-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

السلفيون ودعوى إتِّباع السلف

محمد بوالروايح
  • 2911
  • 0
السلفيون ودعوى إتِّباع السلف

يُشهر “السلفيون” في وجه مخالفيهم لافتاتٍ كثيرة أبرزها “منهجنا الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة ومنهجكم الرأي ومن اتّبع الرأي ضلّ وزلّ”. عبارة وكثير من أخواتها تلخّص الطريقة الفظة التي يتعامل بها السلفيون مع مخالفيهم ممن يتقاسمون معهم الملة والقِبلة والانتساب لهذه الأمة، هم جماعة هادية مهدية في تصوُّرِهم وتصوّر من صنعهم على عينه وشملهم بحمايته ورعايته ضد من يسمّيهم خصوم السنة وأعداء الأمة من الحداثيين والعلمانيين إذ توسعوا في ضم كثيرين إليهم رغم أنهم لا يلتقون معهم في أصول ولا فروع وذنبهم الوحيد أنهم خصوم عقيدة التوحيد بلسان حال ومقال كثير من السلفيين .

يتباهى كثيرٌ من السلفيين بأنهم “أتباع السلف”، يقتدون بهم ويسيرون على خطاهم، ولكن بين مظهرية الاقتداء وحقيقة الافتراء أشياء كثيرة أود أن أطلع القراء عليها ثم أدعهم بعد ذلك يحكمون بأنفسهم على هذا الزعم الذي عشعش في عقول السلفيين حينا من الدهر ولا يزال، زعم لا ينطوي على علم وإنما هي العصبية الممقوتة التي حذر منها الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي رحمه الله وهو يتكلم عن هذا الفصيل العجيب الذي لم يُخلق مثله في البلاد منذ فتنة “خَلق القرآن” في غابر الزمان.

من المفيد أن أسوق في هذا المقال مقولة الإمام أحمد رحمه الله الذي افترى عليه السلفيون من حيث يعلمون ومن حيث لا يعلمون: “لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الثوري ولا الأوزاعي، خذ من حيث أخذوا” عبارة تعد حجة على السلفيين في الوقوع في مخالفة تقليد الرجال التي يشنِّعون بها على مخالفيهم ويخالفون بها منهج الإمام أحمد بن حنبل في التشبّث بالكتاب والسنة وطرح ما سواهما ولو كان صادرا من أقرب الناس عهدا بالنبوة وأعلمهم بالسنة، إذ يقول في هذا الصدد: “لا تقلد في دينك أحدا”، ألا ينطوي تقليدهم للسلف رضوان الله عليهم ولو على وجه الإتِّباع على مخالفة لقول الإمام أحمد وعلى مخالفة قبل هذا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: “تركتكم على المحجّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ”.

إن السلف بمنطوق هذا الكلام النبوي ينحصر في فئة واحدة تعد في إقامتها الدين وحماية حياض الأمة امتدادا لعهد النبوة وهم الخلفاء الراشدون المهديون؛ فهؤلاء هم السلف وأما غيرهم فلا ينطبق عليهم ذلك ولا يؤخذ بقولهم لا تأسِّيا ولا استئناسا ولا تأسيسا.

إن دعوى إتِّباع السلف تنطوي على مغالطات كثيرة أحسب أن “وليد بن الصلاح” قد أحاط بها في مقاله: “خدعوك فقالوا: كتاب وسنة بفهم سلف الأمة”، وهي -كما قال- مغالطة مكشوفة لخصها في ست نقاط، أولها أن سلف الأمة ليس لهم فهمٌ واحد للكتاب والسنة بل عشرات الأفهام، واختلفوا حتى في مسائل الاعتقاد، والحجّة في إجماعهم لا في أقوال أفرادهم. وثانيها أن السلف الصالح عندك ليسوا سلفا صالحا عند غيرك كالحارث المحاسبي وابن كلاب فهُما من السلف الصالح عند الأشاعرة وليسا كذلك عند غيرهم.

وثالثها أن مفهوم السلف الصالح أصبح مفهوما مطاطيا في استخدامات السلفيين أنفسهم، يضيقونه حتى يُخرجوا أبا حنيفة رضي الله عنه من دائرة السلف ويمططونه حتى القرن الثامن الهجري ليُدخلوا شيخ الإسلام ابن تيمية في نطاقه، وهو سلوكٌ عجيب يؤكد أن العصبية المذهبية هي التي تتحكم في ذلك وليس الكتاب والسنة.

ورابعها أنهم قيدوا سلف الأمة بالإتباع لا التقليد، فإذا لم يتبين لهم وجه النص بفهم السلف خاضوا فيه بآرائهم واجتهاداتهم وهذا يُسقط عنهم قناع الاقتداء بسلف هذه الأمة.

وخامسها أن السلف عباءة يُلبسها السلفيون لمن شاءوا ويخلعونها عمن شاؤوا كما يفعلون في تقسيمهم الغريب للسلف المخالف لمجرى الزمن. وسادسها أن الربط بين الكتاب والسنة وفهم السلف للكتاب والسنة ربط لا يستقيم لأن الكتاب والسنة معصومان وأفهام السلف غير معصومة ولا ينبغي الخلط بين نص معصوم ونص بشري تغلب عليه الظنون وخاصة لصعوبة إدراك موافقة فهم السلف للكتاب والسنة لنص الكتاب والسنة.

مفهوم السلف الصالح أصبح مفهوما مطاطيا في استخدامات السلفيين أنفسهم، يضيقونه حتى يُخرجوا أبا حنيفة رضي الله عنه من دائرة السلف ويمططونه حتى القرن الثامن الهجري ليُدخلوا شيخ الإسلام ابن تيمية في نطاقه، وهو سلوكٌ عجيب يؤكد أن العصبية المذهبية هي التي تتحكم في ذلك وليس الكتاب والسنة.

إن الأسباب التي ذكرها وليد بن الصلاح في نقض ادّعاء “الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة” أسبابٌ وجيهة ومنطقية، ولا أعتقد أن السلفيين يملكون ردودا عليها بل اعتقادي أنهم سيسارعون إلى تبديعه وتفسيقه وإخراجه من الملة واتهامه بأنه يعمل لجهات معادية لدين هذا الأمة كما يفعلون في كل نقاشاتهم مع مخالفيهم حتى ممن يشاركونهم وصف جماعة الكتاب والسنة.

إن مظهرية الاقتداء بالسلف وحقيقة الافتراء عليهم عند السلفيين إلا من رحم تظهر في قراءتهم العرجاء لتراث السلف، لفقه أحمد بن حنبل وفقه ابن تيمية وفقه مالك، فليس من مذهب الإمام أحمد التعصب لأقوال الرجال كما قالها صريحة في العبارة التي ذكرتها آنفا، وليس من مذهب الإمام أحمد إنزال أهل التوحيد مقام أهل التجسيد أو إنزال الفرق الإسلامية مهما بلغ حجم الاختلاف بينها وبينه منزلة الجهمية والمجسمة، وليس من مذهب الإمام أحمد معاملة أهل القبلة معاملة أهل الذمة، وليس من مذهب ابن تيمية تكفير أهل التوحيد أو إخراجهم من الملة كما فعل بعض السلفيين وكأنهم أوصياء على عقيدة الإسلام، وليس من مذهب الإمام مالك المغالاة في قدح المخالفين إشفاءً للغليل كما يفعل بعض السلفيين.

أريدُ من السلفيين تفسيرا لما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- عن الاحتفال بالمولد النبوي في “اقتضاء الصراط المستقيم”: “لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيرا محضا، أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله تعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته وإتّباع أمره، وإحياء سنّته باطنا وظاهرا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه طريقة السابقين الأولين، من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان). ليس في هذا القول تحريم محض للاحتفال بالمولد النبوي وهذا ما يدل عليه قول ابن تيمية رحمه الله: “لم يفعله السلف، مع قيام المقتضى له وعدم المانع منه”، فمن حوّل عدم المانع من الاحتفال إلى مانع محض؟ إن في الأمر سِعة ضيَّقها السلفيون بسوء فهمهم وسوء قراءتهم لأقوال ابن تيمية وغيره.

إن مشكلة كثير من السلفيين أنهم لا يروون في حكم الاحتفال بالمولد النبوي إلا ما يؤكد الحرمة أو يُثبت البدعة من نحو ما قاله “الفاكهاني 734هجرية” في رسالته المسماة “المورد في عمل المولد”: “لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بِدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفسٍ اعنتى بها الأكالون”، ولكنهم في المقابل لا يذكرون قول أبي إسحاق الشاطبي 790 هجرية، الذي توسط في الحكم فلم يحكم بتحريم مطلق ولا بحل مطلق وربط ذلك بترك المفاسد واجتناب المنكرات إذ قال في بعض فتاواه: “فمعلومٌ أن إقامة المولد على الوصف المعهود بين الناس بدعةٌ محدثة، وكل بدعة ضلالة؛ فالإنفاقُ على إقامة البدعة لا يجوز، والوصيّة به غير نافذة، بل يجب على القاضي فسخه “.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!