر في قوله تعالى: “وإن تتولَّوا يستبدل قومًا غيرَكم، ثم لا يكونوا أمثالكم..” (محمد:38)، ولعدم انقطاع الأنموذج التطبيقي المؤسَّسي الجماعي الحامل لهذا المشروع الرباني، والممتدِّ عبر الزمان والمكان والإنسان وفق الحقيقة النصية في الحديث النبوي الشَّريف: لا تزال طائفةٌ من أمتي على الحقِّ ظاهرين، لعدوِّهم قاهرين، لا يضرُّهم مَن خالفهم ولا مَن خذلهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك..”.

إلاَّ أنَّ التحدِّي الكبير الذي يواجه الحركة الإسلامية المعاصرة، وهي تعيش هذا المخاض العسير لهذه الولادة أو الانبعاث من جديد، هو: تحدِّي عبور الفكرة الإسلامية من الصَّحوة على مستوى خطِّ المجتمع فقه الدعوة، إلى النَّهضة على مستوى خطِّ الدولة، ومنها إلى بناء الحضارة بفقه الدولة، كاستحقاقٍ تاريخيٍّ سُننيٍّ لهذا الاستئناف الحضاري للأمة، كما يعبِّر عنه الدكتور عبد الرزاق مقري، الأمين العام لمنتدى كوالالمبور للفكر والحضارة. ومن المقاربات الحاملة لتحدِّي العبور، هي: مقاربة التخصُّص الوظيفي، وفقه إدارة مجالات العمل الأساسية للحركة الإسلامية، وخاصة في التمييز بين الوظيفة الدعوية من أجل إقامة الدِّين والوظيفة السِّياسية من أجل إقامة الدولة في بُعديهما: الوظيفي التخصُّصي والرِّسالي القيمي. إنَّ المشكلة الأساسية للحركات الإسلامية اليوم هي عجزها عن العبور إلى الدولة، وأنها -بإرادتها أو بغير إرادتها- قد تحوَّلت إلى أحزابٍ سياسية تسعى إلى الوصول إلى الحكم، ولكنها لم تجد إلى ذلك سبيلاً رغم طول مسيرتها وتنوُّع تجربتها، ويرجع السَّبب في ذلك إلى حالات الضُّعف والترهُّل وعدم القدرة على المواءمة بين قيم الدِّين وأدوات الدُّنيا في السَّير بهذا المشروع إلى قدَرِه المحتوم، وهو: الشهود الحضاري، كما قال تعالى:

وكذلك جعلناكم أمةً وسَطًا، لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسولُ عليكم شهيدًا” (البقرة:143)، ولذلك فإنه من الاستحقاقات التي تواجه الحركة الإسلامية المعاصرة، هو موضوع التجديد في حدود الوصل أو الفصل بين السِّياسي والدعوي، وفقه الموازنات بين “إقامة الدِّين” و”إقامة الدَّولة”، وفقه الأولويات في سؤال مدخل الإصلاح والتغيير، هل هو: سياسيٌّ فوقي أم دعوي تحتي؟.

ولا يمكن للحركة الإسلامية -تحت ذريعة إكراهات السِّياسة والحُكم والضغوط الخارجية- أن تتجرَّد من هويتها، فلا تربط ربطًا علميًّا واقعيًّا بين المقاربة الفكرية والسِّياسية وبين التقعيد العقلاني الأصولي والمقاصدي الشَّرعي.

وإذا كانت مسألة “إقامة الدِّين” محسومةً وفق ذلك الخطاب الإلهي التكليف: “أنْ أقيموا الدِّين، ولا تتفرَّقوا فيه..” (الشُّورى:13)، فإنَّ مسألة “إقامة الدولة”، وعلى أساسٍ قيميٍّ أخلاقيٍّ (ديني) هي المسألة الأخطر والأكثر حساسيةً، وهو ما يتطلَّب: فكّ خيوط الاشتباك العلمي في تأصيل المسألة السِّياسية (الحكم والدَّولة) في أيِّ الخانات والمجالات التي تنتمي إليها من الدِّين: هل هي من الأصول العقَدية أم من الفروع الفقهية؟ ومرتبة هذا الفقه (الفقه السِّياسي) ضمن المنظومة التشريعية الإسلامية، ووضعها في سُلَّم الترتيب التشريعي الأصولي وفق دلالة القرآن الكريم والسُّنة النبوية الصَّحيحة، وفي ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية.

إنَّ سقوط الحضارة الإسلامية ثم الدولة الإسلامية رسميًّا سنة 1924م لا يعني السُّقوط الكلِّي لكلِّ عناصرها، لبقاء “الفكرة الإسلامية” على مستوى الفرد والمجتمع، وهو ما اشتغلت عليه الحركة الإسلامية في القرن الماضي على مستوى “الصحوة الإسلامية” ضمن “فقه الدعوة”، رغم المحاولات الضَّارية للحركة الاستعمارية والاستشراقية التي اجتاحت العالم الإسلامي في العصر الحديث للقضاء عليها عبر المسخ الثقافي والاستيلاب الحضاري، ومحاولات تدجين عناصر الهوية والانتماء.

ومهما يكن من ذلك الخلاف الفقهي في المسألة قديمًا وحديثًا، واختزالها بكلِّيتها: هل هي من الأصول أم من الفروع، فقد قال شيخ الإسلام “ابن تيمية” (661هـ- 721هـ) في كتابه “السِّياسة الشَّرعية في إصلاح الرَّاعي والرَّعية”: “ويجب أن يُعرف أنَّ ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدِّين، بل لا قيام للدِّين إلا بها، فإنَّ بني آدم لا تتمُّ مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بدَّ لهم عند الاجتماع من رأس، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا خرج ثلاثةٌ في سفرٍ فلْيُؤمِّروا أحدَهم..”، وهو ما يعني أنّ هناك تكاملاً بين “إقامة الدِّين” عبر الوظيفة الدعوية، و”إقامة الدولة” عبر الوظيفة السِّياسية، حتى تنتظم حياة الناس بين “وازع القرآن” و”وازع السُّلطان”، كما قال صلى الله عليه وسلَّم: “إنَّ الله يَزَعُ بالسُّلطان ما لا يَزَع بالقرآن”، وقال:“صنفان مِن الناس إذا صلَحَا صَلَح الناس وإذا فسدَا فسدَ الناس: العلماء والأمراء”، وهو ما يفرض التكامل بينهما.

فقد يكون أصل المسألة السِّياسية “إقامة الدولة” من الأصول، وقد يكون شكل الدولة والخلافة، وإدارة شؤون الحكم وآليات ممارسة السُّلطة من الفروع الفقهية والمسائل الاجتهادية، فهناك وجوبٌ لوجود السُّلطة في الأمَّة، في قوله صلى الله عليه وسلَّم: “مَن مات وليس في عنقه بيعةٌ ماتت ميتةً جاهلية.”، والمقصود بها: البيعة السِّياسية في الدولة وليست البيعة التنظيمية في الجماعة، وجعل الأمة هي مصدر السُّلطة والشرعية السِّياسية للحاكم عبر مبدئية الشورى الثابتة وآلياتها الإجرائية المتغيِّرة، في قوله تعالى، وهو يحرص على اجتماع قلوب الأمَّة بالتعاقد مع الحاكم بالرِّضا: “.. ولو كنت فضًّا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك، فاعفُ عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر..” (آل عمران:159)، وفرَض على الأمة واجب الرَّقابة الشَّعبية الدائمة على أداء السُّلطة، بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة لأئمة المسلمين وعامَّتهم، وسُنَّة التدافع بالمعارضة في قوله تعالى: “ولولا دَفْع اللهِ الناسَ بعضَهم ببعضٍ لفسدت الأرض..” (البقرة:251)، وكما قال سيُّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بفقهه الثوري ولو على نفسه: “إذا أصبْت فأعينوني، وإذا أخطأت فقوِّموني”، فقال رجلٌ: والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقوَّمناك بحدِّ سيوفنا، فردَّ عليه قائلاً: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد مَن يقوِّم عمر بسيفه، وقال: “لا خير فيكم إنْ لم تقولوها، ولا خير فيَّ إنْ لم أسمعها”، وهو ما يعني أنَّ “إقامة الدَّولة” لا تقِلُّ وجوبيةً عن “إقامة الدِّين”، وأنَّ أيَّ مشروعٍ أو فكرةٍ -مهما كانت مثاليةً أو معصومةً- لا معنى وجوديا لها ما لم تصل إلى الدولة، وتحوِّل جوانبها الإجرائية إلى رفاهية الإنسان في الدُّنيا، وإلى فوزه ونجاحه في الآخرة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!