الرأي

الرد الكافي على سفير الاستعمار الثقافي

أرشيف

لا توجد أمة على وجه الأرض عبر التاريخ، ألحقت الأضرار الفادحة والآلام المبرحة، بالشعب الجزائري مثل الأمة الفرنسية الماكرة الظالمة المتغطرسة، إن الظلم الذي وقع من الفرنسيين على الجزائريين تنوء بحمله الجبال وتقشعر منه الأبدان، وتشيب له الولدان.

واليوم، ومع هذه الصحوة المباركة التي وُلدت من رحم هذا الحَراك الجزائري الشعبي الباهر النبيل، حماه الله سبحانه وتعالى ورعاه وسدد خطاه، ولما أظهر من شعارات أصيلة، وأهداف نبيلة، تحرك العدو اللدود للشعب الجزائري عبر التاريخ وهو الاستعمار الفرنسي البغيض، الذي تلونت وتنوعت أشكاله القبيحة، لاسيما الاستعمار الحديث المتمثل في الاحتلال الثقافي، وخاصة منه الاحتلال اللغوي الذي يعني التبعية اللغوية في الجزائر للغة الدولة المستعمرة القديمة فرنسا التي لم تترك للجزائريين مكرمة وحيدة يذكرون فيها فرنسا بخير، ودونكم التاريخ يحدثكم بصدق إذا ما استنطقتموه عن حقبة طويلة من الزمن، لم ير فيها الجزائريون من فرنسا إلا القهر والاستعباد والتقتيل والتجهيل، وآلام اليتامى من الأطفال المتضوّرين من شدة الجوع، وأنين الثكالى، والأرامل من النساء.

إن بين الجزائريين وفرنسا أنهارا من الدماء والدموع، لا تُنسى ولا تُمحى بتطاول الأمد، وتباعد الأعصار، فكيف يأتي السفير الفرنسي «دريانكور»  بالعجائب والمناكير، فيدعو إلى التعاون المطلق بين المعاهد الفرنسية والجزائرية والمحافظة على تدريس اللغة الفرنسية في الجزائر، لحماية هذا الإرث المشترك كما يدعي؟!

إنه إرث مسموم يا سعادة السفير!

إنها دعوة ماكرة لا يراد بها الخير للجزائر، فمتى فعلت فرنسا الخير مع الجزائر؟ ودليلي على ذلك ما يأتي:

1- قرأت منذ زمن حادثة وقعت لجزائري في «فيلندا» أنه قد ضاعت منه وثائقه بما في ذلك جواز السفر، فوقف في الطريق يستعطف المارة ويطلب منهم المساعدة باللغة الفرنسية، والناس يمرون أمامه جيئة وذهابا، وهم لا يفهمون ما يقول، فلما طال الزمن، وتعب قال باللغة العربية: “استغفر الله لا حول ولا قوة إلا بالله”، فأسرع إليه أشخاصٌ مسلمون من الهند، وقاموا بمساعدته، لأنهم فهموا أنه يطلب المساعدة.

والشاهد في هذه القصة التي فيها عبرة واضحة لكل جزائري بل كل عربي، أن اللغة العربية أهمّ في الخارج من اللغة الفرنسية لارتباط العربية بالإسلام، فمليار ونصف مسلم كلهم يسعون إلى تعلم اللغة العربية لقراءة القرآن وفهم الإسلام، وكل حسب طاقته وظروفه.

وفي هذه الحادثة جاء أن أولئك الهنود، بعدما قاموا بمساعدة الجزائري فاقد الوثائق، قالوا له: “حظكم سيء يا جزائريين لأنكم تتعلقون باللغة الفرنسية، فإذا خرجتم من غرب شمال إفريقيا، لم يعد يفهمكم أحدٌ بهذه اللغة المحدودة الانتشار”، وهذه الحادثة قد نشرتها في “الشروق اليومي” فيما مضى من الزمن.

2- حدثني الأستاذ الدكتور صالح فيلالي رحمه الله تعالى –وقد درس في بريطانيا- قال: كنت مسافرا أنا وأحد أغنياء مدينة قسنطينة من مدينة لندن إلى باريس، فلما وصلنا إلى مطار باريس قدّمنا وثائقنا وجوازي سفرنا، فلما علم البوليس والموظفون الفرنسيون أننا جزائريون لحديثنا معهم باللغة الفرنسية في ذلك المطار الفرنسي عاملونا بخشونة واحتقار، قال: فلما كلمتهم باللغة الانجليزية تغيّرت المعاملة حالا واعتذروا إلينا! والسبب في ذلك في تقديري: أنه يعود إلى أنهم ظنوهما من عامة الجزائريين، وهم يحتقرون عامة الجزائريين ويهينوهم، فلما كلمهم الأستاذ بالإنجليزية علموا أنهم ليسوا من عامة الجزائريين، وتعليقي على ذلك كذلك، أن هذه نذالة وليس بخُلق فالأقرب إليك من يكلمك بلغتك، لكن ارتباط الفرنسية بالاستعمار بالنسبة للجزائريين، يجعل الفرنسيين يحتقرون الجزائريين، ألا ليت شعري: متى يفيق الجزائريون من غفوتهم، ويستبدلوا الانجليزية بالفرنسية لغة أجنبية أولى، وفي ذلك مصالح مختلفة ومنافع شتى؟

3- إن اللغة الفرنسية أصبحت تكتسحها اللغة الإنجليزية في عقر دارها، وهذا وزيرٌ من وزرائها يعلن في السنة الماضية للفرنسيين، أنه لا مفرّ من تدعيم اللغة الانجليزية في نظام التعليم الفرنسي، إن أرادت فرنسا أن تلتحق بركب التطور والتكنولوجيا وتنفتح على العالم المعاصر.

بل وطلب تخصيص ميزانية كافية من حُرّ مال الفرنسيين لتدعيم تعليم اللغة الانجليزية في المدارس، فكيف يستغبي السفير الجزائريين ويطلب منهم المحافظة على اللغة الفرنسية في الجزائر؟!

أتظن يا حضرة السفير أن أبناء الشهداء وأحفادهم وعامة الشعب الجزائري، قد نسوا جرائمكم التي اعتبرتموها إيجابية وحضارة وخير على الشعوب المستعمرة، وهم مغفلون وبلهاء إلى هذه الدرجة، إذ تدعون في بلادكم إلى تدعيم تعلم اللغة الإنجليزية، وتطلب من الجزائريين المحافظة على تعلم اللغة الفرنسية في الجزائر، أليس هذا شيئا أعجب من العجاب؟!.

وفي الختام أهيب بكل المسئولين الجزائريين في وزارتي التربية والتعليم العالي، وأحثهم على وضعهم لمخطط علمي تدريجي دقيق، يُطبَّق على مراحل زمنية معيَّنة بحيث يفضي إلى تدريس كافة العلوم باللغة العربية، وفي ذلك مصلحة وطنية كبرى مؤكدة لوطننا العزيز الذي ضحى من أجل حريته وأصالته ملايين الشهداء الأبرار، إن التجارب الإنسانية عبر التاريخ تثبت أنه ما من أمة نهضت وارتقت إلا بنهضة داخلية، معتمدة على قيمها وخصائصها وموروثها الثقافي والحضاري، فنهضة اليابان أو الصين أو كوريا وغيرها، ما تحققت إلا بلغاتها ومقوماتها الذاتية، فإن الحضارة تنبع من داخل الأمة، ولا تُجلب من غيرها، وذلك لا يعني الانغلاق على الذات، وعدم التفاعل مع تجارب وحضارات الأمم الأخرى، وإنما تكون وسيلتنا إلى الاستفادة من الآخرين هي اللغة الإنجليزية، لأن اللغة الفرنسية حسب الخبراء والمتخصصين ستصبح في يوم ما لغة هامشية، ولا يحس بهذا إلا من مارس البحث العلمي، وزار مختلف جامعات العالم، ولم يتقوقع داخل الجامعات الفرنسية.

والتحوّل من الفرنسية إلى الانجليزية إن وضع المسئولون الجزائريون المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، سهلٌ وميسور، فقد حدثنا أستاذنا الدكتور مصطفى سعيد الخن رحمه الله تعالى عندما زرناه في بيته بدمشق، وعلم أننا باحثون جزائريون، أنه عندما خرجت فرنسا من أرضهم الطاهرة، ونالوا استقلالهم وجدوا بلادهم تسير بلغة المستعمر الفرنسي الذي طُرد من أرضهم، فاختاروا تدريس كافة العلوم باللغة العربية بما في ذلك الطب، وجعلوا اللغة الإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأولى في سوريا، وقد شهد لطلاب الطب السوريين بالكفاءة من استقبلوهم من أساتذة الجامعات الغربية التي أكمل بعض طلاب الطب السوريين دراستهم فيها.

إن التمسك باللغة الفرنسية في الجزائر بعد مرور 57 سنة على الاستقلال لا مبرر له إطلاقا، ولا مصلحة شرعية أو وطنية تدعو إلى ذلك سوى التبعية الذليلة لعدو الوطن قديما وحديثا، وذلك ما لا يرضاه كل جزائري حر أصيل يحب وطنه، ويرغب في تقدمه وازدهاره واستقلاله، وإن زمن الاستعمار بجميع أشكاله، عسكريا كان أو اقتصاديا أو ثقافيا قد ولى بلا رجعة، وأصبح ذكرى مؤلمة من الماضي، وعلى فرنسا أن تعي هذه الحقيقة، فالجزائريون ولله الحمد راشدون يعرفون مصالحهم وما ينفعهم وما يضرهم ولا وصية لأحد عليهم، وإن الدعوة إلى استبدال الإنجليزية بالفرنسية، المقصود منه أن تكون اللغة الأجنبية الأولى في الجزائر هي اللغة الانجليزية، ومجال ذلك هو أن يستعين بها الباحثون في الجامعات، وطلبة الدراسات العليا للاطلاع على آخر البحوث العلمية الدقيقة في الطب والتكنولوجيا.

أما كافة المجالات الأخرى سواء كانت سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو ثقافية أو اجتماعية، فيجب أن تدار وتُسيَّر باللغة العربية اللغة الوطنية الرسمية في الجزائر، وعدم تعميمها والعمل بها، هو تهاونٌ وتقاعس وخذلان وخيانة لثوابت الأمة ومقدساتها، وإننا لمسئولون أمام الله سبحانه وتعالى، والأجيال القادمة على تفريطنا في إقصاء لغتنا من الحياة العلمية والعملية وعدم العمل بها، ولا يوجد سبب معقول يعطل العمل بها في جميع الميادين، وذلك بعد مرور 57 سنة على استقلال بلادنا، سوى التخلف وعدم الشعور بالمسئولية، الذي ران على قلوب كثير من مسئولينا، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

مقالات ذات صلة