الرأي

الحضارة ليست فضفضة لغوية

محمد بوالروايح
  • 1265
  • 10
ح.م

عاد بعض الكتاب المسلمين إلى الحديث عن الاستئناف الحضاري الإسلامي، يشدهم إلى ذلك الحنين العاطفي إلى حضارة إسلامية قدر الله لها أن تعمر قرونا متطاولة قبل أن يأفل نجمها وتتحول إلى حكاية ماضوية بسبب أن من ورثوها لم يرعوها حق رعايتها ولم يفقهوا النواميس التي تحكمها وتعاملوا معها بمقولة “دعوها فإنها مأمورة” وظنوا أنها باقية ما بقيت السموات والأرض ونسوا أن الحضارة كأي مكون مادي وإنساني يحكمها قانون الأخذ والعطاء.

إن حديث بعض الكتاب المسلمين عن الاستئناف الحضاري ليس إلا فضفضة لغوية وشكلا من أشكال تجديد الولاء العاطفي لحضارة إسلامية انتهت واختفت عن مسرح الحياة بسبب ما كسبت أيدينا سلفا وخلفا، وليس هناك في الأفق القريب والبعيد -حسب الدراسات الحضارية الاستشرافية- ما ينبئ بعودتها بل جل هذه الدراسات إن لم تكن كلها تنبئ بسبات حضاري إسلامي مستمر لا يدرك مداه.

الحضارة فعلٌ إنساني لا يمكن أن يتحقق في غياب الفاعل وهو الإنسان، وهي أيضا نتاج العقل الإنساني، ولا يختلف اثنان في أن العقل الإسلامي قد فقد قدرته على الإبداع منذ سنين الضياع ولم يعد صالحا للتفكير الحضاري إلا ما كان على سبيل التكرير والتدوير.

والحضارة قيمة مادية وأخلاقية ترتقي أو تهوي حسب ما يجتمع في كنانتها من حشد مادي وسمت أخلاقي، وانتفاء أحدهما أو كليهما هو انتفاء للحضارة، والواقع الإسلامي ينبئنا بأن هذه الثنائية القيمية غائبة أو بالأحرى مغيّبة بعد أن تحولت المجتمعات الإسلامية إلى مجرد تجمعات رقمية غير قيمية لا تعير وزنا للدرس الحضاري إلا ما كان من شاكلة الفضفضة اللغوية التي يميّزها الحشد اللغوي الذي يبالغ أصحابه في وصف الفعل الحضاري بما يجتمع عندهم من مصطلحات ومحسنات وكفى الله المؤمنين القتال.

لا يجد كثير من الكتاب المسلمين الذين يكتبون عن الاستئناف الحضاري شيئا ذا بال ينمقون به كتاباتهم إلا ما أخذوه واقتبسوه من “مقدمة ابن خلدون” أو “شروط النهضة” لمالك بن نبي، وقبل هذا وذاك ما حفظوه من نصوص قرآنية تأولوها أو طوعوها لتوافق توهماتهم وتخرساتهم حول الحضارة.

ما كتبه ابن خلدون عن العمران البشري والذي يعدّ مرجعا لكثير من المهتمين بغائية ومضامين الفعل الحضاري ليس صناعة لغوية غارقة في التوصيف وإنما هو مادة معرفية قابلة للتوظيف في الواقع الإنساني، ومن ثم فمن الخطأ أن يبقى بعض الكتاب المسلمين رهائن اللفظ دون الغرض ورهائن المبنى دون المعنى يلوكون بعض المصطلحات الخلدونية ويستخدمونها في سياقات ولمآلاتٍ لا تنبني عليها فائدة في الدراسات الحضارية.

وما كتبه المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله عن شروط النهضة يجب أن لا يبقى موضوعا لدراسات حضارية نظرية تحتفي بالفكر احتفاء نظريا ولا تجتهد في تحويله إلى منتوج حضاري كما فعلت ماليزيا وتركيا، التي جعلت من فكر مالك بن نبي منطلقا لنهضة حضارية تزداد تألقا مع تعاقب الليل والنهار.

من العبث أن يهدر كثير من الباحثين المسلمين أوقاتهم ويفنون أعمارهم في تعقب مكامن الخلل الحضاري في السنين الخوالي ونسبته إلى “بني أمية” أو “بني العباس” أو غيرهما فـ”تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تُسألون عما كانوا يعملون”. يجب أن يتوقف هذا العبث وأن تتجه همة الباحثين المسلمين المعاصرين إلى تدارك الخلل الحضاري بآليات جديدة تستأنس بالماضي وتؤسس عليه وتزيد عليه بما يتماشى مع روح العصر وتطور الفكر.

أليس من العبث أن تجد – وأنت تتصفح ما كتبه الكتاب المسلمون عن الاستئناف الحضاري- سيلا من المؤلفات والمصنفات تستمتع بما فيها من صناعة لغوية ولا تجد فيها في المقابل شيئا يصلح لأن يكون قاعدة لاجتهاد حضاري جدي يخرج فكرة الاستئناف الحضاري عن دائرة التوصيف الشكلي إلى دائرة التوظيف الفعلي؟

إن بعض من يتحدثون عن الاستئناف الحضاري هم أنفسهم معوق من معوقاته بسبب فكرهم الماضوي الاختزالي الوصفي الذي يتباكى على الحضارة الإسلامية وهو قاتلها، ويحرض المسلمين على توفير شروط هذا الاستئناف الحضاري وهو نفسه فاقد لهذه للشروط جملة وتفصيلا.

ما قيمة أن نبدع في توصيف الحضارة ونحشد لذلك ما قرأناه عنها في كتابات الأولين والآخرين ولكننا نجد أنفسنا عاجزين عن توظيف الفكرة الحضارية توظيفا واقعيا يتحول معها الخيال الوصفي إلى واقع فعلي؟

ما قيمة أن يتغنى بعضنا بما نمتلكه من رصيد تراثي قيمي إنساني ونحن عاجزون عن تجسيد مكونات هذا التراث في الواقع ثم ندعي بعد ذلك الخيرية والأفضلية والصلاح، وعاجزون عن تحويل المكون الإنساني في الدين الإسلامي إلى أخلاق إسلامية إنسانية؟

ما جدوى أن يتحدث بعضنا عن الاستئناف الحضاري الإسلامي وهو يعلم بأن النهايات تُبنى على البدايات وأننا بشهادة بعض المؤرخين المسلمين لم نحسن البدايات فأنى لنا أن نحسن النهايات؟ إن الاستئناف الحضاري عملية حضارية معقدة تتطلب فكرا حضاريا راقيا ونحن على ختم الله لا تتحقق فينا قليل ولا كثير من مواصفات هذا الفكر.

إن بيننا وبين الاستئناف الحضاري فجوة حضارية هائلة لا يملأها إلا فكر حضاري إسلامي واع يعي أصحابه بأن الصلاح الذي يتحدث عنه قول الله تعالى: “ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون” لا يعني فقط الصلاح النفسي وإنما يعني أيضا الصلاح الحضاري، أي أن نمتلك الأهلية لقيادة البشرية من جديد كما كنا منذ أمد بعيد.

مقالات ذات صلة