-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الحسابات الاستراتيجية الصُّهيونية في الحرب على أوكرانيا

ناصر حمدادوش
  • 1378
  • 0
الحسابات الاستراتيجية الصُّهيونية في الحرب على أوكرانيا

يمثِّل التصادم الدولي في أوكرانيا أزمةً دولية خطيرةً غيرَ مسبوقةٍ منذ نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945م، وهو التصادم الذي أدخل الجميع في متاهاتِ التصعيد والتنافس الاستراتيجي بين القوى العالمية والمواجهة الشَّرسة بينها، وهو ما يلوِّح بحتمية الحسابات الدقيقة في زمن الخيارات الاستراتيجية التي يفرضها احترام توازن القوَّة بين هذه الأطراف المتصادمة، والتي أثبتت كلُّ الأدوات الناعمة والخشنة فيها أنَّ زمن الأحادية القطبية قد وَلَّى، وأنَّ أيَّ قوةٍ دولية قد تملك قوة التأثير ولكنها لا تملك بالضَّرورة قوَّة التغيير.

لقد أصبحت هناك قناعةٌ لدى الاستراتيجيين بأنَّ لنتائجِ هذه الحرب الرُّوسية على أوكرانيا آثارًا على النظام العالمي وعلى المنافسة الإستراتيجية ثلاثية الأطراف بين أمريكا والصِّين وروسيا، ومن جملة تلك الآثار ما تتركه من ظِلالٍ على الكيان الصُّهيوني والمستقبل الوجودي له بعد هذا العالم متعدِّد الأقطاب.

في الوقت الذي تحشد فيه الآلة الغربية الماكنة الاستخباراتية والعسكرية والعقوبات المالية والاقتصادية وتوظيف كلَّ المؤسَّسات الدولية، من الاتحاد الدولي للقطط إلى محكمة الجنايات الدولية في عقوباتٍ غير مسبوقةٍ ضدَّ روسيا في عدوانها على أوكرانيا، نسجِّل صمت القبور اتجاه جرائم العدو الصُّهيوني منذ 74 سنة في فلسطين.

وهذه ليست هي المرَّة الأولى التي يستثمر فيها الكيانُ الصهيوني في الأزمات متعدِّدة الأبعاد للآخرين، ليحوِّل مشكلاتها المتعدِّية وتهديداتها الممتدَّة إليه إلى فُرصٍ تاريخية لصالحه، وفق مقوله رئيس الوزراء البريطاني “تشرتشل” (1874م – 1965م): “إنَّ المتشائم يرَى مشكلةً في كلِّ فرصة، لكنَّ المتفائل يرى في كلِّ مشكلةٍ فرصة”، وهي الاستراتيجية الصهيونية التي تتساوَق مع الدلالات العميقة لهذه الحكمة السِّياسية، وذلك بتحويل الحرب الأوكرانية وتداعياتها المحتملة من تحدٍّ خطيرٍ إلى فرصةٍ تاريخية، إذْ أنَّ الاعتبارات القيمية تتلاشى أمام براغماتية المجرمين.

وبعيدًا عن أقواس هوية الرَّئيس الأوكراني “زيلنسكي” ووزير دفاعه “رازنيكوف” والمستشار المقرَّب منه أنهم صهاينة، فإنَّ هذه المواجهة الرُّوسية- الأمريكية على الموقع الاستراتيجي لأوكرانيا نبَّهت العقل الصُّهيوني إلى دقَّة الموقف وخطورة هذه “المصْيَدة” التي ستشكِّل منعطفًا فاصلاً في مسار أمنه ووجوده.

الموقف الصُّهيوني بين “التحالفات الإستراتيجية” و”الحسابات الإستراتيجية”:

إنَّ الكيان الصَّهيوني لن يتردَّد في حتمية الانحياز إلى روسيا لو كان الصِّراع ثنائيًّا بينها وبين أوكرانيا، ولكنَّه لن يتردَّد أيضًا في الانحياز إلى أمريكا، لأنَّ هذه الحرب في جوهرها حربٌ إستراتيجية بين أمريكا وروسيا، وذلك للعلاقات التقليدية والتحالفات الاستراتيجية مع الإدارة الأميركية، إذ أنَّها إلى حدِّ الآن دعامةٌ مركزيةٌ في وجوده وفي مفهوم أمنه القومي

إنَّ الصَّدمة الكبيرة التي أحدثتها هذه الحرب ابتداءً من يوم 24 فيفري 2022م قد جعلت مرحلة اللَّعب على حِبال القِوى العُظمى تقترب من نهايتها، وهي اللُّعبة التي أجادها الصَّهاينة في العُقود الماضية، فقد حسم الكيانُ الصُّهيوني التردُّد في الموقف الرَّسمي، وهو: “دعم وحدة أراضي أوكرانيا وسيادتها”، واعتبار “الهجوم الرُّوسي على أوكرانيا انتهاكًا خطيرًا للنظام الدولي”، بل سمَّى هذا الغزوَ الرُّوسي “حربًا ضدَّ العالم”، إلاَّ أنَّ الرَّدُّ الرُّوسي لم يتأخَّر عبر الاستنكار الرَّسمي لاحتلال إسرائيل لهضبة الجولان، والتأكيد على الموقف السَّابق لها بأنها لا تعترف بالقرار الأمريكي الذي اتخذه “ترامب”، والذي يقرُّ بسيادة إسرائيل عليها، وهو الصَّاروخ الديبلوماسي المعلن في الرَّغبة الرُّوسية عن إطلاق رسالةِ الرَّدع الاستراتيجي لهذا الكيان حتى يمنعه من الانحياز الكلِّي إلى أمريكا، وهو ما أدخله في “لعبة الحياد المفخَّخ” و”نهج اللاَّ موقف” والعودة إلى الديبلوماسية والحفاظ على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع، والموازنة بين “التحالفات الاستراتيجية” التقليدية مع أمريكا، وعدم الإضرار بـ”الحسابات الاستراتيجية” الاستثنائية مع روسيا لتقاطع المصالح معهما وتوازن القوَّة بينهما، وهو ما يُلزم الكيان الصهيوني بالعمل على الاحتراز من اختبار هذه “المصْيَدة” لتداعيات هذه الحرب الأكثر تعقيدًا على مصالحه الحيوية، وهو يدرك جيِّدًا تبعاتها على قوَّته وصورته إذا أخطأ التقدير في حساباته المصلحية، وخاصة إذا فشل الغرب (أمريكا وأوروبا) وأدواته الرَّدعية القاسية (الناتو والعقوبات الاقتصادية) على فرملة هذا النفوذ المتصاعد لروسيا، ومن ورائها: الصِّين وإيران في ظلِّ هذا الواقع الجيو استراتيجي الآخذ في التشكُّل.

لقد تجلَّى هذا الرُّعب الصُّهيوني من روسيا والرَّغبة في عدم توتير العلاقة معها في تجاهل طلب أوكرانيا لتعزيز قدراتها الدفاعية من خلال الحصول على التكنولوجيا ومنظومة الدفاع الصهيونية المضادَّة للصَّواريخ، المسمَّاة بـ”القبَّة الحديدية”.                                                                                                                                                                                                       هناك تغييرٌ يحصل في الهندسة السِّياسية الدولية، ويتمثَّل بالأساس في تراجُع الهيمنة الأمريكية، وارتفاع منسوب ومكانة تأثير القوى المنافسة وفي مقدِّمتها روسيا، وما العملية العسكرية في أوكرانيا إلاَّ بدايةٌ لتأسيس “عقيدة التوازن وتعدُّد الأقطاب”، وتراجُع مكانة الأدوات الدبلوماسية: السِّياسية والاقتصادية التي تضطرُّ إليها أمريكا، مختبئةً وراء الناتو والاتحاد الأوروبي كأزمةٍ بنيويةٍ لها.

أبعاد الحسابات الاستراتيجية الصُّهيونية في هذه الحرب:      

1/ القضية الفلسطينية والحرب الأوكرانية: لا شكَّ بأنَّ تفجير الأزمات الإقليمية والدولية يهمِّش القضية الفلسطينية ويدحرج أولويتها في جدول الأعمال الدولي، وهو ما يؤثِّر على حضورها وحيويتها، وهو ما يسعى إليه هذا الكيان اللَّقيط بتفجير الحروب في كلِّ مكان لإلهاء العالم عن أزمته وجرائمه وعُقدته الوجودية، وقد صدق فيه الوَصف القرآني بقوله تعالى: “.. كلما أوْقدوا نارًا للحرب أطفأها الله، ويسعون في الأرض فسادًا، والله لا يحبُّ المفسدين” (المائدة:64).

لقد عرَّت هذه الحرب الوجه الحقيقي للغرب في التعامل بازدواجية المعايير مع القضايا الإنسانية والعدالة في العالم، وهو أكبرُ نفاقٍ سياسيٍّ في التاريخ، وهو التمييز في الإنسانية والعدالة بين الشُّعوب؛ ففي الوقت الذي تحشد فيه الآلة الغربية الماكنة الاستخباراتية والعسكرية والعقوبات المالية والاقتصادية وتوظيف كلَّ المؤسَّسات الدولية، من الاتحاد الدولي للقطط إلى محكمة الجنايات الدولية في عقوباتٍ غير مسبوقةٍ ضدَّ روسيا في عدوانها على أوكرانيا، نسجِّل صمت القبور اتجاه جرائم العدو الصُّهيوني منذ 74 سنة في فلسطين، بل وتوفير الحماية الأمنية والحصانة الدولية له، في تدميرٍ ممنهجٍ لأسس القانون الدولي اتجاه القضية الفلسطينية.

لماذا لا يكون للشَّعب الفلسطيني نفسُ التشريع والدَّعم في مقاومته للاحتلال، وشرعية استخدام القوة العسكرية الرَّسمية والشَّعبية ضدَّه؟

2/ الجبهة السُّورية: هناك علاقاتُ جوارٍ بين الكيان الصُّهيوني وروسيا داخل سوريا، ويتمتع النشاطُ العسكري الصُّهيوني فيها بالتنسيق الوثيق والتناغم الكبير مع موسكو، المسؤولة عن مراقبة المجال الجوي السُّوري، وذلك باستهداف المواقع الاستراتيجية الإيرانية فيها، وتضييق الخناق على إمدادات الدَّعم لحزب الله على الخطِّ الرابط بين إيران – العراق– سوريا- لبنان.

ولذلك، فإنَّ معاكسة روسيا بالموقف المعادي لها في أوكرانيا سيدفع الكيان الصُّهيوني أثمانه الباهظة على الجبهة السُّورية واللبنانية بإطلاق اليد الطولى لإيران ووكلائها في المنطقة.

3/ الملف النووي الإيراني: مشكلة الكيان الصُّهيوني المركزية فيه أنه، وبمقابل التجميد المؤقت للبرنامج النووي، سيكون بوسع إيران بعد رفع العقوبات الاقتصادية الاحتفاظ بالمعلومات التكنولوجية والقدرات المتطوِّرة والتفرُّغ للتعاظم في القـوَّة، بالاستثمار في تعزيز القدرات العسكرية والتموضع في المنطقة عبر أذرعها في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ممَّا سيؤدي إلى سباقٍ إقليميٍّ في التسلُّح، وتقريب المعركة المصيرية مع هذا الكيان.

وبشكلٍ مليء بالمفارقات، فإنَّ روسيا تلعب دورًا أساسيًّا في التوفيق بين الغرب وإيران في تقدُّم مفاوضات الاتفاق النووي، وهناك رعبٌ صهيونيٌّ مزدوج من أمريكا أو من روسيا على خلفية الموقف من هذه الحرب الأوكرانية يتسبَّب في انتقام أحد الطرفين منه، وذلك بتسريع هذه المفاوضات بما يعظِّم الخطر الوجودي عليه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!