-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

السُّـنّـة القبلية لرمضان!

سلطان بركاني
  • 715
  • 0
السُّـنّـة القبلية لرمضان!

قبل عشرة أشهر ونيف، ودّعنا شهرا هو أعظم شهور العام، شهرَ رمضان، ودّعناه ونحن نتمنّى أن يمدّ الله في أعمارنا لندرك رمضان آخر، نستدرك فيه ما فاتنا في رمضان الذي رحل.. مضت الشّهور سريعا كأنّما هي أسابيع، شهر يتلوه شهر، حتّى ألفينا أنفسنا نعدّ الأشهر القليلة التي بقيت تفصلنا عن رمضان، ثمّ ها نحن نعدّ الأيام التي تنسحب سريعا بين يدي ضيفنا المنتظر.
لا شكّ أنّ من عباد الله من بدأ يستعدّ، وهو يترقّب هلال رمضان، وبيننا أيضا من لا يزال يسوّف في إصلاح حاله، ويؤخّر الجلوس مع نفسه، يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع، وهو لا يدري متى يحين أجله، ومتى يقف بصحبة نفسه لحسابٍ كان يراه بعيدا.
حلّ شهر شعبان سريعا، وها نحن نودّع العشر الأولى منه، شهر فضيل شُرّف بجواره لرمضان.. يأتي بين يدي شهر الغفران ليهيّئ المسلمين لاستقبال نفحات شهر العتق من النيران.. إنّه الشّهر الذي كان الصّالحون يسمّونه شهر السّقي، تسقى فيه النّفوس والقلوب لتكون رطبة طرية مهيّأة لتثمر خيرا كثيرا وطاعة واجتهادا في شهر رمضان.. وكان يسمّى “شهر القراء” لأنّ الصالحين كانوا يقبلون فيه على القرآن ليهيئوا قلوبهم لتعيش الحياة الكاملة مع القرآن في شهر القرآن.. كان منهم من يغلق في شعبان دكانه، وكان منهم من يطوي كتب العلم ويقبل على القرآن.. والحاصل أنّهم كانوا يزدادون في شعبان اجتهادا على اجتهادهم، حتى تتمرّن النّفوس على الإكثار من الطّاعات وترتاض للتخفف من الدّنيا ومن الملهيات، تأهبا لرمضان الذي كانوا يجعلون فيه أنفسهم وقفا لله وأوقاتهم خالصة للطّاعات، لكأنّ الواحد منهم سيلقى الله بعد رمضان.
قال أبو بكر البلخي: “شهر رجب شهر الزرع، وشهر شعبان شهر سقي الزرع، وشهر رمضان شهر حصاد الزرع”، وقال أيضا: “مثل شهر رجب كالريح، ومثل شعبان مثل الغيم، ومثل رمضان مثل المطر، ومن لم يزرع ويغرس في رجب، ولم يسق في شعبان فكيف يريد أن يحصد في رمضان”.
وهؤلاء الصّالحون تعلّموا الاهتمام بشعبان وجعلَه شهر أهبة واستعداد وحزم مع النّفوس، من قدوتهم الحبيب المصطفى -عليه الصّلاة والسّلام- الذي كان يجتهد في شعبان قريبا من اجتهاده في رمضان.. تقول أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-: “كان رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يصوم حتى نقول: لا يُفطرُ، ويفطرُ حتى نقولَ: لا يصومُ، وما رأيتُ رسولَ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- استكمل صيامَ شهرٍ قطُّ إلا رمضانَ، وما رأيتُه في شهرٍ أكثرَ منه صيامًا في شعبانَ” (متفق عليه).. ولعله -صلوات ربي وسلامه عليه- كان يجتهد في شعبان، لأسباب ثلاثة:
أولها: أنّه يريد أن يعلّم أمّته أنّ خيرات وهبات رمضان، تستحقّ أن يُتأهّب لاستقبالها،
وثانيها: أنّ شعبان شهر يغفل فيه كثير من النّاس؛ فأعينهم في هذا الشّهر على رمضان، ينتظرون الإعلان عن دخوله ليبدؤوا الاجتهاد في الطّاعات والقربات.. ولذلك ينسون الاجتهاد في شعبان، بل إنّ كثيرا من النّاس لا ينشغل في شعبان إلا بجمع ما يكفيه من مال لرمضان، وتكديس ما يزيد على حاجته من مؤن غذائية لشهر يرى أنّ المائدة فيه أهمّ من السجّادة، وينسى أنّه كما للصلوات المفروضة سنن رواتب يهيئ فيها العبد المؤمن نفسه ليقف بقلب حاضر خاشع بين يدي الله، فكذلك رمضان له سنّة راتبة قبلية في شعبان، وسنة راتبة بعدية في شوال. ولذلك لمّا سأل أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- قائلا: يا رسول الله، لم أرك تصوم شهراً من الشهور ما تصوم من شعبان؟ أجاب النبيّ -عليه الصّلاة والسّلام- قائلا: “ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان…”.
والعبادة في وقت غفلة النّاس أجرها مضاعف وأثرها عظيم على النّفس، لذلك يقول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “الْعِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إلَيَّ”، والهرج هو وقت الفتنة الذي ينشغل فيه كثير من النّاس بدنياهم وينسون دينهم؛ العبادة فيه أجرها مضاعف وعظيم عند الله وأثرها كبير في تهذيب النّفس وتثبيتها.. ولهذا كان قيام ثلث الليل الأخير من أعظم القربات ومن أحبّ الأعمال إلى الله ومن أعظمها أثرا في تربية النّفس وتهذيبها، لأنّه وقت انهماك النّاس في النّوم.. وكذلك الدّعاء عند دخول السوق أجره مضاعف لأنّ النّاس ينشغلون في الأسواق بالدّنيا وينسون ذكر الله والآخرة، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم-: “مَنْ دَخَلَ السُّوقَ فقال: لا إله إلاَّ الله وَحْدَه لا شَريكَ له، له المُلْكُ وله الحمْد، يُحْيِي ويُمِيت وهو حَيٌّ لا يَمُوتُ، بِيَدِه الخَيْرُ وهو على كلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ – كَتبَ الله له ألفَ ألْف حسنَةٍ، ومَحَا عنْه ألْفَ ألْف سيِّئةٍ، ورَفَعَ له ألْفَ ألْف درَجَة”(رواه الترمذي).. وكذلك الوقت بين المغرب والعشاء من كلّ يوم، هو وقتٌ ينشغل فيه كثير من النّاس بالمآكل وأحاديث الدّنيا. هذا الوقت كان كثير من الصّالحين يحرصون على إحيائه بالصّلاة رجاء أن تضاعف أجورهم، ويكتبوا عند الله ممّن يذكرونه وقت الغفلة.
والسّبب الثّالث الذي لأجله كان الحبيب المصطفى -صلّى الله عليه وسلّم- يزداد اجتهادا في شعبان، أنّ شعبان شهر عرض الأعمال على الله.. أعمال العام كلّه تعرض في شعبان على الله العليم الخبير سبحانه، فيغفر لمن شاء بفضله، ويؤجّل من شاء بعدله.
وفي حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- آنف الذّكر، قال النبيّ -صلّى الله عليه وآله وسلّم- عن شعبان: “ذاك شهر يغفل الناس عنه، بين رجب ورمضان، وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم”.
المعصوم -صلّى الله عليه وسلّم- يحبّ أن يُرفع عمله وهو صائم، وأن يطّلع اللّطيف الخبير على عمله الذي هو أشرف وأرفع الأعمال وهو معرضا عن الانشغال ببطنه.
الله -سبحانه وتعالى- مطّلع على أعمالنا وأقوالنا وأحوالنا وما تكنّه صدورنا في كلّ وقت وكلّ حين، لكنّ أعمالنا كلّها تُعرض في أوقات ومواسم محدّدة عرض تشريف لمن أحسن وعمل صالحا، وعرض لوم وتأنيب لمن غفل وعمل السيّئات، في انتظار العرض الأكبر يوم القيامة: ((يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)).
فما أحرانا أن نهتمّ بأحوالنا وقلوبنا وأنفسنا في هذه الأيام من شعبان؟ فينظر كلّ واحد في نفسه: هل يستشعر أنّ أعماله سترفع إلى الله؟ هل يشعر بالحياء والوجل من الله وهو يتذكّر سيّئاته التي اجترحها في الأيام الخالية، وذنوبه التي اقترفها في الخلوات، ويتذكّر الصّلوات التي أخّرها حتى خرج وقتها، ويتذكّر أنّه منذ الستة من شوال العام الماضي، ربّما لم يصم يوما واحدا يبتغي الأجر من الله، ويتذكّر الكلمات السيئة التي نطق بها لسانه، والنّظرات التي قلّبها في العورات، ويتذكّر تأفّفه من كلام أمّه وضجره من طلبات أبيه…
هو موقف عظيم وجليل، أن تُعرض أعمالنا على خالقنا سبحانه.. لو كان الواحد منّا يعلم أنّ عمله سيُعرض على أحد والديه، لاستعمل كلّ الطّرق والوسائل ليمحو الأعمال السيّئة التي لا يحبّ أن يطّلعا عليها؛ فلماذا لا نفكّر في التّوبة ومحو أعمالنا السيّئة ونحن نعلم أنّ أعمال العام تُعرض في شهر شعبان على الله، وأعمال الأسبوع تُعرض كلّ اثنين وخمس؟ هذا أحد صحابة النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، سعيد بن يزيد الأزديّ -رضي الله عنه- أتى نبيّ الهدى -عليه الصّلاة والسّلام- يوما فقال: أَوْصِنِي، فقال عليه الصّلاة والسّلام: “أُوصِيكَ أَنْ تَسْتَحِيَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا تَسْتَحِي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِح”.. هذا أقلّ الحياء: أن يستحي العبد المؤمن من الله كما يستحي من الرّجل الصّالح، فيترك ما يعلم أنّ الله لا يحبّه من الأعمال والأحوال والأقوال حياءً منه سبحانه، كما يترك بعض الأعمال والأقوال والأحوال في حضرة رجل صالح يحترمه.. هذا أضعف الإيمان، والحقيق بالعبد المؤمن أن يستحي من خالقه ومولاه سبحانه أكثر من حيائه من النّاس.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!