-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشباب والمبادرات الناجحة

التهامي مجوري
  • 399
  • 0
الشباب والمبادرات الناجحة

توفيق شاب سائق طاكسي في مدينة وهران، ساقنا الحديث معه عن وضع الشباب في بلادنا قبل أن يحكي لنا قصة قام بها هو مع زملاء له في المهنة، أرى من الضروري نقلها إلى القراء الكرام رغم بساطتها، لكنها فكرة معبرة عن الطاقات التي يتمتع بها الشباب عادة، ولكن قبل أن أعيد عليكم القصة، أرى من الضروري أن نضع الشباب في موقعه في خريطة المجتمع، كفئة متميزة وكوظيفة متحركة وكرسالة في الحياة.

هذه الفئة المتميزة المتحركة والمفترض فيها أنها رسالية، تمثل المرحلة العمرية ما بين 18 إلى 40 سنة، وربما تمتد إلى الخمسين كما تعرض الدراسات الحديثة لحركة المجتمعات، وهي من أخصب المراحل على الإطلاق، إذ أن منتجات المجتمعات كلها أو جلّها من بركات هذه المرحلة.

وبناء المشاعر الذي تنتجه الحياة الأسرية ابتداء من مرحلة الطفولة، يكون في هذه المرحلة كمرحلة تالية للطفولة، زواجا وإنجابا وشعورا حقيقيا بالحياة الزوجية والأبوَّة والبُنوَّة والأمومة، وإنفاق الطاقة المادية والمعنوية تكون أيضا في هذه المرحلة، إذ يكون الشباب هو مسيِّر المؤسسات والعامل المتخصص والعامل البسيط… لأن الطاقة الشبابية –ذكورا وإناثا- في المجتمعات هي الأصل، باعتبارها القوة المحركة الحقيقية لعجلات المجتمع؛ لأن الشباب بطبيعته كتلة من الطاقات الإجتماعية الكامنة، لا يمكن لمجتمع أن ينهض إلا بها، وإذا قُدِّر لمجتمع أن يكون شبابه قاعدا متقاعسا بطالا، فإن مصيره الركود والعَطل ومن ثم الزوال.

ورغم أن وسائل الإنتاج –الآلة المتطورة والذكاء الاصطناعي- عوّضت بعض ما يقوم به الشباب، فإن المجتمع الفاقد للشباب وطاقاته، مهددٌ بالانقراض، مثلما هو واقع المجتمع الغربي الذي غزته الشيخوخة، رغم تطوره المعرفي والمادي يبقى مصيره دائما الزوال بسبب غياب الطاقة الشبانية؛ لأن الشباب ليس مجرد وسيلة إنتاج وإنما هو روح المجتمع الذي به تعيش وتنتعش.

ولتكون طاقات الشباب متحركة ومتفاعلة ومنتجة، فإن الأصل فيها أنها تجد بين يديها وعاء ثقافيا يمكّنه من استثمار طاقاته الكامنة، من معرفة وعادات وأعراف حسنة وقدوات ونماذج تُحتذى؛ لأن الإنسان في هذه المرحلة –مرحلة الشباب- بطبيعته التي فُطر عليها، هو طاقة متدفقة يبحث لها عن مصارف جادة متمثلة في محاضن تعليمية وتربوية وتكوينية ونماذج وقدوات قابلة للتقليد؛ لأن الشاب – كما أسلفنا- مُعَدٌّ لذلك، كمسِّرع لتنفيذ ما يراه مناسبا، وكمقلد لما استهواه من القول والفعل والسلوك، فما لم يجده في الأسرة من الفضائل يحاول استدراكه من المحيط الصغير، من الجيران والحيّ والقرية والمدينة، وما لم يجد في المحيط الصغير يأتي به من المحيط الكبير؛ المجتمع، وما لم يجده يجده في المحيط الكبير يجلبه من المحيط الأوسع؛ الإنسانية، وإذا لم يجد في هذه الأوعية كلها من الفضائل التي تشبع فضوله في تسيير شؤونه وفي تعامله مع الناس، فإنه مستعد لجلب الرذائل لتحل محلها؛ لأن الطبيعة البشرية مُعدَّة لإشباع رغباتها الضرورية، فإن لم تجد لها السبل المشروعة والمقنَّنة التي هي من واجب المجتمع توفيرها، فإنها تسلك السبل الأخرى تلبيةً للعواطف والغرائز غير المنضبطة؛ لأن الطبيعة تأبى الفراغ.

والمراحل التالية لمرحلة الشباب هي عبارة عن استثمار لما اكتسب الشاب في حياته، وبالتالي فإنَّ ثمار المجتمعات تكون نتيجة حتمية لما وفَّرت لشبابها.

والمجتمعات التي خدمت شبابها وقدّمت له ما يحتاج في الوقت المناسب، فإن مصيرها هو الاستقرار والنمو والرفاهية، أما المجتمعات التي لم توفر لشبابها ما يستحق من الاهتمام والرعاية اللازمة، فإن الغالب على مصيرها هو الغثائية والضياع.

قد لا يكون الشباب في المجتمعات في مستوى المنظِّر والمبدع والباعث للأمور من عدم، ولكن موقعه الحركي لا يعوضه غيرُه من الفئات الأخرى، ومع ذلك يبقى الباب مفتوحا على مصراعيه لهذه الفئة الفاعلة، لتحل محل القوى المفقودة، فيحاول الشباب القيام بما قصَّر فيه مقام الكهول والشيوخ لسدِّ الحاجة المفقودة التي فرَّط فيها المجتمع بمؤسساته الرسمية والشعبية، وهنا تظهر قيمة المبادرات الشبابية التي تنتظرها الأممُ في نهضاتها.

الأصل في حركة المجتمع ونشاطها، من مهام الكهول والشيوخ الذين تعلموا من قبل وجرّبوا وخبِروا، ومن مهام المؤسسات الرسمية والشعبية التي تفوق أعمارها أعمار الأفراد، والشباب يمثل في ذلك الطاقة التي يحتاجها المجتمع.

قد لا يكون الشباب في المجتمعات في مستوى المنظِّر والمبدع والباعث للأمور من عدم، ولكن موقعه الحركي لا يعوضه غيرُه من الفئات الأخرى، ومع ذلك يبقى الباب مفتوحا على مصراعيه لهذه الفئة الفاعلة، لتحل محل القوى المفقودة، فيحاول الشباب القيام بما قصَّر فيه مقام الكهول والشيوخ لسدِّ الحاجة المفقودة التي فرَّط فيها المجتمع بمؤسساته الرسمية والشعبية، وهنا تظهر قيمة المبادرات الشبابية التي تنتظرها الأممُ في نهضاتها.

والمبادرة ليس ضروريا أن تكون من نوع الإضافات الكبرى حتى تسمّى مبادرة، وإنما يكفي أنها تستجيب لحاجة اجتماعية معينة، بفكرة غير دارجة أو غير معهودة، أو هي معروفة ولكن معروفة في وسط معين، إذ تكون إضافة في المجتمع تظهر آثارها في واقع الناس أو في سلوكات أصحابها.

وهنا يحسن بنا عرضُ مبادرة سائق الطاكسي توفيق وزملائه.

في يوم السبت الماضي 11 مارس 2023 كنت في زيارة إلى مدينة وهران، وفي طريقي لزيارة أحد الأصدقاء أوقفت سيارة “طاكسي” وركبت، وبينما نحن في الطريق لاحظت على سائق الطكسي “توفيق” أنه ينظر إلى هاتفه وكأنه في اجتماع على المباشر… أوقفنا شابَّان في الطريق يريدان الركوب، فلم يتوقف توفيق وقال لي هما اثنان وعندنا حقيبة في الخلف، يقصد حقيبتي التي وضعتها أنا في الخلف… ثم ضغط على زر بالهاتف مخاطبا شخصا آخر… في الشارع كذا وسمى الشارع يوجد شابان… فاعتذر له الشخص لكونه ليس في الجهة المقصودة.

وبعد انتهاء الحوار القصير ساقني الفضول إلى محاولة معرفة القصة التي وراء هذا الاتصال، ولكن بطريقة غير مباشرة… سائلا عن أحواله وأحوال العمل الذي هو فيه؟ فردّ عليّ بلغة الحامد لله على نعمه، ثم قلت له: رأيتك تتكلم مع شخص في الهاتف وتشير إلى الشخصين اللذين مررنا بهما؟ فشرع يقصّ لي الحكاية التي أشرنا إليها في بداية هذا الحديث، وهي مبادرة اعجِبت بها كثيرا، إذ رغم بساطتها، فإنها تنبئ بروح ابتكار وإبداع، تخبئ الكثير من مستقبل الجزائر التي ينتظره أهلها.

قال لي: نحن مجموعة من الشباب عددنا خمسة وعشرون شخصا، أعمارنا بين خمسة وعشرين وأربعين سنة، قمنا بمبادرة، بدأها أحدنا بمفرده ولما علمنا بالموضوع تبنيناها. وهي أننا اتفقنا على القيام بعمل جماعي لمساعدة بعضنا البعض، قد يقع لأحدنا عَطل في سيارته أو يعتدي عليه زبونٌ غير شريف، أو أي شيء يريده، فيتصل بنا أو بأحدنا فتعم المعلومة، فيهبّ إليه كل من كان في تلك الناحية، أو نمرّ بجهة فيها ركاب كثّر نتصل بأصحابنا ليذهبوا إلى ذلك المكان، أو نمرّ بجهة قد يكون أحدنا فيها نخبره بالحاجة المطلوبة. وإضافة إلى هذا التعاون المباشر بيننا، فتحنا صندوقا للتعاون المالي نضع فيه 700 دينار لكل واحد أي بمعدل 100 دينار لليوم الواحد، ونقوم بتوزيعها على المحتاجين، أحيانا نوزعها “سندوتشات” في أماكن حيث توجد الحاجة للأكل، وعندنا بعض العمال المكفوفين الذين أغلِق المعمل الذي يشتغلون فيه نقدِّم لهم مساعدات، ونحن عازمون على تطوير الفكرة إلى ما هو أفضل، وهي فكرة استفدنا منها جميعا، رغم أننا لا زلنا في حاجة إلى العمل.

وعندما اتفقنا في الموضوع وآلياته، أنشأنا تطبيقا على الانترنت كوسيلة إتصال بيننا مفتوحا طول اليوم في ساعات العمل، وكما تلاحظ وأشار إلى الهاتف وإلى التطبيق، الذي رأيته وكأنه اجتماع مباشر… هو في الحقيقة تطبيق، تتلقى من خلاله المجموعة المعلومات اللازمة من بعضهم البعض، مثل راديو اللاسلكي الذي تستعمله الأجهزة الأمنية في الاتصال ببعضها البعض.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!