-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
الجزائر‭ ‬بعيون‭ ‬الآخر

الدمية‭ ‬المتأنقة‭!‬

الدمية‭ ‬المتأنقة‭!‬

‭ -‬‮ ‬الزمان‭ ‬مارس‭ ‬1988‮ ‬‭. ‬‭ -‬‮ ‬المكان‭ ‬قاعة‭ ‬ابن‭ ‬باديس‭ ‬بمعهد‭ ‬الأدب‭ ‬العربي‭.‬‭ -‬‮ ‬القاعة‭ ‬غاصة‭ ‬بالطلبة‭ ‬عن‭ ‬آخرها،‭ ‬مع‭ ‬حضور‭ ‬مميّز‭ ‬لكل‭ ‬عشّاق‭ ‬الأدب‭ ‬الروسي‭ ‬من‭ ‬طلبة‭ ‬السنة‭ ‬الرابعة‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬حضور‭ ‬مجموعة‭ ‬من‭ ‬الأساتذة‭.‬‭ -‬‮ ‬على‭ ‬المنصة‭ ‬ريما‭ ‬كازاكوفا‭ ‬Rimma‭ ‬Kazakova‭ ‬ترتدي‭ ‬ملابس‭ ‬أنيقة‭ ‬لافتة‭ ‬للانتظار،‭ ‬مع‭ ‬تسريحة‭ ‬شعر‭ ‬حديثة‭ ‬وحليّ‭ ‬ذهبية‭ ‬وماكياج‭ ‬خفيف‭ ‬وجميل‭.‬‭ -‬‮ ‬أنا‭ ‬إلى‭ ‬جانبها‭ ‬مترجما‭. ‬كنت‭ ‬أنقل‭ ‬فوريا‭ ‬بعد‭ ‬نهاية‭ ‬كل‭ ‬قصيدة،‭ ‬مع‭ ‬ذكر‭ ‬فترة‭ ‬الموضوع‭ ‬وظروف‭ ‬تأليفها‭.‬‭ -‬‮ ‬التجاوب‭ ‬رائع،‭ ‬تصفيقات‭ ‬حارة،‭ ‬وفضول‭ ‬كبير‭ ‬لسماع‭ ‬صوت‭ ‬كازاكوفا‭ ‬الرخيم‭ ‬والإيقاع‭ ‬الغريب‭ ‬للغة‭ ‬الروسية‭. ‬‭ -‬‮ ‬موضوعات‭ ‬القصائد‭ ‬هموم‭ ‬نسوية،‭ ‬الطبيعية‭ ‬الشتوية‭ ‬الحزينة،‭ ‬الحب‭ ‬وخيبات‭ ‬الأمل،‭ ‬مشكلات‭ ‬المجتمع‭ ‬الروسي‭ ‬الجديد‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬غورباتشيف‭ ‬‮(‬البريسترويكا‭ ‬والغلاسنوست‮)‬‭. ‬

  •   دام اللقاء من الساعة العاشرة صباحا إلى غاية الرابعة مساء. وكانت هنالك تدخلات ساخنة، خصوصا من شلّة من الشعراء الجزائريين الشباب من أمثال نجاري، بوحبيب، أنزار، وخروبي. هؤلاء كانوا من اليسار المحطّم لكل الأصنام والقيّم البالية، والحالم في الوقت نفسه. كانوا يرفعون راية الالتزام في الشعر عالية خفاقة، ويعتبرون أن الشاعر الحق هو من يخفي عواطفه الخاصة وراء ستار الموضوعية، بل أن بعضهم يقيّم الشعر بحسب دلالته الاجتماعية. وهم لو خيّروا بين الشاعر الكلوشار (أو الأفّاق) والشاعر الأنيق لاختاروا الأول.
    ‮ ‬سؤال‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭: ‬كيف‭ ‬تتجلى‭ ‬قيّم‭ ‬الشيوعية‭ ‬في‭ ‬قصائدك‭ ‬فنيا‭ ‬وإبداعيا؟
    إجابة كازاكوفا: “اقترب من المنصة”، وعندما اقترب قالت له: “انظر إليّ هل أبدو لك حقا أني شيوعية”. حينئذ بدا لذلك الشاعر إنها ليبرالية حتى النخاع، وأن هندامها الأنيق هو مظهر من مظاهر البورجوازية الصغيرة، ويعبّر عن رؤية إيديولوجيا معيّنة. وأدرك الشاعر الشاب أن‭ ‬كازاكوفا‭ ‬صوت‭ ‬جديد‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالالتزام‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يسمى‭ ‬بالقضايا‭ ‬الكبرى‭. ‬
      خرجت أنا وريما كازاكوفا، ودعونا الشعراء الشباب المشاغبين الحالمين إلى تناول الغداء معنا، لكنهم رفضوا بدعوى أنها خيّبت آمالهم، مع اعترافهم بأنها صوت شجيّ وصاحبة حساسية منفردة، يتميّز شعرها بغنائية مقرونة بحزن عميق متجذر في “الروح الروسية”.
      والحقيقة أن الروح الروسية التي عذّبت وعي الشعراء والكتّاب الروس هي خلاصة تاريخهم العنيف، لكن المتطلع إلى الانعتاق منذ اكتساح جينكيز خان لروسيا. روح حائرة بين صوفية الشرق وبين عقلانية الغرب. لكنها ظلت دوما غامضة محيّرة وعنيفة أحيانا، لكن يطبعها دوما السخاء‭ ‬ودفء‭ ‬الصداقة‭ ‬وكرم‭ ‬النفس‭.  ‬
     كنت أعرف ريما كازاكوفا أو “الدمية الروسية المتأنقة” أثناء إقامتي بروسيا. ولم أرد أن أخيّب ظن الحضور أو الشعراء الشباب، وإنما حاولت أن أكون أمينا في نقل شعرها وأفكارها من الروسية دون تعليق مني أو تعقيب.
    كانت كازاكوفا، وهي تجاوز السادسة والخمسين من عمرها آنذاك، صوتا متميّزا إلى حد مذهل في الشعر النسوي الروسي فيه الكثير من الحزن والأسى والحنين، لكن ذلك لا يعني أنها صرفت انفعالاتها وإحساساتها عن عصرها. عاشت لحظة انهيار النظام الشيوعي وبروز البريسترويكا في عهد غورباتشيف. أوفدها غورباتشيف إلى الجزائر لشرح إصلاحاته، ولما قلت لها إن الرئيس الشاذلي بن جديد قال في خطاب له إننا سبقنا الاتحاد السوفييتي في البريسترويكا والغلاسنوست اندهشت مضيفة أنتم الجزائريون سبّاقون في كل شيء، لكنكم تتوقفون دائما في منتصف الطريق!
    ‭ ‬
أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • بيظاني - تندوف

    تبهرنا دائما بمواضيعك ...ياصاحب الوجه الحزين و النفس المتواضعة و انا الذي التقيتك في سينما مسعودي بتندوف ذات يوم من ايام 2008 و اكتشفت رجلا خجولا متواضعا فهل تذكرني ... شكرا استاذ عبد العزيز .

  • hadj.

    شكرا لك على اني لا اوافقك تماما

  • العيـد بالـح

    وأيننا من تلك الفترة التي كان يُستقبلُ فيها الكتّاب من مشارق الغرب ومغاربها لعرض أفكارهم، أين نحن الآن وهل طلبة الماستر هذه الأيام سيهتمّون بمثل هذه الإلقاءات ؟...لا أعتقد إلاّ من رحم رّيك...الثمانينيات وكلّ ما يُقال عليها كانت عشرية ثقافية بامتياز لا سبب يصلها بما نراه اليوم من بؤس