-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
مقدّمة حركة القرآن المجيد في النّفس والمجتمع والتّاريخ

الحلقة (32): القرآن والإنسان والتّجديد

أبو جرة سلطاني
  • 332
  • 0
الحلقة (32): القرآن والإنسان والتّجديد

غاية القرآن المجيد تحريك الضّمير وهزّ العواطف واستفزاز العقل ليتساءل: من ربّ هذا الكون؟ وهل يمكن أن يكون القـرآن كلام بشـر؟ وإذا كان محمّد رسول الله حقّا فما هي الرّسالة التي بعثه الله بها للنّاس؟ وعلى الفور يقوم ألفُ شاهد دليلا على أنّ القرآن كلام الله، وأنّ ما تلاه محمّد على النّاس لا يمكن أن يكون كلام بشر. وأنّ عنوان الرّسالة التي بعثه الله بها تحويل قراءة الكون من الأهواء وعبادة الأصنام إلى القراءة باسم الله توحيدا وعبادة وحركة حياة. فكلّ قارئ للقـرآن يحسّ أنّ وراء كلّ لفظة معان مخبوءة في طيّاته يأخذ بعضها برقاب بعض أخذا بديعا يجعله يعقل من اللّفظ معنى ثم يفضي به إلى معنى آخر، كما يقول الجرجاني في “دلائل الاعجاز: 203″، تشويقا، وتنبيها، وتأثيرًا، وإقامة للحجّة واستفزازًا للفكر وإحالة آية على آية وتفسير قرآن بقرآن حتّى كأنّ ما بين دفّتي المصحف الشّريف سورة واحدة مقسّمة إلى “وحدات إيمانيّة” هي شرْعة الله ومنهاجه للثّقليْن المخلوقيْن لعبادة الله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذّاريّات: 56). وهو ما جعل حركة التّفسير تبدأ بالأثـر ثمّ تُدْلف إلى عمق النّص جمْعًا للآثار المسموعة وتأريخًا وفهمًا وتشريعًا وتفصيلا للأحكام، ثم تنحو منحى لغويّا، ثم تغوص في عوالم البلاغة، ثم تصير إلى المتكلّمين (الفلاسفة) ليجادلوا فيها بالرّأي والحجّة، ثم إلى الشّأن الاجتماعي والحركة الاصلاحيّة، ثم إلى التّحرّر والتّجدّد والقراءات المعاصرة على أيدي دعاة المقاصد.

تفرّعت التّفاسير إلى ما صار يُعرف بعالميّة الخطاب الإسلامي دعوةً إلى فقه واجب الوقت، وفهم الواقع، وتصريف تدابير الشّأن العام، بحسْن تنزيل النّصّ على حركة الحياة في مسمّى “التّفسير الحرَكي” للقرآن الكريم. وهو ما نحاوله في هذا السّفْر المبارك إن شاء الله استناد على خمس حقائق أساسيّة.

  • أولاها: أنّ القرآن وحيٌ متجدّد؛ لا يخلق من كثرة الردّ ولا تنقضي عجائبه بموالاة الدّرْس. فلكلّ جيل عطاؤه فيه وحظّه منه.
  • وثانيها: أنّ الدّين عند الله واحد هو الإسلام، وما عداه فهَوى أنفس وضلالات عقول.
  • وثالثها: أنّ الكون يتجدّد كلّ لحظة ونهايته الزّوال، والثّابت فيه هو ما ثبّته الوحي: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ (الرّحمـن: 26- 27).
  • ورابعها: أنّ فهم السّابقين لا يستشرف متغيّرات اللاّحقين. وفهم عصرنا لا يستوعب قضايا من سيأتي بعدنا.
  • وخامسها: أنّ التّغيير نشاط متحرّك بنا أو بغيرنا؛ فإذا لم نتغيّر بالقرآن ونغيّر به تغيّرنا بغيره. فإما أنْ نغيِّر وإما أنْ نتغيَّر.

ليس مع الإسلام دينٌ آخر عند الله -جل جلاله-: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (آل عمران: 19). فمن أراد دينا غير الإسلام يبحث عن ربّ يعبده غير الله -جل جلاله-. وليس وراء القرآن كتاب وحْيِ آخر، فهو الخاتم والنّاسخ والمهيمن والمصدّق لما بين أيدي أهل الكتاب ممّا أنزل على رسل سابقين، ولكنْ عبثت به أيادي الوارثين! فكان القرآن الكتاب الأكمل الذي قوّم الله به الدّين وأتمّ به النّعمة وارتضاه للبشريّة إمامًا هاديّا إلى صراط مستقيم. أما ما يطرأ على النّاس من أقضيّة فيقع على كاهل علماء الأمّة واجب الاجتهاد -الفردي والجماعي- ليجدّدوا للبشريّة أمر دينها، وهو ما تنبّأ به رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وبشّر به؛ روى أبو داود من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسُول اللَه -صلّى الله عليه وسلّم- أنه قال: “إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها” (صححه الألباني). ولا أدري هل تُحتسب المائة بيوم الميلاد أم ببداية نزول الوحي أم بيوم الهجرة أم بيوم الوفاة؟ مع أنّ السّابقين رجّحوا احتساب سنة الهجرة وعدّوا الخليفة عمر بن عبد العزيز مجدّد المائة الأولى، والشّافعي مجدّد المائة الثّانيّة. وفي قولهم نظر من حيث تراكم عناصر التّجديد وشروطه وأدواته ونضوج “خميرة الإصلاح”، وكذلك تعدّد المجدّدين وتراكم تجربتهم كما حصل في أزمنة النّهضة.

الثّابت عندنا أنه ليس من مفردات تجديد الدّين الإتيان بدين جديد، وإنما إعادة إحياء حركته في النّفس والمجتمع والتّاريخ بقراءة مُجدّدة لما كان قد قُرئ بلسان عصر قديم، أو بقراءة جديدة لم تكن متاحة للسّلف تُضفي على النّص الأصلي ما يجدّد حركة الإحياء في ضمير أتباعه بربْط قلوبهم بـ”محطّة البثّ” ووصل شبكة الإنارة بمركز نور السّماوات والأرض وإعادة رسْم ما عفا عنه الزّمن فاندرست بسببه معالم الدّين من داخل نبعيْه الثّرييْن الصّافييْن: كتاب الله تعالى وسنّة رسوله -عليه الصّلاة والسّلام-. فيكون واجب الوقت تجديد الدّين بلسان عصْرٍ يفهمه من غشت قلبَه أدرانُ الحياة الدّنيا وإحياؤُه في النّفوس. وهو ما حاولتُ الاقتراب منه بكثير من الحذر، فاطّلعت على تفاسير كثيرة تعلّمت منها واستفدت، لكنّ خمسة من بين هذه التّفاسير كلّها أثارت في عقلي كثيرًا من التّساؤلات، وحركت في نفسي مشاعر متباينة ومتصارعة أحيانا، بل منها ما شعرت أنّني أزداد بقراءتها إيمانا كلّما أوغلت في ثناياها، وسوف يلاحظ قارئ هذا السّفْـر المتواضع أنّ لحركة الوحي، في النّفس والمجتمع والتّاريخ، حضورًا طاغيًّا في ثنايا هذه المحاولة التي تتّصل بالأصل ولا تنفصل عن الواقع، وتلامس القديم وتتطلّع إلى التّجديد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!