الرأي

الرياضيات في الجزائر : “الانهيار!”

تحت هذا العنوان صدر في صحيفة Le Matin d’Algérie يوم السبت 24 جويلية مقال بتوقيع العربي زوايمية من الولايات المتحدة، “. لم نكن نسمع بهذا الكاتب لولا هذا المقال الذي أرسله إلينا أحد الزملاء. حاولنا معرفة المزيد عن المؤلف فوجدنا له تسجيلات ومقالات كثيرة تتناول بالتحليل والتعقيب الأحداث السياسية وغيرها. ووجدنا في وثيقة أنه كاتب وصحفي مقيم فيما يبدو منذ عهد بعيد في شمال أمريكا.

الأولمبياد

وددنا معرفة علاقته بالرياضيات فلم نجد لها أثرا. على سبيل المثال، بحثنا في أول قاعدة بيانات في العالم -التي تحصي كل ما ينشر من بحوث في الرياضيات منذ قرابة قرن من الزمن، وهي القاعدة الألمانية المفتوحة “زنترالبلات ماث”  Zentralblatt MATH- فلم نجد بحثا أو ذكرا لهذا الكاتب. ولذا تساءلنا كيف يحكم بهذه الحدّة في عنوان مقاله وفي متنه على الرياضيات في الجزائر؟ وما زاد استغرابنا أنه ليست المرة الأولى التي يحكم فيها بهذه اللهجة على الرياضيات في البلاد. فمن أين له المعلومات التي تسمح له بهذه الاستنتاجات والأحكام القطعية؟

لقد كتب السيد زوايمية هذا المقال بمناسبة صدور نتائج المنافسات الأولمبية العالمية في الرياضيات التي شاركت فيها الجزائر (عن بُعد، مثل جميع الدول المشاركة) ونُشرت يوم الجمعة 23 جويلية. وهكذا تفحّصها صاحب المقال، وقدم أدق تفاصيلها بما في ذلك أسماء المشاركين وعلاماتهم “الكارثية”، وراح يقرّر أنهم من آخر “رياضياتيي العالم” ويستخلص حال الرياضيات في البلاد… ولا مرجع في متن المقال سوى نتائج الأولمبياد وتعامل الجزائر معها منذ عقود. نعتقد أنه من غير اللائق ذكر أسماء تلاميذ أبرياء اجتهدوا وفشلوا في أداء مهمتهم، ولا ينبغي تجريحهم بأي حال من الأحوال.

نحن نتفق تمام الاتفاق مع السيد زوايمية في سوء تعامل السلطات المتوالية للبلاد مع النخبة والمنافسات الأولمبية التي تعتبر محفزا وطنيا للمتعلمين. فلا يزايد أحد عن أحد في هذا المقام.

يقول صاحب المقال (بعد نشر هذه النتائج) إنه “إذا كان هناك إجراء عاجل يجب اتخاذه، فهو وضع وزارة التربية الوطنية بأكملها في إجازة نهائية ودائمة.” ماذا يعني بذلك؟ لا نعتقد أنه يعني غلق المؤسسات التعليمية عبر التراب الوطني!

وحسب صاحبنا فإن هذه المنافسات الأولمبية تهدف إلى ترقية الرياضيات وإلى إبراز نخبة عالمية من التلاميذ (وهذا صحيح). لكنه يضيف أن هذه المنافسات تهدف بوجه خاص إلى معرفة أداء المنظومات التربوية للدول المشاركة. فهل هذا معقول؟ لا، أبدًا ! هل تنظيم منافسة في الرياضيات تسمح لنا بتقييم منظومة تربوية برمتها؟ ! لا علاقة لهذه المنافسات بتقييم المنظومات التربوية.

التدريبات

ولعل السيد زوايمية لم يلاحظ أن من أبرز تلك المنظومات في العالم منظومتي سنغفورة وفنلندا، ومع ذلك كان ترتيبهما على التوالي في المنافسات الأولمبية 15 و 69 ! وهل المنظومة التربوية الصينية هي الأفضل في العالم؟ لم نسمع بذلك قطّ رغم أن الصين كانت خلال الـ 25 سنة الماضية قد احتلت المرتبة الأولى في هذه الأولمبياد في 17 دورة، وبقية الدورات كانت الثانية أو الثالثة في الترتيب!

ما يغفل عنه الأستاذ زوايمية في كتاباته أن في كل دولة هناك نوابغ من التلاميذ. والدول المهتمة بالنخبة تبحث عن هؤلاء النوابغ. وبعد التعرّف عليهم -وإذا ما أرادت أن يشاركوا في منافسات عالمية- فلا بد أن تجد لهم مدربين أكفاء (تماما مثل كرة القدم وغيرها) يعملون بنفس طويل خلال سنوات لنأمل في الحصول على المراتب الأولى في التصنيف.

وعيب الجزائر يكمن في هذه النقطة بالذات : لم تبذل الجهد الكافي للتعرف على النوابغ الحقيقيين في الرياضيات، ولم تفلح في إيجاد مدربين دائمين أكفاء… فليس كل أستاذ بارز في الرياضيات قادرا على أداء هذه التدريبات. بمعنى أن الرياضيات ليست منهارة في الجزائر، وإنما التكفل بالنوابغ قبل إرسالهم إلى المنافسات العالمية هي الحلقة المفقودة. وحسب علمنا فما اتخذه الوزير السابق محمد واجعوط في هذا الباب من إجراءات كفيل بوضع خطة لهذا التكفّل.

ويواصل صاحب المقال تغليط القارئ بأحكام يغلب عليها التهويل حين يقول : ” من بين 107 بلدان مشاركة في منافسات 2021، تحتل الجزائر المرتبة 89 المخزية، أي أنها من بين آخر البلدان على هذا الكوكب.” ! لماذا هذا التهويل والمبالغة؟ لقد غفل صاحبنا عن أن عدد بلدان العالم يفوق 200 دولة، تعترف الأمم المتحدة بـ 193 دولة منها. وكل البلدان التي لم تشارك في المنافسات تعرف سوء ترتيبها مسبقا، ولذا امتنعت عن المشاركة علما أن المشاركة تتم عن بعد ولا تترتب عليها أي تكاليف مادية. ولذا فالدولة التي فازت بالمرتبة 89 هي في نصف الأول من بين المتميزين… هذا إذا أردنا أن نزكي أنفسنا.

وحتى نطمئن الأستاذ زوايمية فمستوى الرياضيات في الجزائر -رغم تدنّيه- هو أفضل من مستوى بعض الدول التي فازت بمراتب أفضل منها. نؤكد هذا بحكم اطلاعنا عما هو الحال في هذا الاختصاص في كثير من البلدان.

وماذا يعني صاحبنا بقوله الغريب : “باختصار، ليس من العبث أن نقول إن بلدنا لديه علاقة غرامية مع عدم الكفاءة”؟ فهل البلاد برمّتها صارت تتميّز بعدم الكفاءة لأن 6 تلاميذ لم يفوزوا برتبة مرموقة في منافسات الأولمبياد؟ لعله من الأفضل قراءة هذه العبارة على النحو التالي : “باختصار، ليس من العبث أن نقول إن صاحب المقال لديه علاقة غرامية مع التهويل”.

ما جرى عام 1997؟

يختم السيد زوايمية مقاله بالقول : “كانت هذه الكارثة ازدراء صريحًا… لنتذكر الموقف الغريب لوزارة التربية الوطنية التي اتخذت قرارًا بمغادرة العالم: التغيّب عن أي منافسات أولمبية عالمية في الرياضيات عام 1997. ولم يعد بلدنا حتى عام 2009… ومن بين 104 دولة مشاركة، احتلت الجزائر المرتبة 104”!

من الواضح أن الكاتب لا يعلم خلفية ما جرى في تلك الفترة، إذ إن الوضع كان أسوأ مما يتصوّر. دعنا نوضح بإيجاز تلك القصة للقارئ : في عام 1991، شاركت الجزائر في هذه المنافسات التي احتضنتها آنذاك السويد. ولأسباب نجهلها كانت هناك مصاريف إضافية تُقدّر بنحو 2000 يورو كان على الوفد الجزائري دفعها للسويديين ولم يتمكن. وكان هناك وعد بدفعها لاحقا. لكن وزارة التربية لم تفعل. وهدّدت السويد مرارا بالشكوى ضد الجزائر لمنعها من المشاركة لاحقا إن لم تسدّد دينها.

وأمهلت السويد الجزائر حتى سنة 1996. وبما أن الجزائر لم تدفع المبلغ المذكور طلبت السويد من اللجنة العالمية لأولمبياد الرياضيات منع الجزائر من المشاركة. وكذلك كان الأمر، ولذلك لم تشارك خلال الفترة 1997-2008!

ولم يحرّك هذا الحظر ساكنا لدى وزارة التربية. وعندما علم بعض الجامعيين العلميين عام 2008 بالقضية اتصلوا بأحد الخيّرين من وادي سوف، فدفع المبلغ للسويديين دون علم وزارة التربية. وهكذا رُفع الحظر على الجزائر (دون أن تعلم وزارة التربية لماذا، وكيف، ومن حلّ المشكل). ولمّا أعلمت اللجنة الأولمبية الوزارة رسميا برفع الحظر، سارعت الوزارة إلى إرسال أفضل تلميذين في الباكلوريا للمشاركة في هذه المنافسة دون أي تدريبات، معتقدةً أنه يكفي الحصول على أعلى علامة في الباكلوريا للفوز في الأولمبياد دون تدريبات. ولذا كانت مرتبة الجزائر عام 2009 المرتبة الأخيرة !

ولم تعد الجزائر إلى المشاركة إلا عام 2015 حين تمّ الاتصال بالمدرّب الماهر المتطوّع مليك طالبي الذي استطاع رغم المتاعب (لأنه كان يعمل في الخارج) تحقيق نجاحات معتبرة… ولو واصل المشوار لكانت مرتبة الجزائر اليوم أفضل بكثير مما هو عليه الحال.

خلاصة القول، فإن مستوى الرياضيات في الجزائر – كما في بلدان أخرى عديدة- تدنّى كثيرا، غير أنه لم يصل إلى درجة “الانهيار” كما وصفه السيد العربي زوايمية، بل إن في كل ولاية متفوقين ونوابغ في الرياضيات وغيرها، ولا بد من الأخذ بأيديهم، وهذا التقصير هو إحدى النقاط السوداء في منظومتنا. وبالموازاة مع ذلك ينبغي الإصلاح ثم الإصلاح في المناهج وتكوين المكونين لتحسين مستوى التحصيل العام لكافة التلاميذ.

مقالات ذات صلة