اقتصاد
"الشروق" تتجول في أكبر سوق مغربية داخل التراب الجزائري

الزوية…. إمبراطورية الطراباندو

الشروق أونلاين
  • 45452
  • 78
الشروق
إحدى النساء اللواتي يحترفن التهريب

لا تزال سوق الزوية بالحدود الغربية الجزائرية، تحتفظ بخصوصيات تجعل منها سوقا مغربية بامتياز، ففي هذا السوق بالذات تسقط جميع التعاملات التجارية والأعراف المعمول بها، لتأخذ مكانها ممارسات يتحكم فيها مهربون برتبة “تجار” ونسوة “حرَاڤات” برتبة “عون عبور” وطاكسيات مهمتهم نقل أكبر قدر من البضائع والسلع المغربية من هذه الإمبراطورية التجارية التي يبدأ نشاطها في الظلام وينتهي في الظلام.

 تتحول السوق مع الساعات الأولى من الصباح إلى أثر بعد عين” في مكان يحضر فيه كل شيء وتغيب عنه جميع أجهزة الدولة. حقائق وأسرار أخرى، ستكشفها الشروق لأول مرة، عن حركية تجارية لألبسة وأحذية بماركات عالمية مزيفة تصنع بالمغرب، تهرب من منطقة سيدي يحيى المغربية إلى سوق الظلام” بالزوية، لينتهي بها المطاف في واجهات كبرى محلات الجزائر بأثمان خيالية. 

 

سوق بلا معالم في ضيافة تجار من وزن “الكبار”

كانت الساعة تشير إلى الثانية صباحا، عندما توجهنا صوب منطقة الزوية الحدودية، وبالضبط إلى سوقها المشهور بعرض منتجات مغربية تدخل الأراضي الجزائرية بطرق غير شرعية  وبكميات هائلة، تجعل الزائر لهذا المكان يعتقد خطأ بوجود مصانع على الحدود تعمل على إغراق السوق الجزائرية بهذه الكميات الضخمة من الأحذية والألبسة التي توقفنا عندها  لدى وصولنا إلى هذا الفضاء التجاري، فضاء تختفي فيه معالم الحدود المغلقة بين البلدين في ظل الحركة النشيطة التي توقفنا عندها، والتوافد الكبير للتجار من مختلف أنحاء الوطن كما كشفت عنه لوحات ترقيم السيارات المركونة على جنبات محيط هذا سوق، فلا معالم ولا رقابة  باستثناء محلات منتشرة بطريقة عشوائية ومساحات تتخذ لبيع السروال الجينز المغربي وأحذية رجالية، بالإضافة إلى الجاكيت الجلدية التي تبقى الأكثر طلبا في أسواق الشرق الجزائري.

 

الألبسة المغربية العصرية تحت الطلب والتقليدية في خبر كان

كل هذه السلع لا تخضع إلا لممارسة تجارية، معيارها الأول والأخير البيع بالجملة، في عملية تتماشى وفق ما تفرضه طلبات السوق المحلية الجزائرية، فيما يشبه “بورصة” يمكن من خلالها تحديد رغبة المستهلك الجزائري الذي اقتصرت طلباته بالخصوص على الألبسة بالدرجة الأولى وغابت عنها العديد من البضائع الأخرى كما هو الشأن مع القفطان المغربي والبلغة الفاسية اللذين كانا في وقت مضى يتصدران قائمة المعروضات، قبل أن يتراجعا نهائيا، فيما تبقى الأحذية والجاكيت الرجالية والبدلات الرياضية تحافظ على المراتب الأولى بدون منازع.

 

ماذا تُصوّرون؟.. هؤلاء كلهم فقراء!

جولتنا داخل هذا السوق تميزت بالعديد من المفاجآت والأسرار والعيون التي كانت تراقب تحركاتنا بعدما وجدنا أنفسنا من حيث لا ندري محل شبهة في نظر الباعة ممن تمكنوا بطبيعة مهنتهم غير القانونية من التأكد من أننا غرباء بل وأيضا صحفيون لطبيعة الأسئلة التي كنا نوجهها للبعض منهم، فكانت بعض الردود لا تخرج عن إطار “الصحافة غير مرغوب فيها”، الأمر الذي صعب علينا مهمة التقاط صور للسوق ليلا بل وصل الحد بإحدى النساء ممن اكتشفن أمرنا لدى محاولتنا التقاط صور من داخل السيارة  إلى مخاطبتنا بأعلى صوتها “ماذا تصورون؟ هؤلاء كلهم فقراء.. هؤلاء مساكين..” و هي العبارة التي فهمنا منها ضمنيا أننا وسط نساء وشباب قصر يغامرون من أجل توفير لقمة العيش، فلا مجال للإزعاج.

 

بارونات يتوددون إلى النساء “الكاميكاز”

حقيقة هؤلاء الأطفال القصر والنسوة كانت غير ذلك، بعدما اكتشفنا أن هذه السوق التجارية تضبطها إجراءات تنظيمية لا مكان فيها للصدفة، فكل من كان داخل السوق مكلف بدور معين، بدءا من أصحاب السيارات التي تحمل لوحات ترقيم الجزائر العاصمة وغيرها من الولايات الأخرى، فهي ليست ملكا لمهربين مثلما يعتقد الكثيرون، بل هي ملك لتجار كبار وأصحاب محلات فخمة يأتون من مختلف الولايات للزوية بأقصى الحدود، للقيام بدور واحد هو اختيار نوعية السلع ودفع مبالغها، قبل أن يأتي دور النسوة اللواتي تقمن بتمرير هذه السلع وتأمين طريقها إلى غاية مدينة وهران وهي المهمة الأخطر على الإطلاق، أي أن التجار في هذه الحالة لا يجازفون بنقل سلع غير مفوترة على متن سياراتهم وذلك تجنبا لأي مضايقات أمنية أو عمليات حجز تنتهي بهم في السجن أو بدفع غرامات مالية بالملايير، وإن حدث وتم حجز هذه السلع فالمتهم الأول والأخير هن هؤلاء النسوة “الكاميكاز”، حينها يصبح منطق الشكارة هو الغالب، فكل امرأة تؤمن عبورها بطريقتها الخاصة.

 

نساء “حراڤات” من صنف آخر

تطلب منا الأمر تقمص صفة  “طرابانديست مبتدئ”، حتى نتمكن من الوقوف على بعض الخفايا والطرق الاحتيالية التي تعتمد عليها النسوة المصطفات في مدخل السوق، وكنا قبل ذلك نعتقد أن النسوة من التاجرات اللائي تمارسن هذا النشاط غير الشرعي، إلى “أن اكتشفنا عكس ذلك وهو ما خلصنا إليه عندما استفسرنا أحد الباعة عن كيفية تمرير 200 حذاء رجالي باعتباره بضاعة غير مفوترة، ليطلب منا التوجه للنسوة المصطفات بمدخل السوق، قائلا: استعينوا بالحرَاڤات” وهي الصفة التي فهمنا أنها  تطلق على  النسوة  والتي تعني ناقلات البضاعة المشتراة بطريقة غير شرعية من الزوية إلى المدن الداخلية، ولدى اقترابنا منهن اتضح  حسب لهجتهن أن أغلبهن  تنحدرن من وهران.

 

نسوة يقدمن خدمة لوجستيكية لتجنيب التجار قبضة الأمن

كشفت إحدى الحراڤات في حديث جمعنا بها بعدما علمت أننا تجار نرغب في تمرير بضاعة باتجاه الجزائر العاصمة، أنها تعمل لدى 3 تجار من وهران وآخر من الأبيار تنقل لهم  الأحذية الرجالية من الزوية إلى وهران على متن طاكسي،  بمبلغ 250 دج للوحدة، مشيرة إلى أن إيصال البضاعة إلى غاية العاصمة يشترط دفع تكاليف مالية مضاعفة، فبعملية حسابية بسيطة، إذا قامت مثلا بتمرير  200 زوج من الأحذية بفائدة 250 دج للوحدة كما اشترطت علينا فستجني خلال هذه العملية 5 ملايين سنتيم، فماذا إن كانت الوجهة للعاصمة؟

 

أسعار معقولة بالزوية تتحول إلى مجنونة بالعاصمة

إذا ما أخذنا زوج أحذية رجالية بالجملة بمبلغه الأصلي الذي قد يتراوح ما بين 1200 دج حتى 4000 دج كأغلى ثمن لأحذية ذات نوعية رفيعة، إضافة إلى العمولة المقدمة للمرأة المكلفة بنقل البضاعة، فإن مبلغ الحذاء سيصل في المحلات التجارية الكبرى على غرار الجزائر العاصمة وقسنطينة وبشار وغيرها إلى 9000 دج أو أكثر بنسبة ربح تفوق أضعاف النسبة الحقيقية للسعر الأصلي للأحذية في سوق الزوية، الأمر الذي دفعنا للتفكير في ترك مهنة المتاعب والالتحاق بمهنة الطراباندو لما تدره من أموال طائلة على أصحابها دون مشقة أو عناء وفي ظل وجود أشخاص آخرين يلعبون الدور اللوجستيكي!!

 

شبان وأطفال قصر خبراء في عمليات التغليف

هذه العملية المنظمة بطريقة رهيبة غالبا ما يستفيد منها إلى جانب التجار الكبار والنسوة الحراڤات، أيضا أطفال قصر، مختصون في عمليات التغليف والتعليب، باستعمال أشرطة لاصقة وأكياس من الحجم الكبير المستعملة في جمع النفايات، لتبدأ بعد ذلك مرحلة تحميل البضاعة، نزولا عند رغبة التاجر، إذ غالبا ما يتم  تحميلها فوق عربات يدوية  بمبلغ يتراوح ما بين 200 إلى 300 دج.

 سيارات الأجرة خاصة الجماعية منها المتكونة من 6 مقاعد، تعد وسيلة نقل مضمونة عكس السيارات النفعية، حيث  كشفت إحدى الحراڤات أن النسوة تدفعن مبلغا لشراء  الطريق ومبلغا لسائق الطاكسي، وهو ما يعني وجود طرق جد مشبوهة تتخذها هؤلاء النسوة رفقة سائقي الطاكسي من أجل تهريب البضاعة، وتخطي الحواجز الأمنية، فعدد سيارات الأجرة التي كانت متواجدة في تلك الليلة حوالي 20 سيارة كلها تنتظر رفيقاتها للإقلاع، فمثلا أم وابنتها تنحدران من وهران كل واحدة منهما أخذت سيارة طاكسي على حدة لنقل سلع مختلفة.

 

الوجه الآخر للبؤس الاجتماعي

سوق الزوية ليس فقط بيع وشراء في الليالي الظلماء، وإنما أيضا مكان يجمع العديد من المتناقضات بين صاحب المال والنساء المشتغلات في هذا السوق التجاري، حيث إن أوضاعهن الاجتماعية هي من دفعتهن إلى القيام بمثل هذه الأعمال، وهو ما توقفنا عنده أيضا، فحدة التنافس بين الأطفال القصر من جهة والنساء الحراڤات من جانب آخر حول الظفر بواحد من التجار الأغنياء لتقديم له هذه الخدمات كانت تعكس مدى البؤس الاجتماعي الذي تعيشه هذه الفئة.

 

سلع أتاتورك تهدد “قش” محمد السادس

زائر سوق الزوية يكتشف تراجع السوق الذي كان إلى وقت قريب يعمل فيه نسوة وتجار براحة تامة، حيث كشف لنا أحد الباعة الذي بدى متشائما أن سوق الزوية لم يعد كما كان سابقا في ظل المنافسة الشرسة لبضائع تأتي من الصين وتركيا، وقد بدى محدثنا على دراية كاملة بمواضيع سياسية وعلى اطلاع بتفاصيلها كآخر زيارة قام بها الرئيس التركي أردوغان إلى الجزائر، حيث علق قائلا “.. تعلمون  طبيعة  العلاقات الاقتصادية والتجارية التي صارت تجمع الجزائر وتركيا.. وهذا يعني أن السلع المغربية لن يعود لها مكان أمام ما تصدره تركيا والصين، وحتى الألبسة التقليدية النسوية التي كانت في وقت مضى تلقى إقبالا من قبل الجزائريات بالدرجة الأولى مثل القفطان المغربي، عوضت هي الأخرى بالعباية الخليجية مثلما تفوقت الساجدة التركية على الجلابة المغربية ….”

 

الأحذية وسراويل الجينز المغربية “القشة” التي يتمسك بها سوق الزوية

وهو ما لمسناه لدى جولتنا طيلة ساعات الليل، حيث لم نعثر على مثل هذه الأنواع من الألبسة التقليدية باستثناء محل واحد كان يعرض ألبسة نسوية مغربية لا تتماشى مع روح العصر، فيما تبقى الأحذية الرجالية والرياضية وحتى سراويل الجينز تصارع من أجل البقاء وأكثر السلع طلبا في السوق الجزائرية. إلا أن النشاط الليلي للسوق الزوية سرعان ما يتضاءل بعد صلاة الفجر،  باعتبار أن هذه الفترة الزمنية مخصصة للبيع بالتجزئة وهو ما دفع فضولنا المهني للعودة مرة ثانية  للوقوف على نشاط سوق الزوية في النهار، قبل أن نصطدم بمكان يسكنه الأشباح تتوزع فيه ما يقارب 83 محلا تجاريا موصدة الأبواب وطاولات فارغة مرمية بطرق عشوائية، لتقفز إلى أذهاننا تلك السلع التي كانت تزدهر بها  الأرصفة  قبل سنين  قبل أن تختفي نهائيا، حيث تبقى أسباب هذا التراجع الرهيب للغزو الذي يشكله الحلف الثلاثي لعبايات الإمارات وبضائع الصين وصولا إلى ماركات اسطنبول.

 

إمبراطورية الظلام تحتضر في صمت

هي سوق الزوية إذا، التي كانت تشكل فيما مضى ما يشبه القاعدة الخلفية للمنتوجات المغربية قبل أن تنهار وتصبح تعيش فترة احتضار في انتظار أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في عز الظلام، فهي السوق التي يبدو أنها ولدت في الظلام وستموت في الظلام، وتدفن معها أسرارها وحقائقها المثيرة،  واضعة بذلك حدا لأطماع حرفيين مغاربة طالما شكلت لهم السوق الجزائرية مصدر ثراء بطرق غير شرعية، مستغلين بذلك أوضاع العديد من الشباب بالجهة من أجل الترويج لمنتوجاتهم التقليدية أو العصرية وحتى المسمومة منها.

مقالات ذات صلة