-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشيخ أبو اليقظان يطفَقُ مرتحلا بين مدن الجزائر

الشيخ أبو اليقظان يطفَقُ مرتحلا بين مدن الجزائر

الشيخ أبو اليقظان، واسمه الكامل هو: إبراهيم بن عيسى بن يحي بن عيسى حمدي أبو اليقظان (الخامس نوفمبر 1888ـ الثلاثون مارس 1973م) سحابة ممطرة في سخاء غشّت أرض الجزائر، ونبراس نشر ضياءه في أتعس الأيام الحالكات التي مرت بها في فترة الجثوم الثقيل للاستخراب الفرنسي على صدرها محاولا خنق أنفاسها، واجتثاث عناصر هُويتها من جذورها، وابتلاعها لقمة هشة سائغة، وتغيير سحناتها الوجودية الأصيلة، واستبدالها بأخرى وافدة دخيلة.
ضربت “مؤسسة أبي اليقظان الثقافية” التي تأسست في سنة 2013م، بالتقاليد المعهودة في إحياء ذكريات الشخصيات الوطنية، والتي تكون غالبا محصورة مكانا ومحدودة زمانا، وخرجت من شرنقة المألوف المعتاد. وبادرت إلى إحياء الذكرى الخمسين لرحيل من تحمل اسمه في تظاهرة مبتكرة وغير مسبوقة حتى تعمّم الفائدة، وتنشرها بين أكبر عدد من أبناء الأجيال الصاعدة. وقد حسن صنيعها، لأنَّ المحتفى به هو شخصية متميزة ضرب بسهم عريض في ميدان الجهاد بالكلمة المكتوبة، ويستحق أن يتبوّأ مكانًا عليًّا كقدوة وأنموذج.
وفي هذه التظاهرة، طفق الشيخ أبو اليقظان ينتقل بصورته وتراثه الكتابي المتنوّع وما كُتب عنه من أعمال بحثية مختلفة بين عدة مدن جزائرية. وانطلقت رحلة تطوافه من مدينة الجزائر العاصمة، واختتمت، بعد أن طال السفر، ببلدة القرارة مسقط رأسه. وارتحلت على الترتيب الزمني بين مدن: وهران، قسنطينة، خنشلة، باتنة، غرداية. وعلمت أن هذه الفكرة الممدوحة تعود إلى الأخ الدكتور محمد ناصر بوحجام، حفظه الله، المشرف على فعاليات هذه التظاهرة.

شرع الشيخ أبو اليقظان في إطلاق صحائف استعرض فيها معاناة الشعب الجزائري، ورسم على صفحاتها قضاياه الوطنية بحكمة ورشاد ورأي سديد، وشحنها بفلسفاته ورؤاه النهضوية المعادية للاستكانة والاستسلام. ورغم العقبات التي واجهته، إلا أنه تمكَّن من إصدار ثمانية عناوين صِحافية متعاقبة تتميز مواضيعُها بالجدية والثراء والصراحة هي: “وادي ميزاب”، “ميزاب”، “المغرب”، “النور”، “البستان”، “النبراس”، “الأمة”، “الفرقان”.

استفاد الشيخ أبواليقظان الذي تجرّع آلام اليتم والفقر في صغره من التجربة الصِّحافية التي عايشها في أرض تونس لمّا قصدها طالبا العلم في جامعها “الزيتونة” المكتظ. وبعد أن تيقن أن النشاط التعليمي النابع التي كان ركيزة المقاومة الثقافية ضد الفكر التغريبي الفرنسي قد تسلمته وترعاه أيد عاملة أمينة، وأن القيّمين على ثغوره من علماء ومعلّمين وعرفاء أصبحوا كلهم على درجة من اليقظة وفي مستوى فهم الصراع وتحمُّل المسؤولية وصد دسائس التجهيل التي يفتن العدو في تنويعها، واطمأن على مردود المدارس المبثوثة في أرض الجزائر ونجاعتها، صدف بجهده منحنيا إلى جهة أخرى لتوسيع مساحة زرع الوعي ونشره حتى تكون نسائم الاستفاقة شاملة وملامِسة لكل أفراد طبقات الشعب الجزائري. وبنظراته اليقظى، أبصر في نشر الصحف السيارة خير وسيلة وأنسب أداة، وامتدح تأثيرها التثقيفي في قصيدة مطلعها:
إن الصحافة للشعوب حيــــــــاة
والشعب من غير اللسان مـوات
فهي اللسان المفصح الذلق الذي
ببيانه تتدارك الغايــــــات

شرع الشيخ أبو اليقظان في إطلاق صحائف استعرض فيها معاناة الشعب الجزائري، ورسم على صفحاتها قضاياه الوطنية بحكمة ورشاد ورأي سديد، وشحنها بفلسفاته ورؤاه النهضوية المعادية للاستكانة والاستسلام. ورغم العقبات التي واجهته، إلا أنه تمكَّن من إصدار ثمانية عناوين صِحافية متعاقبة تتميز مواضيعُها بالجدية والثراء والصراحة هي: “وادي ميزاب”، “ميزاب”، “المغرب”، “النور”، “البستان”، “النبراس”، “الأمة”، “الفرقان”.
كانت عينُ الرقيب الاستعماري الماكر وبفعلها التضييقي النكد تبحث، وفي كل مرة، عن أبسط الذرائع كلما أصدر صحيفة، وتتخذ منها سببا تنفخ فيه لتضخيمه حتى توقفها. وقد شمل التعطيل، على سبيل المثال، صحيفته “النور” من قبل سلطات الاحتلال الفرنسي بسبب توظيف كلمة: “الاستدمار” كبديل عن لفظة: “الاستعمار”.
مثلما حارب المفكرُ الكبير مالك بن نبي مفهوم: “القابلية للاستعمار” من خلال كتابته الفكرية الحضارية الراقية، رمى الشيخ أبو اليقظان إلى مقاومة مفهوم: “القابلية للجهل”، وهو الأخطر والأصعب. وجعل المعركة مع الإدارة الفرنسية التي زاحمته في مشروعه الإعلامي التوعوي، جعلها مواجهة حادة وتحديّا لم يحد عنه، فلم يكن يهدأ أو يركن إلى الراحة، أو يمضي إلى الاستسلام والإذعان. وكانت كلما أغلِقت في وجهه صحيفة، وأوقفتها عن الصدور إلا وفاجأها بإصدار أخرى. ودامت التجرية اليقظانية الرائدة في عالم الصحافة اثنتي عشرة سنة، إذا شرع فيها في سنة 1926م، وتخلى عنها في سنة 1938م نتيجة المنع النهائي الذي فُرض عليه، وألزم به، وإخضاع مطبعته الخاصة إلى المراقبة المستمرة. وخلال هذه الرحلة، رمى بين أيدي قرّائه أربعمائة وثماني وعشرين (428)عدد من مجموع هذه الصحف.
يتسم العملُ الصِّحافيُّ عند الشيخ أبي اليقظان بمعيار الصرامة، ولذا اشترط على الكتاب الصِّحافيين المساهمين معه شروطا موجبة لا سبيل للانسلاخ منها. وفي هذا السياق، يقول الباحث الدكتور سليمان صالح الأستاذ بكلية الإعلام بجامعة القاهرة: (وعالج الشيخ أبو اليقظان في صحفه مختلف القضايا، واستكتب كبار كتاب عصره من داخل الجزائر ومن المشرق العربي، وتكشف قواعد الاستكتاب التي وضعها ملامح مهنية صارمة، فهو يشترط الاختصار تفاديا للملل الذي قد يصيب القارئ فيصرف اهتمامه، ويشترط أن يترك الكتّاب الذين ينشرون بأسماء مستعارة أسماءهم الحقيقية لدى إدارة الصحيفة، وذلك لضمان المصداقية ومواجهة الانتحال، ويشترط الالتزام بالحكمة والنزاهة والاعتدال، مع تحاشي الأشخاص والشخصيات أو الكتابة في المواضيع الفارغة، وهو أخيرا يحتفظ بحق الصحيفة في نشر المقال أو رفضه، وفي الطريقة التي يُحرَّر ويُنشر بها).
تجشّم الشيخ أبو اليقظان عناء الأسفار الطويلة للانتقال إلى تونس لطبع أعداد صحفه، وتوزيعها في بلدان الشمال الإفريقي. وكان كلما اقتربت نهاية الشهر، وهو موعد الحسابات وتسديد الديون المحمولة على عاتقه، إلا وتعكّر مزاجه واكتأب نفسيا. وكان يسمي نهاية الشهر بـ”رأس البغل”؛ لأنه كان موعدا يجبره على إفراغ خبيئته مما جمعه.
مثلما اهتمّ الشيخ أبو اليقظان بقضية الجزائر، فإنه لم ينس القضايا العربية والإسلامية كلها، فصحيفة “المغرب” على سبيل المثال، صدر قرارُ تعطيلها بسبب وصفه الجيش الإنجليزي بأنه أداة لخدمة أطماع الصهيونية، وأنه يقوم بحماية الصهاينة ليرتكبوا الفظائع في حق الأبرياء، وهو يكرر الدعوة للفلسطينيين في صحفه بالاستمرار في المقاومة) وما أشبه اليوم بالأمس.
في باتنة، وهي المحطة الخامسة من هذا الملتقى، وقف الدكتور محمد ناصر بوحجام في قراءة سريعة عند رسالة جامعية قدَّمها أحدُ الطلبة منذ سنوات، وحملت عنوان: “أبو اليقظان ونثره”. ولم يحجب ثناؤه عليها الإشارة إلى بعض المآخذ المحيطة بها، ومنها قول صاحبها: (إنّ الحقيقة التي يجب أن نقف عندها هي أنّ أبا اليقظان كانت نظرته إباضيّة مذهبيّة، لم يخرج عنها وما حاد عن هذا المبدأ؛ لأنّ جميع الذين ترجم لهم كانوا إباضيّين، والفقهَ الذي كتب فيه كان من الوجهة الإباضيّة، والنّساءَ اللّائي ترجم لهنّ إباضيّات. وكم تمنّينا أن يترجم مثلا لرفيق دربه ابن باديس أو لزميل له هو الشّهيد العربي التبسـّي، لأنّ هذين ماتا في حياته). وفي ردِّه، قال الدكتور محمد ناصر بوحجام مفنِّدا هذا الزّعم: (يبدو لنا أنّ هذه نظرة غير موضوعيّة لكتابات أبي اليقظان، إذ تفتقر إلى الدّقة والنّظرة الشّاملة لِـهذه الكتابات، وتبتعد عن العرض الصّحيح والنّظر إلى الملابسات والعوامل التي وجّهت هذه الكتابات، والوقوف على الأهداف التي ارتبط بها أبو اليقظان في الكتابة، وهل يُقبل من باحث أكاديمي هذا الحكم؟. هل ينسجم مع ما سجّله عن شخصيّة أبي اليقظان في أطروحته القيّمة من مميّزات إيجابيّة، كالشّموليّة في التّفكير، والدّعوة إلى الوَحدة، والاهتمام بشؤون المسلمين عامّة من دون تمييز…؟. ألا تدعو المنهجيّةُ العلميّة الباحثَ أن يدرس الظّواهر ويعالج المعلومات، ويناقش الموضوعات، ويحلّل المعطيات في سياقاتها وملابساتها وعواملها وظروفها..؟. ويضيف: (لو رجع الباحث إلى الأسباب التي دفعت أبا اليقظان للتّرجمة للذين ذكرهم، لوقف على الحقيقة، وفهم لماذا خصّ تلك الأسماءَ بالتّرجمة من دون غيرها، وبقي في دائرة المذهب الإباضي في التّرجمة الوافية.. فإنّ معظمها كان بطلبٍ من الباحثين، ومنهم الأكاديميّون الذين كتبوا عن الشّخصيّات الإباضيّة، إذن كانت الكتابة تحت الطّلب .. فلماذا يُحمَّل الشّيخ أكثر ممّا يستطيع وهو مريضٌ مقعد بعيد عن المصادر والمراجع؟!).
عاش الشيخ أبو اليقظان يقظ العقل ونابه الفؤاد طول عمره، وحارب الجمود الفكري في أدبه النثري وفي شعره وفي كتاباته التاريخية وفي اجتهاداته الفقهية وفي مشاويره الصحفية وفي مقالاته السياسية التي أزعج بها الاستعمار وفي نقده الهادف بقلمه الجريء وفي المعارك التي خاضها دفاعا عن الوطن ومحاميا عن حرمته وعزَّته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!