الرأي

الرّاجل‮ ‬ده‮ ‬باع‮ ‬البلد

أخبرني صديق أن الصالحين من إخواننا المصريين يتداولون في هذه الفترة الأخيرة نكتة طريفة يخففون بها بعض ما يعانونه من لغوب، وبعض ما يكابدونه من نصب، في مواجهة تكاليف معيشتهم الشاقة بسبب فساد الرّهط الذين تسلطوا عليهم في العقود الماضية، فأذلوا عزّتهم، وأهانوا كرامتهم،‮ ‬وجعلوهم‮ ‬سخرية‮ ‬الساخرين‮ ‬وهزء‮ ‬الهازئين‮.‬

 تقول هذه النكتة إن الفاسد المسمّى أحمد عز – وما هو بأحمد ولا بعزّ- قال للفاسد الآخر المسمى جمال مبارك -وما هو بجمال ولا بمبارك- الذي يريد لغبائه أن يخادع الله – سبحانه وتعالى – ويرائي الناس بحمله المصحف الشريف بيده القذرة؛ قال له: إن أباك قد أخطأ خطأ وحيدا‮ ‬كان‮ ‬سببا‮ ‬في‮ “‬البهدله‮ ‬اللي‮ ‬حنا‮ ‬فيها‮ ‬دي‮”.‬

 

فسأله‮ ‬اللاّ‮ ‬جمال‮ ‬واللاّ‮ ‬مبارك‮: ‬ما‮ ‬هو‮ ‬هذا‮ ‬الخطأ‮ ‬الوحيد‮ ‬الذي‮ ‬فعله‮ ‬أبي‮ ‬وجعلنا‮ ‬نتجرّع‮ ‬هذا‮ ‬الهوان،‮ ‬ونذوق‮ ‬هذه‮ ‬المذلّة؟

فأجابه‮ “‬قارون‮” (‬لا‮ ‬أحمد‮ ‬ولا‮ ‬عز‮): ‬لقد‮ ‬باع‮ ‬أبوك‮ ‬كلّ‮ ‬شيء‮ ‬في‮ ‬مصر‮ ‬إلا‮ ‬ميدان‮ ‬التحرير،‮ ‬ومنه‮ ‬جاءنا‮ ‬البلاء،‮ ‬وكانت‮ ‬القاضية‮..‬

لقد أعادتني هذه النكتة إلى الوراء ثمان عشرة سنة حيث كنت – رفقة الصديق الدكتور عبد الرزاق ڤسوم – في زيارة إلى القاهرة، فاغتنمنا الفرصة وزرنا بعض إخواننا الجزائريين (محمد زايدي، أحد الإطارات في جامعة الدول العربية، محمد دحو، الإعلامي المعروف، مصطفى الشريف، سفير الجزائر..)، كما زرنا بعض معارفنا من المصريين (عبد الحليم عويس، رحمه الله، محمد عمارة، عاطف العراقي، حمدي الطاهر، حمدي محمود زقزوق – عميد كلية أصول الدين في الأزهر أنذاك، وكذلك الشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الشريف…).

كان ممن حرصنا أشد الحرص على زيارته فضيلة الشيخ محمد الغزالي، لما بينه وبين صالحي الجزائريين من مودّة، ولما لمسناه فيه من حب كبير للجزائر وشعبها المسلم، ولما عرفناه فيه من اعتزاز بجهادها وافتخار بأمجادها، وإكبار لعلمائها الذين قرأ لهم وعنهم مثل الإمام ابن باديس،‮ ‬والذين‮ ‬عرفهم‮ ‬وخالطهم‮ ‬كالإمام‮ ‬الإبراهيمي،‮ ‬والأستاذ‮ ‬الفضيل‮ ‬الورتلاني‮..‬

هتفنا للشيخ الغزالي وطلبنا موعدا فحدده لنا، وفي الوقت المعلوم كنا عنده فاستقبلنا بما عُهد فيه من سامي الأخلاق وكريم السجايا، وأبلغناه تحيات محبيه وعارفي فضله من الجزائريين، وطمأناه عن الجزائر رغم خطورة ما يجري فيها من حوادث (1994)، لأن شعبها كله مسلم، إلا شرذمة قليلون غلبت عليهم شقوتهم، وأكثر الجزائريين على مذهب الإمام مالك، ونسبة قليلة على مذهب الإمام عبد الله ابن إباض، والفئتان تتعاونان على الخير، ويجتهد عقلاؤهما لتفقيه الأتباع في الفروق البسيطة الموجودة بين المذهبين، وقد آتت تلك الجهود أكلها، وتخطينا عقبة “مساجد الطوائف”.. ففرح الشيخ ودعا للجزائر وأهلها بكل خير، ونفى بشدة ما اتهمه به سفهاؤنا من عدوة للفتنة في الجزائر وحضّ عليها.. وقد سألناه عن أحوال مصر، فأجاب بسرعة وبجملة واحدة لخّصت أزمة مصر ومشكلتها فقال بلهجته المصرية المحبّبة: “الرّاجل ده باع البلد”،‮ ‬أي‮ ‬إن‮ ‬هذا‮ ‬الرجل‮ ‬باع‮ ‬البلد‮.. ‬يقصد‮ ‬حسني‮ ‬مبارك‮.‬

وها هو الله، قاهر الطغاة والمجرمين، يديل دولة من ظن أنه وولداه وامرأته وزبانيّته ورثوا فرعون في ملك مصر أرضا وشعبا، وأنهم لا يسألون عما يفعلون.. وظنّوا أنهم مانعتهم أمريكا وإسراديل من المصير المهين والنهاية الذليلة.

لقد‮ ‬تبيّن‮ ‬من‮ ‬بعض‮ ‬ما‮ ‬نشر‮ ‬من‮ ‬وثائق‮ ‬بعد‮ ‬إسقاط‮ ‬الطاغية‮ ‬وحاشيته‮ ‬أنه‮ ‬باع‮ ‬مصر‮ ‬حقيقة‮:‬

❊ باعها لمجموعة من لصوص مصر الكبار، لم يدفعوا جنيها واحدا من جيوبهم في المشروعات؛ وإنما هي أموال الشعب المصري اغتصبوها من البنوك والمؤسسات، وأدلوا بها إلى حسني مبارة وأهله ليأكلوا أموال المصريين بالباطل، وكذبوا على الناس فسموا أنفسهم “رجال أعمال” وما هم إلا‮ “‬سرّاق‮ ‬أموال‮”.‬

‮❊ ‬باع‮ ‬ثروتها‮ ‬الغالية‮ ‬المتمثلة‮ ‬في‮ ‬الغاز‮ ‬بثمن‮ ‬بخس‮ ‬إلى‭ ‬الصهاينة‮ ‬في‮ ‬فلسطين،‮ (‬ثلث‮ ‬ثمنه‮ ‬الحقيقي‮)‬،‮ ‬في‮ ‬الوقت‮ ‬الذي‮ ‬كان‮ ‬الشعب‮ ‬المصري‮ ‬يلهث‮ ‬وراء‮ ‬قارورة‮ ‬غاز‮.. ‬مثله‮ ‬في‮ ‬ذلك‮ ‬مثل‮ ‬من‮ ‬قال‮ ‬فيهم‮ ‬الشاعر‮:‬

كالعير‮ ‬في‮ ‬البيداء‮ ‬يقتلها‮ ‬الظّما

‮           ‬والماء‮ ‬فوق‮ ‬ظهورها‮ ‬محمول

❊ باع سيادة مصر وقرارها الوطني للولايات المتحدة الأمريكية في مقابل دراهم معدودة (مليار ونصف دولار في السنة)، ولو عف هو وضرب على أيدي اللصوص – وفي مقدمتهم أبناه وامرأته – لوفّر لمصر أكثر من ذلك المليار والنصف، ولحفظ لمصر ما لا يقوّم بمال الدينا، وهو الكرامة‮..‬

❊ باع شرف مصر، المتمثل في شرف عسكريتها، عندما جعل الجيش المصري – قاهر أعتى خط عسكري في التاريخ وهو خط المجرم بارليف – حارسا لأمن الصهاينة، مذيقا في الوقت نفسه أهل غزة لباس الجوع والخوف، ضاربا عليهم حصارا مميتا خدمة لمن رضوا عنه من الصهاينة النازيين، والأمريكيين‮ ‬النازيين‮..‬

ولو اقتصر حسني مبارك على بيع مصر لقلنا – حسب أهواء القُطريين -: إنها قضية داخلية؛ ولكنه – استرضاء لمستخدميه من الصهاينة والأمريكان- مدّ مكره وتآمره إلى الأقطار العربية الأخرى، فتآمر على العراق، وتآمر على المجاهدين الفلسطينيين واللبنانيين.. وستظهر – عما قريب‮ – ‬كل‮ ‬الوثائق‮ ‬التي‮ ‬تكشف‮ ‬سوءته‮..‬

إن الحقيقة هي أن “فرعون” مصر الجديد ليس الوحيد الذي “باع بلده” إلى أعداء بلده، فكثير من الحكام في العالم العربي هم محكومون للقوى الأجنبية، فهذا خادم أمريكا، وذاك خادم لبريطانيا، وذلك خادم لفرنسا.. وستبدي لنا الأيام ما نجهله من خبايا هؤلاء الحاكمين – المحكومين‮.‬

لقد أهان الله بعضهم “ومن يهن الله فما له من مكرم”، فهذا زين الهاربين يمضي في السماء عدة ساعات باحثا عن دولة تقبله، فترفضه أصغر دولة – مالطة – كما رفضته فرنسا التي خدمها كما لم يخدمها أبناؤها، وهذا حسني مبارك يتمدد فوق سرير، متنقلا إلى المحكمة تحت أنظار كاميرات‮ ‬القنوات‮ ‬الفضائية‮ ‬العالمية،‮ ‬وذاك‮ ‬الذي‮ ‬انتقل‮ ‬من‮ “‬عرش‮” ‬ملك‮ ‬ملوك‮ ‬افريقيا‮ ‬إلى‮ ‬قناة‮ ‬لصرف‮ ‬المياه‮ ‬القذرة،‮ ‬ثم‮ ‬يموت‮ ‬شر‮ ‬موتة،‮ ‬وذلك‮ ‬الذي‮ ‬أبدل‮ ‬اليمن‮ ‬صبابا‮ ‬بمنّ،‮ ‬واسودّ‮ ‬وجهه‮ ‬في‮ ‬الدنيا‮ ‬قبل‮ ‬الآخرة‮…‬

سبحانك اللهم، تمنّ على بعض الناس بمنن لا تحصى، وبدلا من أن يشكروك يطغون في الأرض ويعيثون فيها فسادا، ظانين أنهم معجزونك فإذا نقمتك تنزل عليهم فتأخذهم أخذا وبيلا.. فاللهم اقصم ظهر كل جبّار شاقّك وحاذك، وبغى على عبادك.. وأرنا فيهم صدق آياتك..

مقالات ذات صلة