الرأي
رؤية استشرافية من أجل الجزائر

الحفر في المخزون الفكري.. والحفر في المخزون الصخري

محمد سليم قلالة
  • 2488
  • 13

في العقود الماضية كان الحديث عن الحفر في المخزون الفكري عند المسلمين يتم ضمن مفهوم العودة إلى الذات وإعادة الارتباط بالأصول والجذور، استعادة مكوّنات الشخصية الوطنية أو الانطلاق من مكونات الهوية للتحرر من الاستعمار التقليدي وبناء مجتمعات غير منفصلة عن ماضيها غير تابعة للقيم الغربية المهيمنة.. أما اليوم فالحفر في المخزون الفكري ينبغي أن يُنظر إليه على أساس أنه بديل الحفر في المخزون الصخري لاستخراج الغاز والبترول، وحده الذي يُمكّننا من أن نتحرر من أساليب العمل التقليدية أو المفروضة علينا من الغرب لحل مشكلاتنا أو تجاوز صعوباتنا إن في المجال الاقتصادي أو في مجال مواجهة التحديات أو التهديدات الجديدة.

كثيرا ما نلجأ إلى الخبرة الأجنبية لحل مشكلاتنا المختلفة، نعتبر أن استفادتنا من خبرة الغرب في حل مشكلاته ستجنبنا تكرار الأخطاء ذاتها. بلادنا تعتبر الأولى بين بلدان المتوسط في طلب الخبرة الأجنبية وفي الإنفاق عليها. باستمرار ندفع مَبالغ ضخمة لمكاتب الخبرة والدراسات لمن يبيع لنا أفكار المستقبل، لمن يحفر في مخزونه الفكري ليساعدنا على كافة المستويات؛ من بناء طرقنا ومطاراتنا وجسورنا وسدودنا وصناعة سياساتنا العامة وحتى دستورنا الجديد.. لم يبق مجالٌ لم نطلب فيه خبرة الآخر. وهذا الأخير لا يتردد كعادته باستمرار في بيع خبرته لنا صادقا أو غير صادق، من الاقتصاد إلى السياسة إلى التعليم إلى الرياضة وكرة القدم. في كل المجالات نجد يد الأجنبي ممتدة لتبيع لنا الخدمة بعد الخدمة وبطلبنا نحن. حتى في مستوى القطاع الذي يضم خيرة النخبة الوطنية، التعليم العالي، هناك برنامج دعم للاتحاد الأوروبي تجاه الجزائر بما قيمته 40 مليون دولار مناصفة بيننا وبينهم، للتفكير في أساليب تطوير هذا القطاع بما يتناسب وحاجات اقتصادنا الوطني، من منظورنا نحن، وبما يتناسب مع حاجات الشركات المتعددة الجنسيات التي تريد أن تشتغل في بلادنا من منظورهم، هم.

إننا لا نعيش فقط على إنتاج الآخرين، إنما نعيش أيضا على أفكارهم، ولعل المشكلة الأكبر تكمن في هذا المستوى، إذا كنت تعيش بسلع ومنتجات الآخرين انطلاقا من فكر مستقلّ قادر على الاستفادة من هذا الوضع في المستقبل، فهذا شيء، أما إذا كنت تعيش في الوقت ذاته بسلع وخدمات الآخرين إضافة إلى أفكارهم فذلك شيء آخر. وذلك الذي يمكن أن نطلق عليه صفة الانسلاخ التام عن الذات، مقابل العودة إلى الذات المنشودة من قبل أسلافنا أو العودة إلى الذات كما ينبغي أن نراها اليوم.

لقد حز في نفسي أن نصبح مجتمعا تابعا إلى هذه الدرجة وفي كافة المستويات، لذا أشرت في المقال السابق إلى أهمية الانطلاق من أعرق قطاع لا نظن أن أحدا سيقبل بتسييره من خلال أفكار أجنبية أو لغة أجنبية، لنشرع في تقديم تصور للحل. هذا القطاع هو قطاع الشؤون الدينية بمفهومها الشامل الذي يضم الأوقاف والزكاة.. في هذا المستوى نتصور بأن الغرب ليست لديه الكفاءة اللازمة ليقدّم لنا مشاريع حلول لمشكلاتنا. ولا يستطيع ذلك حتى وإن أراد، لا يمكن لأي خبير أجنبي غير مسلم أن يدعي الإلمام بالزكاة أو الأوقاف أو الانطلاق من مقوّمات ديننا الحنيف لصناعة المستقبل. يمكن للخبراء الأجانب أن يقترحوا لك حلولا في كافة المجالات بما في ذلك التعامل مع الدين لمحاصرته أو تشويهه أو فصله عن الدولة، ولكنهم لا يمكن بأي حال، أن ينطلقوا من داخل مقومات الدين الإسلامي بالتحديد لتقديم حلول وأفكار للمستقبل. هذا العمل لا يمكن أن نقوم به إلا نحن. نحن لوحدنا الذين نستطيع أن ننطلق من الذات لتقديم البدائل الجديدة وقد بدأت ملامح أزمة مالية تلوح في الأفق بانهيار أسعار البترول، وهو ما أردنا تسميته بالحفر في مخزوننا الفكري في نطاق مفهوم جديد للعودة إلى الذات.

الأزمة البترولية التي نعيشها اليوم هي التي ستخدم ذلك.. ستعزز اقتراحات أولئك الذين يسعون لتقديم حلول مبتكرة للغد.. ستعزز مواقف الحلول الذاتية بدل تلك المستوردة التي عفا عنها الزمن.

لقد نفدت الأموال التي يمكن أن نشتري بها الأفكار، ولو كانت أفكارا مزيفة، وعلينا أن نعتمد على الذات.. علينا أن نصنع سياستنا بأفكارنا لا بأفكارهم، بقِيمنا لا بقيمهم، والكل يعلم أننا نستطيع ذلك إذا ما تم تحرير المبادرة والحفر في المخزون الفكري بدل الحفر في المخزون الصخري.

لقد عشنا عقوداً ونحن نقتات من الحفر في المخزون الصخري: البترول والغاز، ونريد أن نقضي عقودا أخرى نحفر في  صخور جديدة لتعطينا غازا آخر يمكّننا من البقاء عقوداً أخرى وشراء أفكار تساعدنا على ذلك ولو بأغلى الأثمان. ولم نسعَ أبدا إلى البحث في المخزون الفكري الذي نملك، في خبرتنا التاريخية التي مضت عليها قرونٌ وصنعت حضارة وأمجادا طمسها ليل الاستعمار في غفلة منا.

ما الذي يمنعنا اليوم من العودة إليها؟ من الذي يمنعنا اليوم في البحث عن بدائل ذاتية لحل مشكلاتنا المختلفة؟ أليس أفضل لنا أن نفكر في كيفية تعزيز التضامن الوطني من خلال تثمين دور الزكاة التي لها ارتباط بقناعات مجتمعنا الدينية وتمسّكه بأصوله وذاتيته الخاصة بدل السعي بطرق نسميها عصرية حققت نتائجها هناك ونزعم أنها يمكن أن تحقق ذات النتائج هنا؟ لماذا نخشى التنقيب في تراثنا الوطني عن حلول لمشكلات الأسرة والوحدة الوطنية وتوزيع الثروة وحتى أسلوب اتخاذ القرار على أعلى مستوى في السلطة؟

لماذا لا ندعو خبراءنا في مجال التراث السياسي والاقتصادي والثقافي ليذكّرونا على الأقل بتلك الحلول التي نسمّيها تقليدية عسانا نجد البديل الذي نبحث عنه اليوم؟ أم علينا أن ننتظرجاك أتاليمستشارالإيليزيالفرنسي ليقول لنا إن هناك إمكانية للاستفادة من خبرة التوارق الجزائريين في مجال التكيّف مع التكنولوجيا بسرعة دون التخلي عن أساليب العيش التقليدية التي تمكّنهم من البقاء مستقلين اقتصاديا وقادرين على العيش في الصحراء من غير مساعدة الغرب؟

ألا ندري بأن الكثير من الأفكار التي تُقدّم لنا كحلول لمشكلاتنا إنما هي مستخلصة من مخزوننا الفكري في غفلة منا، نضطر إلى شرائها ببيع مخزوننا الصخري؟

كم من الحلول قمنا بتجربتها بعيدا عن العودة إلى الذات وثبت فشلها، إنْ في القضايا الاجتماعية أو السياسية أو الاقتصادية؟ هل من حديث اليوم عن الاشتراكية التي كانت خيارا لا رجعة فيه، وعن الحزب لواحد الذي كنا نعتقد أن لا دولة بدونه؟ ولن يكون هناك حديث في المستقبل عن كون اقتصاد السوق والانفتاح الحر هو الآخر خيار لا رجعة فيه، وفصل الدين عن السياسة هو الحل.. سنضطر بعد حينونأمل أن لا يكون ذلك بعد فوات الأوانإلى البحث في ثنايا الأفكار التي نسميها تقليدية اليوم عن الحل سواء فيما يتعلق بالتعليم أو الأسرة أو القيم والأخلاق

الكل يشهد اليوم انهيار المنظومة الغربية في هذا الجانب.. ونحن في غفلة من أمرنا نكاد نسير على ذات الدرب لنصل إلى ذات النتيجة. أليس ذلك من الحماقة بمكان؟

بدون شك ليست العودة الجديدة إلى الذات بالأمر الهيّن. ليس من السهولة تعميق تلك المفاهيم التي جاء بها كل منابن باديسومالك بن نبيوعلي شريعتيومحمد إقبالفي هذا المجال، ولكن علينا أن نفعل.

 

إن ثورتنا التحريرية لم تقم إلا بعد الانطلاق من العودة إلى الذات، وثورتنا في مجال استعادة السيادة الوطنية على ثرواتنا وإعادة بناء مؤسساتنا ستبقى تراوح مكانها، وستفشل في آخر المطاف إذا لم تعد هي الأخرى عودة جديدة إلى الذات من خلال التنقيب العميق في المخزون الفكري بدل ذلك التنقيب غير المجدي في المخزون الصخري وبوسائل الآخرين.

مقالات ذات صلة