الرأي
تراجيديا موت عيسى مسعودي!

الذاكرة ليست الماضي أبدا.

أمين الزاوي
  • 5014
  • 18

بشِعره، باللغة التي يعرف سر قوتها القليلون، قلة القلة، تحول محمود درويش إلى أقوى “جيش” عربي، أقوى من جميع الجيوش العربية النظامية التي لم تربح حربا واحدة ضد إسرائيل، بقصائده العنقودية المسموح استعمالها دوليا خاض أكبر الحروب التي لم تحسن خوضها الجيوش العربية، ظل محمود درويش طول حياته الشعرية وحتى في موته وبعدها يخيف نتانياهو ويرعب شامير ويقلق نوم غولدامايير في قبرها، هكذا استطاع الشاعر أن يصنع من الهشاشة قوة مدمرة، هكذا تمكن من تحويل الفراشة إلى مدمرة خارقة للعادة، هو الشعر له سحره وله سلطانه وشيطانه.

بصوته، بحبال في الحنجرة ولدته أمه بها، قد يتحول الصوت إلى مدفع، وحين يكون هذا هو الحال، فاعلم سيدي بأن ذلك هو صوت عيسى مسعودي ( 1931-1994). كان صوت عيسى مسعودي ابن حي محيي الدين الفقير بوهران وحده يواجه ترسانة الدعاية الفرنسية.

كما للغة عند محمود درويش قوتها فللصوت عند عيسى مسعودي زلزاله.

الصوت الجميل قد يُطرب وقد يُغضب وقد يَضرب، ومثله اللغة، ولا صوت بدون لغة، مهما كانت هذه اللغة، بدون معنى، وتلك من خصائص صوتي محمود درويش وعيسى مسعودي.

حين دخلت إسرائيل بيروت العام 1982 كانت تقتل الفلسطينيين ومن يقف إلى جانبهم ومع قضيتهم، ولكنها كانت تبحث أيضا عن اغتيال الأرشيف، وقد صادرت أرشيفا فلسطينيا كثيرا، ما لم تتمكن الثورة من نقله وتهريبه في تلك الأيام العويصة، استولت إسرائيل على كثير من أرشيف مركز الدراسات الفلسطينية ببيروت، ولكن مع ذلك فالفلسطينيون حين ركبوا البحر اتجاه تونس واليمن وتفرقوا في أرض الله الضيقة، حملوا معهم، وعلى عجل، ما أتاحت لهم الساعة والفتنة والاضطراب بعضا من أرشيفهم، لأنهم كانوا يدركون بأن معركة الأرشيف هي معركة الذاكرة التي وإن تأجلت ستندلع ذات يوم.

يشهد الرئيس هوار بومدين؟ بأن صوت عيسى مسعودي مَثَّل “نصف الثورة التحريرية”، به تم حشد الصفوف ورفع المعنويات وإيصال الصدى والمعنى، وإذا كانت لغة السياسة “لغة من خشب” فقد أضرم عيسى مسعودي النار فيها، نفخ فيها روحا، لتصير على حبال صوته طاقة ونورا.

و إذا كانت الثورة الفلسطينية، أينما وكلما حوصرت نقلت معها ذاكرتها بالقدر الذي تستطيع، وبقدر ما يسمح لها به المجال السياسي الخانق، فالثورة الجزائرية، بعد أن أمرت بإغلاق إذاعة الجزائر المكافحة، ودخلت معدات الإذاعة من المغرب وعاد الذين كانوا يشتغلون بـ”صوت الجزائر” في تونس والقاهرة و… واندلعت زغرودة الاستقلال ورُفع العلم على مبنى الإذاعة في 28 أكتوبر 1962 ، نسي الجميع الأرشيف، ضاع في الطريق على ظهر “كميونة” أو في “بناية” أو في “طريق” أو في… لا أحد يدري!

و يروي من كان في الميدان، وقريبا من أهل القرار، بأن إدارة الإذاعة التونسية طلبت من الجزائر بعد الاستقلال بسنوات استعادة أرشيف البرامج التي كانت تبث من إذاعة تونس، وذلك مقابل دفع بعض “السنتيمات”، وهو مبلغ زهيد يعادل ثمن الأشرطة فارغة، وقد نبهت الإذاعة التونسية السلطات الجزائرية إلى أنها ، في حالة ما إذا لم تستجب السلطات الجزائرية لدفع ثمن الأشرطة، فإنها وللحاجة المادية مضطرة للتسجيل عليها، وهو ما يعرض التسجيلات الأصلية للمحو والتلف. ولا من مجيب !! وأمام صمت السلطات الجزائرية اضطر المشرفون على الإذاعة التونسية استعمال الأشرطة التي كانت تحوي تسجيلات برامج الثورة الجزائرية “صوت الجزائر من تونس”، وهكذا تم اغتيال الأرشيف الإذاعي لذاكرة الثورة في تونس، ولم يُبْق المسؤولون التونسيون إلا على تسجيلين اثنين بصوت عيسى مسعودي هما: تسجيل خاص بمعركة ساقية سيدي يوسف وكلمة الشكر التي وجهتها القيادة الجزائرية للسلطة التونسية يوم أمرت بإغلاق برامج “صوت الجزائر” من الإذاعة التونسية.

يتساءل الباحث الجزائري الشاب اليوم، الباحث في الإعلام كما في التاريخ أو في العلوم السياسية، أين يمكنه أن يعثر على هذا الأرشيف الذي يعكس كثيرا من أسرار عبقرية الثورة الجزائرية، وعبقرية الخطاب المقاوِم؟ أقول لهذا الباحث، للأسف، ومرة أخرى عليه الذهاب إلى “فرنسا”، فهي البلد الوحيد الذي قد يكون يملك جميع هذه التسجيلات. كيف حدث هذا؟ إن المخابرات الفرنسية وكذا وزارة الحرب الفرنسية كانت حريصة على تسجيل كل ما تبثه إذاعة “صوت الجزائر المكافحة” أو ما يذاع من برامج خاصة بالثورة الجزائرية من إذاعات عربية كتونس والقاهرة و… كانت تسجل كل ذلك بغرض الرد على صوت الثورة فهي حرب دعاية لا تقل شراسة عن حرب السلاح، لذا فمن يريد البحث عن أرشيفنا، حتى ذاك الذي صنعناه بصوت عيسى مسعودي، عليه أن يعود إلى فرنسا ثانية، فهي الوحيدة التي تكون حافظة لكل تلك التسجيلات. عجبا!

ويحكي الذين زاروا عيسى مسعودي وهو على فراش المرض، في أيامه الأخيرة، بأنه أصيب بمرض “غريب”، يتمثل ذلك في فقدان “صوته”! لقد بدأ الموت عيسى مسعودي من صوته إذ أطفأه، تماما كما بدأت الثورة موتها من ضياع أرشيف صوتها، وربما يكون “موت الصوت” دليل كآبته على أرشيفه الذي تم محوه أو تضييعه، وبالتالي وجد نفسه بدون ظل، وحين يفقد رجل مثل عيسى مسعودي صوته وهو أهم رأسمال لديه فإنها الفاجعة، إنها تراجيديا رجل من رجال الثورة.

مقالات ذات صلة