الرأي

السُّنَنِية بين النصّ القرآني والواقع الإسلامي

محمد بوالروايح
  • 936
  • 9
ح.م

نتباهى نحن المسلمين، في خطابنا المسجدي والفكري والإعلامي، بأننا أمة سننية، ويهرع بعضنا إلى حشد النصوص القرآنية الدالة على ذلك.. ولكن الحقيقة أن هناك بونا شاسعا بين السننية الحقيقية التي يرشد إليها النص القرآني والسننية المزعومة التي يدل عليها الواقع الإسلامي.

فصل مالك بن نبي– رحمه الله- في هذه المسألة وما يترتب عليها من مفارقات، وذلك في معرض تحليله للظاهرة الحضارية وموقع المسلمين منها، إذ وضع كثيرا من القواعد التي يقاس بموجبها المؤشر الحضاري وفي مقدمتها قاعدة التغيير النفسي من أجل التغيير المجتمعي تأسيسا على قول الله تعالى: “إنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيِّروا ما بأنفسهم”. وقد استنبط ابن نبي من هذه الآية القرآنية قاعدة سننية يرتبط بها صعود وسقوط الحضارات، عبر عنها بقوله: “غيِّر نفسك تُغيِّر التاريخ”.

لا أريد في هذا المقال الحديث عن فكرة التغيير الحضاري عند مالك بن نبي، وإنما أريد عقد مقارنة مختصرة بين السننية في النص القرآني والسننية في الواقع الإسلامي، ويكفي لبيان هذه المفارقة سوْق بعض الأمثلة على النحو الآتي:

يقول الله سبحانه وتعالى: “ولقد كتبنا في الزَّبور من بعد الذّكر أنَّ الأرض يرثها عبادي الصالحون”. إن وراثة الأرض كما يرشد إليها النص القرآني لا تتحقق في النهاية إلا للعنصر الصالح، ولكنّ الصلاح هنا لا يقتصر على الصلاح النفسي بل يتعداه إلى الصلاح الحضاري، أي أن يكون العنصر الصالح صالحا لإدارة الحياة وقيادة الحضارة ومؤهَّلا للتعبير عن الطاقة الخيرية والإيجابية التي أودعها الله- سبحانه وتعالى- في النفس الإنسانية من أجل بناء الإنسان كغاية أساسية، ثم بناء العمران كغاية تبعية.

ليس من ركائز الإيمان ولا من الإسلام أن يتقدم المسلمون على المستوى الديني ويتأخروا على المستوى الدنيوي، فهم إن لم يراعوا هذه الثنائية الحتمية تحولوا إلى عنصر بشري سلبي غير صالح لأداء وظيفة الاستخلاف، فامتلاك قوة الإيمان والقدرة على بناء الإنسان وإقامة العمران كلها قيم حضارية لا غنى عنها لتجسيد فكرة السننية، وفي غيابها يتحول الخطاب السنني إلى ظاهرة صوتية ونبرة خطابية لا أقل من ذلك ولا أكثر. من المفارقة أن تجد لبعضنا دراسات ومؤسسات حول السننية الحضارية، ولكن كلهم أو جلهم قضوا ردحا من الزمن يعِدوننا بما يسمونه البعث أو الانطلاق الحضاري من غير أن نجد لهذا  تأكيدا وتجسيدا في الواقع. ليس من التشاؤم القول إننا نحن المسلمين متأخرون في فقه الحياة وفقه الاقتصاد وفقه الاجتماع، ومن ثمّ فإنه لا يحق لنا أخلاقيا الزعم بأننا أمة سننية، فقد ارتكسنا إلى ذيل الترتيب الحضاري بعد أن كنا رواد الحضارة قروناً طويلة كما تشهد بذلك المستشرقة الألمانية “زيغريد هونكه” في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب”.

يقول الله سبحانه وتعالى: “إنَّ الله لا يغيِّر ما بقوم حتَّى يغيِّروا ما بأنفسهم”. إنّ آلة التغيير قد توقفت في المجتمع الإسلامي منذ أن توقفت آلة التعمير، وأضحى الواقع الإسلامي واقعا نمطيا ليس فيه ما يدعو إلى الأمل في تغيير وشيك على المدى المنظور، ولكن رغم ذلك تجد من يلبس على الأمة ويستخفّها ويضلّلها ويمنِّيها بـ”عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون”، وهو موقن في قرارة نفسه بأنها أمان كاذبة لا يصدقها إلا  الحمقى والمغفلون. من المفارقة أن تجد بين نخبنا من يتشدّق بكلمات فضفاضة عن فلسفة التغيير ونحن نعلم بأنها كذب لا غير. لقد فقه الماليزيون سنة التغيير فصحّحوا مسارهم الاجتماعي وحسَّنوا وضعهم الاقتصادي وقفزوا بقيادة مؤسس ماليزيا الحديثة “مهاتير محمد” إلى  مصاف الدول المصنعة، ولكن بقي في المقابل عدد لا يستهان به من الشعوب والدول العربية والإسلامية يراوح مكانه، باقيا على ختم الله لا يعرف للتغيير سبيلا. من المؤسف أن تظلّ فلسفة التغيير في الوطن العربي والإسلامي فلسفة عقيمة تجعل يومنا كأمسنا لا جديد في واقعنا إلا  تعاقب الليل والنهار.

تخلّى المسلمون عن سنَّة الغلبة ورضوا بأن يبقوا أمة مستعبَدة مضطهَدة، مع أن القرآن الكريم يحضّهم على إعداد القوة لحماية بيضتهم وتحقيق أمنهم القومي. يقول الله سبحانه وتعالى: “وأعدُّوا لهم ما استطعم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم”. لقد عبّر الشيخ محمد عبده عن هذا الواقع الإسلامي بقوله: “ذهبتُ إلى الغرب فرأيت ألف أسطول مع أن دينهم يقول: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، وجئت إلى بلاد المسلمين فوجدت ألف مسطول مع أن دينهم يقول: ((وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم))، فشتان بين أمة الأساطيل وأمة المساطيل”.

من مقتضيات السننية الاهتمام بالمنظومة التربوية، لأن هذه الأخيرة هي بارومتر النهضة الحضارية، ولكن الواقع أن المفتونين بفلسفة السننية لم يقدِّموا لهذه المنظومة شيئا يستحقُّ التنويه، بل على العكس من ذلك مثَّلوا ولبّسوا على الأمة وميَّع بعضهم ما استطاعوا من قيمنا التربوية. في مجتمعنا الإسلامي نخبٌ كثيرة متميزة، ولكن الرداءة التي سرت أفقيا وعموديا وفي الأخضرواليابس وبمعدَّلات رهيبة جعلت هذه النخب تتوارى وتنتظر وتتحيَّن الفرصة للعودة من جديد، عند عودة من يقدِّر الفكر الراشد ويثمِّن العبقريات والكفاءات.

مقالات ذات صلة