-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً!

محمد الغزالي
  • 438
  • 0
الذين اتخذوا دينهم لعباً ولهواً!

نظرت في الطريقة التي يؤدي بها المسلمون عباداتهم، فوجدتها متوافقة مع موقف المسلمين العام من تعاليم دينهم، ذلك الموقف المنطوي على الإهمال والإضاعة.. أمس القريب ودّع المسلمون رمضان واستقبلوا أشهر الحج؛ فهل استفادت الأمة من صيامها وهل تستفيد من حجّها؟
لقد كنت أضحك ضحكا مُرّا وأنا أسمع أغاني رمضان، والاستبشار بقدومه، والحزن لفراقه! كنت موقنا أن المغنّي مفطر، وأن المغنّية لم تفكّر يوما في صيام، كنت أسمع الألحان والأنغام، وأنا استغرب كيف تحوّل الدين إلى طبل وزمر وصياح ومجون! كنت أعرف أن شهر الصيام والقيام قد غاضت منه معانيه الرفيعة وحوّلته الطبائع المرضى إلى شهر طعام وشراب، وتسال وألغاز، وضجيج طويل أبعد ما يكون عن الجد والصدق.. وعرفت يقينا أن المسلمين حكموا على بعض تعاليم دينهم بالموت، وحكموا على البعض الآخر بالمسخ والتشويه!
إن الله لما شرع العبادات شرح الحكمة المقترنة بها والثمرة المرجوّة منها. فإذا أُدّيت هذه العبادات تأدية عقيمة أو صورية، فإن هذه التأدية لا تزيد عن الإهمال والترك إلا قليلا.. إذا كانت غاية الصوم التقوى كما قال الله تعالى: ((كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون))، ثم جاء من صام ولم يستفد من طاعته التقوى المنشودة، فما قيمة صومه؟ وإذا كانت الصلاة طهارة للقلب، ووضاءة للخُلُق، وانتهاء عن المناكر، ثم جاء من يصلّي دون أن يحقق في روحه أو سلوكه شيئا من ذلك، فما قيمة صلاته؟
نعم، ربما كان هذا الأداء دليلا على خيط يربط المسلمين بينهم على نحو ما، ويستطيع المربّون أن يهذّبوا هذه العلاقة، وينقّوها من عِللها. وهذا صحيح، وأحب أن أشير إلى أن مراصد التبشير الغربي تنشر صورا عن المجتمعات الإسلامية في رمضان، وتثبت إحصاءات عن عدد الصائمين ونسبتهم في الأمة، وتستنتج من ذلك كم بقي على المسلمين لينسلخوا من دينهم نهائيا، كلما رأوا عدد المفطرين يزيد باطراد!
فهل يدرك ذلك المشايخ الذين خربوا الذمم، الذين يصدرون فتاوى عامة بالإفطار، لجماهير غفيرة من الناس بعد أن يحرفوا الكلم عن مواضعه، وبعد أن يغمضوا عيونهم عن الملابسات المحيطة بالسؤال والسائلين؟ أعجبني عندما كنت في الكويت -خلال رمضان- أني لم أر مجاهِرا بفطر، فمن كشفت سوءته رمي به في السجون. ليت شعري لماذا لم يطبق ذلك النظام في مصر؟ ولكن كم في مصر من مفاسد اجتماعية تتطلب مبضع الجرّاح ليشفي ويكفي؟
وها قد خرج المسلمون من رمضان لتطالعهم أشهر الحج، وأغلب عشّاق الحج من الفقراء الذين لا تلزمهم الفريضة، ومع ذلك يزحمون موسمه! وجمهور القادرين الواجدين، مصروف القلب عن هذا الركن الجليل! وتلك بعض نتائج الغزو الثقافي لبلادنا العليلة في المشارق والمغارب. ومع هذا الحساب للمقبلين والمدبرين، فإن الموسم العظيم يعج بالألوف المؤلفة.. وتعود بنا الذاكرة إلى الماضي البعيد عندما كان الحج شعيرة حية من شعائر الإسلام الحي، شعيرة تتقرر فيها سياسة المسلمين نحو أعدائهم، وتوجه هذا الفيضان البشري من شتّى الأجناس والألوان ليمحو ويثبّت من صور الحياة ما يشاء!
في حجة مضت إبان العهد الأول، وقف على بن أبى طالب يصك آذان المعتدين والمجرمين بهذا الإنذار الإلهي: ((واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين)).
لقد تحمّل المسلمون الكثير من غدر خصومهم، وخبث مؤامراتهم، وطول تبجُّحهم، وها قد آن أوان القصاص والتأديب، وانتهت عهود المطاولة والتريث: ((وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله * فإن تبتم فهو خير لكم * وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشّر الذين كفروا بعذاب أليم))، فهل يوجد اليوم بين الحكام المسلمين من يستغل الحشود المائجة يوم الحج الأكبر، ويلقي الخطبة نفسها التي ألقاها على بن أبى طالب؟ إن الإسلام في خطر مقترب ووجه مكتئب، وكل يوم يمر تسقط من بنائه لبنة، ويضيع من أرضه قيراط. فهل يذهب الحجيج ويعودون لتقام لهم الأحفال، وتُزجَى لهم التهاني، وتسند إلى أسمائهم ألقاب؟! وأمر المسلمين في إدبار، وتاريخهم المعاصر يلف به إطار من العار. أتلك هي الغاية من فريضة الحج؟ وذلك هو الربح الذي يحصله الحُجّاج لدينهم ودنياهم؟ كيف هوى المسلمون بشعائر دينهم إلى هذا الدرك؟
ولحكمة عُليا شاء الله أن تكون المساجد الثلاثة التي تشّد إليها الرحال في هذه المنطقة في الشرق الأوسط، إنه في هذا الشرق درجت الديانات وفيه تقع الأماكن المقدّسة، وقي هذا الشرق أقام الإسلام للعرب دولتهم الكبرى، وجعل منهم أمة مرموقة بعد أن لم يكونوا في التاريخ شيئا مذكورا.. لكن العرب خانوا تعاليم الإسلام عدة مرات، فأصابهم من ضربات القدر وخزي الأيام ما أصابهم.. خانوه أول مرة في أواخر القرن الرابع الهجري عندما أوهنوا أمرهم، وتقطع بينهم، وتبعوا أهواءهم، وتفرّقوا شيعا، فكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبر! وعندئذ جاء أول فوج للصليبيين، واكتسح المقاومة الواهنة، وأرخص الدماء في القدس المهزومة حتى خاضت في مجراها سنابك الخيل.. وكما كانت هذه البقاع من أرض الله لا تعني العرب وحدهم، وإنما تعنى المسلمين من كل جنس وبلد، فإن فساد العرب أصلحته الأجناس الإسلامية الأخرى. فتقدم الأكراد والأتراك باسم الإسلام ونشلوا العرب من وهدتهم، وما زالوا يقاتلون الصليبيين حتى أجلوهم عن المواطن التي احتلوها، وما زالوا كذلك يجالدون التتار حتى كسروا شوكتهم.. وعاد العرب والمسلمون إلى فلسطين بعد ما طهّرها الإيمان المجرّد والإخلاص لله والعمل لدينه.. وخان العرب الإسلام مرة ثانية في الأندلس، يوم غرقوا في الملاهي، وملأوا أفواههم فخرا بعصبيتهم القبلية ونزعاتهم العنصرية، ونسوا أن الإسلام محا كل هذه الدعاوى، وطمس مآثر الجاهلية، واستحيى قيم الإيمان والفضيلة وحدها في موازين البشر. فماذا كانت العقبى؟ لقد دخلوا بالإسلام أرض الأندلس، فلما جحدوه وتذاكروا عروبتهم ونبضت عروق الجاهلية في سيرتهم، طُردوا من هذه الأرض شر طردة، وأقفرت منهم مغان طالما عمرت بشيبهم وشبابهم.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا* أنيس ولم يسمر بمكة سامر!
واليوم يعيد التاريخ نفسه، فهل نتعظ قبل أن تدور علينا رحاه فتطحننا كما طحنت من قبلنا من المفرطين واللاهين؟ إن القدس سقطت في يد اليهود، والزحف الجديد يضمر في طواياه السود إبادة أمة وإزالة تاريخ.. والعرب في أوضاع الهزيمة التي وقع فيها من قبل أسلافهم المفرطون، أولئك الذين انسحبوا من الأندلس، واندحروا أمام الصليبيين القدامى! نعم في الأوضاع نفسها! فرقة بين الأمراء والرؤساء لا تجمع قلبا على قلب، نهمة إلى الشهوات هبطت من الكبار إلى الصغار، وجعلت الكل يطلبون الدنيا بخسة، ويركضون وراء مآربها ركض الوحش في البرية بلا عقل ولا تقوى.. وزاد الطين بلة بلاء جد على التاريخ العربي، لم يعرف يوما في صحائفه الأولى. هذا البلاء، قوم يجرّدون العروبة من الإسلام، ويقطعونها عن أبيها الروحي والفكري والحضاري والعسكري، ويريدون إفهام الأجيال الناشئة أنهم أولاد أنف الناقة وتأبّط شرا وأمثالهم من قادة الفكر في عالم الأساطير.
إنني أحذر العرب من هذه البلايا التي تجمّعت عليهم، وما أرى الوقت يتسع للتلكؤ في العودة إلى الله. ولا يزال يرنّ في سمعي قول صديقي المجاهد المسلم محمد على الغتيت: “إن الشعوب التي لا تبصر بعيونها؛ سوف تحتاج إلى هذه العيون لتبكى طويلا”
(من كتاب: حصاد الغرور)

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!