الرأي

الدّولة التي نريد: الرّئيسُ القادم والمشروع النّوفبري المأمول

أبو جرة سلطاني
  • 2489
  • 25
ح.م

مضى نصف قرن وسبعُ سنين على شعب انتصر على المحتل بكلفة ثقيلة، وعانى القهر والاستبداد 132 عاما، وقدم من خيرة شبابه ملايين الشّهداء.. وكان بارعا في صناعة التّاريخ وقهر الأعادي، ولكنّه أخفق في إقامة “الدّولة الحُلم” التي أصدر الأحرار شهادةَ ميلادها ليلة الفاتح من نوفمبر 54 بتوقيع ثوريّ أشهد العالم على أنه عقد العزم على أن تحيا الجزائر، وحدّد ملامح الدّولة في الهدف الثّاني من بيان أوّل نوفمبر، بعد الاستقلال: “إقامة دولة جزائريّة ديمقراطيّة ذات سيّادة في إطار المبادئ الإسلاميّة”.

لم تعد مسألة الهويّة في الجزائر مطروحة للنّقاش، إنّما الصّراع ناشبٌ حول “مشروع مجتمع”، مع أنّ الشّعب قد حسم خيّاره، وثبّت أركانه، ووضع معالمه على طريق التّنفيذ، وذكّر به في أكثر من محطّة تاريخيّة، ولكنّ “الأقليّات النّافذة” نجحت في تأجيل المشروع الباديسيّ النّوفمبري منذ مؤتمر الصّومام إلى اليوم، واستطاعت  تمرير أقساط مهمّة من مشاريع هجينة لم تحظَ برضا الشّعب، ولم تحقّق قطيعة مع الماضي، ولم تكسب معركة الشّارع على مدار سبع وخمسين سنة، هي كلّ عمر دولة الاستقلال؛ ومازالت تقاوم وتخطّط وتنتظر فرصتها للانقضاض على ما تبقى من مشروع الدّولة. وإذا أردنا تقييم مسار الدّولة الوطنيّة الفتيّة في كلمات موجزة، هي رؤوس أقلام مسيرة طويلة من التجارب المتعثّرة، اختزلناها في أربع جمل مفيدة.

ـ  الثّورة العظيمة بتضحيّاتها ولدت دولة صغيرة بأنانيّات بعض الذين أبدعوا في التّحرير وأخفقوا في التّعمير.

ـ الوفاء للشّهداء لم يكن كاملا، والتردّد في حسم “مشروع مجتمع” أهدر كثيرا من الفرص.

ـ تباطؤُ جيل الثّورة في تسليم المشعل أطفأ جذوته في صدور جيل الاستقلال، بعد مرور نصف قرن من الانتظار والترقّب.

ـ أذُن النّظام صماء عن سماع صرخات الشّعب، لذلك أخفق صنّاع القرار في قراءة الرّسائل التي كان يبعث بها إليهم، منذ انتفاضة أكتوبر 88.

ما يمكن استخلاصه من هذا المسار النّضالي الطويل، هو أنّ معركة الهويّة قد تمّ حسمها بإرادة شعبيّة واسعة، وقطعت الأغلبيّة الرّافضة أحلام الأقليّة النّافذة في العودة إلى قرْع طبول العدوّ الخارجي، كلما نادى الشّعب بحقّه في تجسيد حلم الباديسيّة النّوفبرية التي كان لها الفضل في خضْد شوكة استعمار استيطاني أعماه غروره فألْحَق دولة بحجم قارّة بأطماع سمّاها “الجزائر الفرنسيّة”، ولما قاد ابن باديس (رحمه الله) الوفدَ الجزائري للتفاوض مع المستدمر سنة 1936، في مسمّى المؤتمر الإسلامي عاد خالي الوفاض، ولكنّه ازداد قناعة بأنّ المعركة ضدّ المحتلّ تكتسي طابعا ثقافيّا ذا بعد لغوي حضاري، فرسّم ثلاثيّته الذّهبيّة.

ـ الإسلام ديننا.

ـ العربيّة لغتنا.

ـ الجزائر وطننا.

وحتّى لا يرتاب دعيّ في أصالة هذا الشّعب، وعمقه الأمازيغي العربي الإسلامي، نظّم رائد النّهضة الوطنيّة نشيده الشّهير: “شعب الجزائر مسلم..”، ليضع حدود الهويّة بين الجزائريين والمستعمرين الذين كانوا يفخرون بأجدادهم “الغال”. ولم يكن نشيده يخاطب يعْربَ ولا مازيغ، لأنّ المعركة كانت يومذاك ضدّ غاصب محتل، ولم يكن لها أيّ بُعد وطني؛ فقد كان الشّعب كلّه يتطلّع إلى الحريّة والكرامة. فلما تعاقدت خناصر أبناء الجزائر على تحريرها دفعوا الثّمن المستحقّ واسترجعوا السّيادة والكرامة والوطن والرّاية.

بيْد أنهم وجدوا أنفسهم غرباء في وطنهم، واكتشفوا أنّ خروج فرنسا من أرضهم كان استبدالاً لوجه “فرانسوا” بوجه عبد الله، واستخلاف مكتب موريس بمكتب أحمد، وتعويض اسم “ماري” باسم مريم.. بينما الاستقلال فكر، ولغة، وانتماء، وحريّة، وسيادة، وإدارة، وتعبير عن “أشواق وطنيّة” خالصة لا صلة لها بمستعمر الأمس، ولا بلغته، ولا بنمط حياته، ولا بالوصاية التي جعلت الجراد يغادر حقولنا ويفقص بيضُه في عقولنا. فلا يكون الاستقلال تامّا إلاّ إذا أحسّ الشّعب أنه سيّد قراره على أرضه وممتلكاته وسياسته واقتصاده وثقافته ومنظومته التّربويّة..

سيقول بعض المستعجلين للحلّ: لا أحدَ بقيّ اليوم جاهلا بالتاريخ ولا عاجزًا عن تشخيص الواقع. فليس يغيب عن ذهن أيّ متابع لما جرى في وطننا منذ فجر الاستقلال إلى اليوم، بأنّ المشروع النّوفيري الباديسيّ قد سُرق منّا في أكثر من منعطف، ولكنْ: أين الخلل؟ وما هو الحل؟ أو كيف نسقط تجارب الماضي على حركة الحاضر؟ وما هي الاحتياطات الواجب اتّخاذها حتّى لا يتكرّر الخطأ للمرّة السّبعين، ونكتشف أنّ الثّورة التي فجّرها الأحرار قطف ثمرَتها السّفلة؟

إذا قرأنا أسباب إخفاقات الماضي ورددنا فروعها إلى أصولها وجدناها ثلاثة أسباب جوهريّة.

ـ قدْرة التّيار الوطني الإسلامي على تقْويض الموجود، وعجزه عن إيجاد المفقود.

ـ قدرة هذا التّيار العجيبة على تحديد خصومه في الدّاخل ومعرفة أعدائه في الخارج، وجهْله المريب بأصدقائه في الدّاخل والخارج.

ـ هو تيار واسع ومتجذّر ومنتشر.. لكنْ ليس له رأس، ولذلك يزحف بكتلة قوامها بضعة ملايين، فيزيل كلّ المشاريع  المطروحة، ولكنّه لا يقدّم بديلا يرابط معه على تجسيد مشروعه الباديسي النّوفمبري.

والسّؤال التّاريخي الذي يجب أن يُطرح بشجاعة، ويُجاب عنه بجرأة هو: إذا كان الحراك قد وفّر فرصة تاريخيّة لبناء جزائر جديدة؛ فما هي مواصفات الرّئيس الذي سيتولّى تنظيم هذا التّيار وتعبئته وتوجيهه لكسب رهان المستقبل بقاعدة وطنيّة واسعة تعينه على تجسيد المشروع الذي تأخّر نصف قرن؟

الجواب بجرأة: لقد ضيّع هذا التيّار على نفسه فرصة ترشيح شخصيّة تجسّد حلْمه في بناء جزائر جديدة، وترك قدَره للظّروف تفرز من بين الرّاغبين في الترشّح فارسًا بحجم الجزائر، وبتطلّعات شبابها، وتحديّات حاضرها، وانتظارات مستقبل أجيالها.. وبعد الفرز سيجد هذا التيار نفسه مخيّرًا بين أمريْن: إما أن يختار من بين الوجوه “وجها” أقرب إلى أشواقه. أو يُختار له إذا قرّر الغياب عن المشهد. فإدارة الظّهر للواقع لا يغيّر حاله، فالطّبيعة لا تقبل الفراغ. ومادام  واجب الوقت أئلاً إلى الخيار الأوّل، فلابدّ أن تتوفّر في رجل المرحلة الحسّاسة ثلاث شروط لا تسامح فيها ولا تنازل ولا تساهل.

ـ قوّة شخصّيّة لا تلتوي ولا تتلوّن ولا ترمي المنشفة في منتصف الطّريق.

ـ خبْرة بمفاصل الدّولة العميقة وبأساليب عملها؛ فقد تبدّل الأفعى جلدها لتتماهَى مع ألوان البيئة الجديدة.

ـ الجمع بين المهارة السيّاسيّة، والخطاب الواثق، والقدرة الاقتصاديّة، فمعركة الجبهة الاجتماعيّة على الأبواب، والمديونيّة ليست حلاّ.

باختصار مفيد: المرشّح الذي لم يستوعب جيّدا دروس الماضي، ولم يقرأ المشهد الوطني قراءة صحيحة، لا يصلح أن يكون رئيس بلديّة، ناهيك عن تطلّعه للجلوس على عرش أسقط الحراك كثيرًا ممّن كانت أحلامهم قابَ قوسيْن أو أدنى من التربّع عليه. وإنّ غدًا لناظره قريب.

مقالات ذات صلة