-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الرؤية التوافقية.. قبل الدستور التوافقي

الرؤية التوافقية.. قبل الدستور التوافقي

بعيدا عن التفاؤل المفرط والتشاؤم اللاّمحدود بشأن مستقبل الجزائر ينبغي أن نبحث عن الحل.. بعيدا عن القول بأن لا جدوى من دستور توافقي أو أن هذا الدستور هو الحل ينبغي أن نجد المخرج.. من السهل على المرء أن يسد جميع الأبواب ليُبقي على المجهول مخرجا وحيدا، ولكن من الصعب جدا عليه أن يفتح أبواب المستقبل من خلال رؤية توافقية بعيدة المدى… لذلك، عليه وعلينا جميعا أن نفعل، بعد أن نُدرك أن مستقبل بلدنا اليوم هو محل رهان وعلينا أن نكسب هذا الرهان…

 لندع فريق السلطة جانبا، إنه مصر على إتمام سيناريو رسمه لنفسه ويمتلك كل الأدوات لذلك، ولكنه على ما يبدو سيناريو أوشك على نهايته ولم يعد قادرا على تقديم الحلول المبتكرة. يتجلى ذلك من خلال الإخراج الأخير لحلقة أداء اليمين الدستورية حيث بدا كل الديكور حزينا يشير إلى قرب النهاية لا إلى بداية جديدة ومستقبل واعد.

أحزنتي رؤية رئيسنا بتلك الحال، وأقول رئيسنا لأن الجزائر لا بد لها من رئيس، حاولت قدر الإمكان أن أجد له مبررات انطلاقا من حبّه لبلده اللامحدود، أو من وطنية وصلت إلى حد التعلق والهيام، أو من حب حقيقي لشعب إلى حد إفناء الذات من أجله من خلال البذل والعطاء… إلا أن ذلك لم يستقم أمام عقلي وإن راودني الإحساس به، لم يستقم أمام نهاية أخرى كانت ستكون أصدق وأمتن وأكثر تطابقا مع آلام وآمال الجزائر.. نهاية أخرى أسمع فيها خطابا منه يقول: “أيها الشعب الجزائري، أيتها المواطنات أيها المواطنون لقد قضيت أول العمر أبحث لكم عن الحرية، وأوسط العمر عن العيش الكريم، وآخر العمر عن الأمن والاستقرار، ولكني اليوم وقد بلغت من الكبر عتيا… هاأنا أضع الجزائر بين أيديكم وأوصيكم بكذا وكذا اجتهادا منا ولا يعلم الغيب إلا الله…” ويطوي صفحة من تاريخ الجزائر المجيد… هذه النهاية التي تمنيتها، لكنها لم تحدث كما تمنيت، وبدلها تعرفت على آخر مشهد من مشاهد السيناريو المعد: إعادة فتح ورشة الإصلاحات السياسية “التي ستفضي إلى مراجعة الدستور مراجعة توافقية”، وورشات أخرى تخص “تحسين جودة الحكامة” و”دحر البيروقراطية خدمة للمواطنين والعاملين الاقتصاديين” و”ترقية لامركزية ترتكز على الديمقراطية التشاركية” و”إصلاح العدالة” و”محاربة الجرائم الاقتصادية وفي مقدمتها آفة الفساد” و”تعزيز أمن المواطنين وممتلكاتهم ضد كافة أشكال الإجرام والعنف”… إضافة إلى الإشارة إلى “مواصلة التنمية” و”محاربة الفوارق الجهوية” و”دعم الفلاحة” و”ترشيد النفقات العمومية” و”دعم التشغيل” و”مرافقة الشبيبة لإنشاء نشاطاتها الخاصة والإسهام بذلك في تنمية البلاد”… الخ.

ولم أشك لحظة في كون هذه الورشات هي حقيقة ما ينبغي القيام به، هي ما تدعو إليه المعارضة في برامجها وما يتفق الشعب الجزائري بشأنه. جميعنا نريد الأمن والاستقرار ونريد دستورا توافقيا وتنمية وشغلا وسكنا ومحاربة للفساد… الخ، ولكن من يقوم بذلك؟ إلى من ينبغي أن توكل هذه المهمة؟ لماذا لا تتاح الفرصة لكل الجزائريين بنفس المستوى للقيام بذلك؟ لماذا يكون من حق فريق واحد أن يسهر على مستقبل هذا البلد الكبير بغض النظر عمن يكون هذا الفريق، بغض النظر ما إذا كُنّا متفقين معه أم غير متفقين؟ لماذا لا نحرر آفاق الابتكار والإبداع للجزائريين بفريق بل بفرق جديدة في كافة القطاعات؟ لماذا لا نترك المكان للذكاء الجديد؟ وللقوى الفتية القادرة على أن تفتح حقيقة مثل هذه الورشات برؤية جديدة، مستقبلية وبعيدة المدى؟

الخلاف كل الخلاف في هذا المستوى.. والخوف كل الخوف من هذا المستوى.

الفريق القديم يخشى أن يُستبدل بآخر فيحاسبه على أخطائه أو لا يكون في مستوى المهمة؟

والفريق الجديد يريد أن ينتزع الفرصة لكي يُقيم الإصلاح على أسس جديدة حقا، وبرجال ونساء جدد لم يسبق أن شُوِّهوا أو تَلوثوا أو حتى مَسَّتهم شظايا الفساد والحكم غير الراشد؟

لماذا نعجز عن إيجاد رؤية توافقية بين الطرفين: لماذا تصر السلطة الحاكمة على المضي بالسيناريو الذي أعدته وتطالب الآخرين بالاندماج فيه ولا تدعو إلى البحث عن سيناريو جديد بإخراج جديد؟

يبدو أنه علينا أن ندفع بهذا الاتجاه، بدل بقاء كل طرف ضمن مجاله المحدود من الرؤية لا يريد الخروج منه، عليه أن يخرج إلى مجالات أرحب وأوسع يتفق خلالها مع الجميع على كيفية إخراج المشهد الأخير من السيناريو الحالي الذي تعرفه الجزائر، مشهد يَخرج الجميع خلاله رابحين.

هل يعجز ابتكارنا عن إيجاد مشهد مستقبلي آخر لرئيس الجمهورية وهو ينقل السلطة إلى الجيل الجديد؟

أليس في مقدرونا أن نمحو من الذاكرة ما علق بها من رموز حزينة لمشهد قصر الأمم الأخير؟

أعتقد بأن بلادنا اليوم هي في حاجة إلى فعل من هذا النوع. لم يفتها الأوان بعد، فعل لا يقوم على غلق الأبواب جميعها كما لا يقوم على فتحها بلا حدود.

وأول خطوة في ذلك، هي بدل أن نبدأ في ورشات العمل الجزئية ـ بما في ذلك ورشة الدستورـ التي تَفترض وجود اتفاق حول الرؤية بمختلف مشاهدها المستقبلية. أن نجلس في مكان ما، جميعا لنصوغ هذه الرؤية المتكاملة  والتوافقية من أجل الجزائر، ثم بعدها، وفقط بعدها، نشرع في التطبيق، وضمن هذا التطبيق يودعنا رئيس الجمهورية وداع الأمل في رسالة لا تحمل “أنواع وأشكال” الورشات التي يريد أن يفتح، إنما تُحمِّل الجيل الجديد مسؤولية فتح أية ورشات يريد ما دامت الرؤية أصبحت واضحة لديه.

إننا لا نريد أن نستمر في العمل من غير معرفة نهايات بقية الطريق، من غير أن نكون على اتفاق إلى أين نحن سائرون خلال الخمسين سنة القادمة.

لقد قام جيراننا بتغييرات دستورية، دام النقاش حولها شهورا وشهورا، ولكنهم ما لبثوا أن انقلبوا عليها في مصر، أو قاموا بخرقها خرقا في تونس وأدخلوا الناس السجن من غير العودة إلى الدستور الجديد… ويجري نفس الشيء في ليبيا، وجرى الأمر ذاته في المملكة المغربية، ولم تعرف هذه البلدان الاستقرار المنشود أو الانطلاقة الحقيقة، ولن تعرفها ما دامت لم تطرح مسألة الرؤية التوافقية من أجل المستقبل… وبلادنا المعززة بتجربة متينة في مجال توطيد أركان الدولة ضد كل محاولة مساس بأمنها واستقرارها، بلادنا التي سبق ربيعها الربيع العربي بسنوات، ينبغي لها أن لا تعود القهقرى إلى حيث وصلوا اليوم بل أن تستبقهم بما لم يسبقوا إليه: صوغ رؤية توافقية يُنظر من خلالها إلى الدستور وإلى جميع ورشات الإصلاح، وقبل ذلك، أي عاجلا، إلى كيفية إخراج المشهد الأخير من المرحلة التي تعيشها الجزائر.. مشهد أخير يَستبدل رموز الحزن والمرض والموت برموز الفرح والشباب والحياة.. وتلك هي أمنيتنا لمن أراد أن يعرف…

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
3
  • حكيم

    السلطة هي القيمة المحورية في الثقافة العربية،وكل ماعداها هي وسائل للوصول اليها،،،

    من كتاب ،حصون التخلف

  • بدون اسم

    مع الاحترام الشديد....تتكلمون و كأننا في مكان الحديث فيه هو حديث أفكار و علم و منطق سليم...

  • القمري

    تتحدث عن الدستور والتوافق الدستوري وكانك فعلا تعيش في دولة انت تعيش في بلد الجيش له دولة ويحكمها بالمخابرات ويقمع سكانها بالبوليس انت في ثكنة وتتحدث عن دستور هل انت في كامل قواك العقلية عليك ان تقبل برضاك او رغم انفك انك في ثكنة مغلقة لها اسياد وجنيرالات اوامرهم دستور ونواهيهم قوانين ورضاهم واجب وطني وفتاتهم منة عليك وانهم اصحاب الارض وما تحت الارض وانك لاجئ عندهم واذا لم يعجبك الحال اذهب الى مالي و ا النيجر او اركب قارب لعلك تصل الى الضفة الاخرى