-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الدروس الخصوصية وأثرها على جودة التعليم

محمد بوخطة
  • 1207
  • 0
الدروس الخصوصية وأثرها على جودة التعليم

دُعيت إلى حوار تلفزي على القناة الإخبارية الثالثة للتلفزيون العمومي، يتناول ظاهرة الدروس الخصوصية وأثرها على النظام التربوي والمجتمع، عادتي أن أُجهد نفسي في البحث والمتابعة والمقارنة والتدقيق حين تناولي لأي موضوع إعلامياً، احتراماً لمن يشاهدني أولاً، واحتراماً لنفسي، فلا يليق بمن يحترم نفسه أن يضيع وقت المشاهد والقارئ فيما لم يتقن حديثه إليهما فيه.
ثمرة هذا الجهد استهلكتُ بعضاً منها في الحوار في حدود ما يسمح به الوقت وطبيعة النقاش المتعدد، غير أن الكتابة الهادئة أوفى في الإفادة لمن رام البحث والتقصي، فرتّبت ما أعددته في هذا المقال لعله يكون مفيداً..
ظاهرة الدروس الخصوصية، ظاهرة حديثها قديمٌ متجدد غير أنه لم يغير شيئاً من واقعها، ذلك لأننا لم نحرر موقفنا منها وفقاً لرؤية تربوية علمية غير منحازة ولا متأثرة بالعاطفية وبالشعبوية…
لسنا بحاجة لتعريف الظاهرة، إنها معروفة لدى الجميع، وهي أيضاً ظاهرة عالمية تعاشر مختلف الأنظمة التربوية في العالم، فقط يجدر بنا التنبيه إلى الخلط الذي قد يحصل لدى البعض في عدم التفريق بين الدروس الخصوصية والمدارس الخاصة، إذ أن المدارس الخاصة هي مؤسساتٌ مرخصة ونشاطها مقنن وفق النظام التربوي العمومي، لا تقدم تعليماً خاصاً مختلفاً، بل هي ملزَمة بتنفيذ النظام التربوي العمومي، مع الاجتهاد في فنيات تنفيذه وتحقيق شروط عمل وخدمات تعليمية قد تكون أفضل من تلك التي تقدمها المدرسة العمومية (هذا ما يجب أن تكون عليه)، غير أنها هي الأخرى متذبذبة الأداء بسبب عدم وضوح النظرة التي تتبنّاها إدارة التربية الوطنية من وجودها ونشاطها، ومن جهة أخرى سيطرة الفكر التجاري على من يريدون ممارسة هذا النشاط… وهو ما سأعود إليه في آخر المقال.

أولاً: محاذير
2 ـ إن الموضوع الأساس الذي يجدر بحثه والنظر فيه هو “جودة النظام التربوي والارتقاء بمخرجاته” إنه المَهمّة والوظيفة الأساس التي يجب أن تتكفل بها إدارة التربية الوطنية دستوراً وقانوناً، مكلفة من قبل الدولة والمجتمع، إن “الجودة” هي الهدف المنشود لكل المتدخلين في النظام التربوي.
2 ـ وعليه، فكل القضايا ذات الصلة ـكالدروس الخصوصية مثلاًـ نعالجها ونتخذ منها الموقف بناءً على مدى تأثيرها على جودة النظام التربوي سلباً أو إيجاباً..
سأورد هنا مثالين متضادين في نظامين تربويين عالميين جيدين جداً:
ـ النظام التربوي لكوريا الجنوبية، الذي يُخضع الطفل لكمٍّ دراسي هائل، ما يكاد الطفل فيه يُنهي دوامه بالمدرسة العمومية حتى يلتحق بالدروس الخصوصية إلى شوط من الليل، وهو مصنَّف ضمن أجود الأنظمة التربوية في العالم.
ـ النظام التربوي في السويد، تكاد تنعدم فيه الدروس الخصوصية وهو أيضاً مصنف ضمن الأنظمة التربوية العشرة الأجود في العالم.
3 ـ يجدر بهذه المعالجة الابتعاد عن العاطفية أو الشعبوية، التي قد تتأثر بظروف غير موضوعية تدفع إلى اتخاذ موقف مسبق بالرفض أو القبول.
5 ـ الابتعاد عن التهويل من خطر الموضوع أو التهوين من أثره، من دون استقراء وإحصاء ومقارنة، يكون شططاً، وضرره أكبر من نفعه، إذ أن المقدمات الخاطئة التي لا تعتمد على التشخيص الدقيق والمتابعة الجادة والنظرة الشاملة، ستؤدي حتماً إلى نتائج خاطئة، ثم قرارات غير واقعية، فتنتفي الجدوى.
5 ـ قد يكون الدفاع عن الموقف الرافض للدروس الخصوصية منطلقا من ترسبات ثقافية سياسية في لاشعور أجيال منا لم تتخلص بعد من بقايا العقيدة الاشتراكية المخاصِمة لكل ما هو خاص أو خصوصي، رغم أن المنظومة السياسية والقانونية والاقتصادية للبلد قد تغيرت، ولا تتحمل هذه الخصومة مع الخصوصية التي قد تتحول إلى عداوة غير مبررة. إن الاعتدال ضروري في المقاربة بين الخاص والعمومي.

قد يكون الدفاع عن الموقف الرافض للدروس الخصوصية منطلقا من ترسبات ثقافية سياسية في لاشعور أجيال منا لم تتخلص بعد من بقايا العقيدة الاشتراكية المخاصِمة لكل ما هو خاص أو خصوصي، رغم أن المنظومة السياسية والقانونية والاقتصادية للبلد قد تغيرت، ولا تتحمل هذه الخصومة مع الخصوصية التي قد تتحول إلى عداوة غير مبررة. إن الاعتدال ضروري في المقاربة بين الخاص والعمومي.

6 ـ إن الإشهار للدروس الخصوصية في وسائل التواصل الاجتماعي يعدّ نشاطاً تجارياً يدخل في مجال اختصاص مصالح الضرائب.
7 ـ في القضية جانبٌ أخلاقي: فلا يُتصور ولا يليق بأستاذ يحترم معنى الأستاذية أن يقدِّم الدرس الخاص لتلاميذه الذين يدرِّسهم بالمدرسة العمومية، استدراكاً لقصور لاحظه في القسم، إن واجبه الأولى أن يبحث وسائل وطرق استدراك النقص عند تلاميذه مع إدارة المؤسسة ومجالسها، حين يستسهل ذلك ويمارسه، فكأنه يمارس شكلاً من الخيانة لوظيفته.

ثانياً: الدوافع
ما هي العوامل التي تدفع إلى اللجوء إلى الدروس الخصوصية والتوسع في الاعتماد عليها:
1 ـ ضعف الثقة في النظام التربوي: وما تقدمه المدرسة العمومية سواء كان هذا الشعور مُتوهَّماً أو مبرراً ـ تلك قضية أخرى ـ ولكنه يدفع مباشرة إلى البحث عن المكمِّلات أو البدائل، هنا تقع المسؤولية جزئياً على إدارة التربية الوطنية من أجل مد جسور الثقة بينها وبين الأولياء من خلال التلاميذ أولاً.
إنها مسألة حساسة وخطيرة الأثر: عندما يحمّل النظام التربويُ الأسرةَ عبئا زائداً، ويفترض في الأبوين أن يكونا أستاذين فوق العادة ليحوّلا البيت إلى مدرسة مكمِّلة، ستكون النتيجة الحتمية اللجوء إلى الدروس الخصوصية، لذلك بعض الأنظمة التربوية الناجحة في العالم ألغت نهائياً ما نسميه “الواجبات المنزلية”.
2 ـ الشعور بعدم الاكتفاء بما تقدمه المدرسة العمومية سواء من قبل الولي أو التلميذ تحت ضغط البحث عن نتائج أفضل، خاصة مع تعقيدات النظام التقييمي المتبنَّى وثقله وغلوه في الترتيب الخطي الآلي اعتماداً على النتائج الآنية.
3 ـ كثافة المناهج التربوية التي جاءت بها الإصلاحات الجديدة والتي تركّز كثيراً على الكمّ المعرفي وكثرة المواد بدوافع مختلفة، لا تقيم وزناً لرغبات الأطفال والتلاميذ وحياتهم خارج المدرسة.
4 ـ ما ترتّب عن الإلغاء المتسرع لقانون التقاعد النسبي من دون تخطيط مسبق والذي جعل إدارة التربية الوطنية فجأة في مواجهة تسونامي حمل الآلاف من الأساتذة على الذهاب الجماعي إلى التقاعد، ما أفقد التربية الوطنية خبراتٍ كثيرة تراكمت عبر السنين ـ كغيرها من إدارات الدولة التي لمسنا معاناتها من هذا الفراغ المفاجئ ـ ألجأها إلى التوسع غير المدروس في مسابقات التوظيف الخارجي لحاملي مختلف الشهادات الجامعية لسد الفراغ، نتج عنه حتماً مؤطرون تربويون لا يحملون ملمحاً موحداً أو متشابهاً على الأقل، بل توسعت الفروق الفردية بينهم وانعكس ذلك على التلاميذ، فكان اللجوء إلى الدروس الخصوصية خياراً يكاد يفرض نفسه.

إن المدارس الخاصة الجسر الوسط الممتد بين الدروس الخاصة والمدرسة العمومية. إن نظرة إدارة التربية الوطنية لهذا النشاط يجب أن تعتدل، لتعتبر المدارس الخاصة رافداً مؤازراً للمدرسة العمومية، مساهماً في تخفيف العبء عن الدولة.

لم تغِب عن أذهاننا هذه المعضلة في حينها وقد نبَّهنا إليها واقترحنا الحلول المناسِبة، كان أهمّها لو أن إدارة الدولة في ذلك الوقت قررت أن من توفرت فيه شروط الاستفادة من التقاعد النسبي قبل تاريخ الإلغاء، فإنه يحتفظ بحقه في الذهاب إلى التقاعد متى شاء إلى غاية استيفائه شروط التقاعد التام، أو على الأقل تقرير، مرحلة انتقالية لعدد من السنوات للذين استوفوا الشروط قبل الإلغاء، كنا سنخفِّف كثيراً من حدة المعاناة ولكن.
5 ـ بعض الأسر تتخذ الدروس الخصوصية نوعا من التعويض أو العناية أو ربما تحولت عند بعضهم إلى بريستيج.

ثالثاً: المعالجة
1 ـ العناية الجادة بالتكوين المتخصص لتخريج الأساتذة: إذا كان محور التنافس هو البحث عن الأستاذ الأفضل والأقدر على الارتقاء بتلاميذه، فإن الحصيلة الحقيقية التي يجب أن تقدمها إدارة التربية الوطنية دورياً هي: ما بذلته وتبذله من أجل تخريج الأستاذ المؤطر للعملية التربوية وفق معايير الجودة والنجاعة التي نريدها، ذلك رهانها الحقيقي، وهنا يثور النقاش حول مدارس تخريج الأساتذة، وما يجب أن تلقى من العناية والاهتمام.
تلك هي الحصيلة الحقيقية التي يجب أن تقدّمها إدارة التربية للجهات المسؤولة في البلد وللمجتمع، إن التنسيق الدائم والمستمر بين وزارتي التربية الوطنية والتعليم العالي بهذا الخصوص ضرورة لا غنى عنها.
لقد كان السيد رئيس الجمهورية محقاً حينما أمر من خلال مجلس وزراء بإعداد قانون خاص بالأستاذ في التربية الوطنية، في خضم الجدل القائم حول تعديل القانون الأساسي الخاص بالموظفين المنتمين إلى أسلاك التربية الوطنية ـ كما عليه الوضع في التعليم العالي ـ ليس هذا انتقاصاً من قدر باقي المتدخلين في العملية التربوية أبداً، ولكن عدلاً وإنصافاً، إذ أن محور العملية التربوية برمتها التلميذ أولاً والأستاذ ثانياً، وباقي المتدخلين هم مساعدون على إتمام هذه العملية.
فإن تعذر هذا، فإن أي تعديل يجب أن يضع الأستاذ في مكانه المستحَق، وهو قبل ذلك وبعده مسؤولٌ أمام المجتمع والدولة على ما يقدمه لتلميذه ومدرسته.

يجب إعادة النظر في دفتر الشروط المتعلق بهذه العملية ليس من أجل تكريس العقبات والإغلاق البيروقراطي، ولكن بمنطق تشاركي شفاف ومنصف ومرونة إدارية أكبر تراعي غايات التربية وأهدافها، مع تكريس الوصاية البيداغوجية لوزارة التربية الوطنية ومصالحها من أجل المرافقة والمتابعة والرقابة.

الأمر بسيط جداً؛ تصوَّر فقط حين يغيب الأستاذ أو لا يحضر التلاميذ، ما الذي يمكن أن يقدمه باقي المتدخلين للعملية التربوية ولو اجتمعوا، لتدرك أن الغاية هي التلميذ والأساس هو الأستاذ؟
2 ـ تخفيف المناهج الدراسية: إن التركيز على الكمّ المعرفي الذي يتلقاه التلميذ لم يعد ضرورياً في ظل الوفرة المعرفية.
ما يحتاجه التلميذ الضروري جداً من المعرفة، مع تمكينه من مفاتيح منهجية لتوسيع مداركه ومعارفه. يجب أن نزرع بداخله حب المعرفة والبحث عنها بطريقته الخاصة، وأن ندرّبه على الاستقلالية والاعتماد على النفس والتفكير الناقد.
3 ـ لا بد من مراعاة رغبات التلميذ ومدى حبه لما يدرسه من تخصص أو شعبة ينتمي إليها، بعيداً عن ضغط الأسرة أو المدرسة، بل بتوجيههما، لا يليق أبداً أن يبحث الأولياء على تجسيد أحلامهم هم في أولادهم، بل اللائق بهم أن يوجهوا أولادهم ويدعموهم لينجزوا أحلامهم الخاصة بهم.
إن هناك خيارات قد تبدو لنا بسيطة ولكنها خطيرة الأثر عندما لا تخضع للتدقيق العاقل المتفحص، ولأضرب مثالاً من واقع النظام التربوي: أزعم أن من الأخطاء التي ارتكبناها أننا سمينا التخصصات: شعبة علمية وأخرى أدبية.
لم نراع في ذلك مفاهيم ومصطلحات يستعملها المجتمع: العلم في عرف المجتمع لا يقابله الأدب بل يقابله اللاعلم أو الجهل، وقد أوهمنا المجتمع أن دراسة الأدب والتاريخ والجغرافيا والفلسفة ـ وغيرها مما سميناه مواد أدبيةـ ليست دراسة علمية، فأهنناها في لا شعوره وانتقصنا قيمتها، كانت النتيجة تهافت المجتمع على تلك الشعب التي سميناها علمية وإجبار أولادهم عليها ولو لم يكونوا متقنين أو راغبين فقط ليكونوا أطباء ومهندسين.
من قال إن التفوق والذكاء والعلمية شرط في تخريج الطبيب أو المهندس فقط؟ ألسنا بحاجة إلى القاضي النبه الذكي الذي يتقن قراءة النص القانوني ويحسن إسقاطه على الوقائع والأحداث، فتأتي أحكامه وقراراته أقرب إلى الإنصاف والعدالة؟
ألسنا بحاجة إلى المحامي الشاطر الذي يتقن الدفاع عن حقوق موكليه؟ ألسنا بحاجة إلى الأديب البارع الذي يتفاعل مع المجتمع وينتج أدباً مُؤدِّباً ومصلحاً، تماماً كما نحتاج إلى الطبيب المتمكن والمهندس الكفء؟
إن الذين يؤثّرون في العالم ويغيّرون فيه هم أولئك الذين تسمّونهم أدبيين.
إن نظامنا التربوي يجب أن يهتم بغرس قيم الشخصية العلمية والفكرية في عقول أولادنا، تماماً كما يهتم بغرس قيم الهوية والوطنية.
لدي قناعة راسخة أن مادتي الرياضيات والفلسفة يجب أن تأخذا مكانهما الطبيعي في نظامنا التعليمي إذا أردنا أن تكون مخرجاته راقية ومتفوقة، أزعم أنهما الأساس الذي تُبنى عليه الشخصية العلمية والفكر المتحرر المبدع، إنهما رياضة العقل والفكر التي تشجع على الرؤية النقدية المتبصرة للواقع.
لقد كتب أفلاطون على مدخل أكاديميته (الفلسفية): “من لا يعرف الرياضيات لا يطرق بابنا”.
أعود إلى مسألة المدارس الخاصة، وباختصار أقول: إنها الجسر الوسط الممتد بين الدروس الخاصة والمدرسة العمومية.
إن نظرة إدارة التربية الوطنية لهذا النشاط يجب أن تعتدل، لتعتبر المدارس الخاصة رافداً مؤازراً للمدرسة العمومية، مساهماً في تخفيف العبء عن الدولة.
يجب إعادة النظر في دفتر الشروط المتعلق بهذه العملية ليس من أجل تكريس العقبات والإغلاق البيروقراطي، ولكن بمنطق تشاركي شفاف ومنصف ومرونة إدارية أكبر تراعي غايات التربية وأهدافها، مع تكريس الوصاية البيداغوجية لوزارة التربية الوطنية ومصالحها من أجل المرافقة والمتابعة والرقابة… هو موضوع يحتاج إلى بحث خاص لن نهمله.
في الأخير، يجدر التنويه بما ورد في تقرير نشاط لجنة التربية والتعليم والشؤون الدينية والأوقاف من دعوة إلى استحداث “مجلس أعلى للتربية والتعليم” كهيئة عليا مختصة بالنظر والمتابعة والإشراف على أداء النظام التربوي.
إنها دعوة جديرة بالاستجابة أتمنى أن تكون في أولويات السيد رئيس الجمهورية مستقبلاً.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!