-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشيخ الغنوشي وأصول الحكم

عدة فلاحي
  • 1580
  • 8
الشيخ الغنوشي وأصول الحكم

بعد القرار التاريخي والشهير الذي أصدره كمال أتاتورك بإسقاط الخلافة الإسلامية سنة 1924م، مباشرة بعد ذلك صدر سنة 1925 الكتاب التاريخي والشهير والذي أثار ولازال يثير جدلا كبيرا وسط النخب الدينية والسياسية وهو “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ علي عبد الرازق، هذا الكتاب كما لم يرُق للشيوخ التقليديين الذين يؤمنون بفريضة الخلافة، لم يكن آنذاك في صالح الملك فؤاد ملك مصر الذي أراد أن يحمل ويرث مقام الخلافة لتكون مصرية في شخصه، لأن الشيخ عبد الرازق استهل كتابه بالقول “ولولا أن نرتكب شططا في القول لعرضنا على القارئ سلسلة الخلافة إلى وقتنا هذا، ليرى على كل حلقة من حلقاتها طابع القهر والغلبة، وليتبين أن ذلك الذي يُسمى عرشا لا يرتفع إلا على رؤوس البشر، ولا يستقر إلا فوق أعناقهم، وأن ذلك الذي يُسمى تاجا لا حياة له إلا بما يأخذه من حياة البشر، ولا قوة إلا بما يغتال من قوتهم، ولا عظمة له وكرامة إلا بما يسلب من عظمتهم وكرامتهم..”.

 وهذا التوصيف الذي يذهب إليه الشيخ عبد الرازق هو الذي اقتنع به الشيخ عبد الحميد بن باديس الذي بارك التغيير الذي حدث في تركيا التي تخلصت من عبء الشيوخ الذين استخدموا الدِّين وسيلة لتحقيق مصالحهم وتسخيره في خدمة الخليفة المريض والوهمي الذي غرق في شؤون الخاصة وضيّع الأمة التي أصابها الجمود والتخلف إلى درجة أنها تحوّلت إلى مطمع للاستعمار الأوروبي الذي استباح الأرض والعرض، لكن للأسف هذا الرأي المستنير للشيخ ابن باديس ما كان ليتقاسمه معه شيوخُ الأزهر الذين كانوا ولايزالون لا يتحركون إلا بإيعاز من صاحب العرش المصري، إذ أقاموا محاكمة للشيخ عبد الرازق ومُنع كتابه من النشر وجُرِّد من لقبه الأزهري كعالم وطُرد من وظيفته واتهم بالعمالة للانجليز، رغم أن الانجليز كانوا مع تولي الملك فؤاد الخلافة حتى يتحكموا في الأمة على أوسع نطاق، كما حكموا عليه بالردة على تعاليم الإسلام وثوابته، وقد عقب الكاتب الكبير محمد حسين هيكل صاحب “سيرة محمد” مدافعا عن الشيخ عبد الرازق وعن كتابه بالقول “وماذا تقول في عالم من علماء الإسلام يريد ألا يكون للمسلمين خليفة في وقت يطمع فيه كل ملك من ملوك المسلمين وكل أمير من أمرائهم في أن يكون خليفة؟” نعم، وهذا الذي لازلنا نعاني منه على مستوى الجماعات الدينية التي تدّعي بأنها هي وحدها “الفرقة الناجية” والبقية في ضلال ورِدّة، وما هذه إلا من ألاعيب السياسة التي استخدمت الدين كـ”أفيون للشعوب” وللتضليل وكسب الشرعية.

حينما سُئل الزعيم المصري سعد زغلول حول رأيه في كتاب “الإسلام وأصول الحكم “؟ ردّ بالقول “قرأت كثيرا للمستشرقين ولسواهم، فما وجدت ممن طعن منهم في الإسلام حدّة كهذه الحدّة في التعبير، على نحو ما كتب الشيخ علي عبد الرازق.. لقد عرفت أنه جاهلٌ بقواعد دينه، بل بالبسيط من نظرياته، وإلا كيف يدّعي أن الإسلام ليس مدنياً، ولا هو بنظام يصلح للحكم؟!..”. لقد تعجب سعد زغلول، وهو العلماني الوطني، من الأفكار الصادمة التي جاء بها الشيخ عبد الرازق ووقف في صفِّ هيئة كبار علماء الأزهر التي جرّدته من لقبه الأزهري واعتبر بأن القرار الذي اتخذته كان صحيحا، ولكن أليس من الظلم أن يُقرأ الكتاب في غير السياقات الزمنية والسياسية التي جاء فيها؟ ونكون بعيدين عن الحكمة لو خطّأنا الشيخ على الجملة وهو الذي نبّهنا في وقت مبكر من هذا العصر إلى مسألة جوهرية وخطيرة جدا لاتزال تشغلنا إلى اليوم وهي مسألة التداخل بين ما هو ديني وما هو سياسي في إدارة شؤون الدولة والحكم وهذا الذي ربما يعمل رئيسُ حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي صاحبُ النفس الطويل على تفكيكه وفك الارتباط بين الدين والسياسة في إدارة الشأن العام الذي -على حد تعبيره – يجب أن ينصرف إلى التنمية والاهتمام بحياة المواطن اليومية في التعليم والشغل والصحة وتوفير الأمن والحياة الكريمة في ظل حق المواطنة وكنف الحرية التي اعتبرها الشيخ ابن عاشور مقصدا من مقاصد الشريعة الذي أهملناه.

منذ أكثر من عقد من الزمان، أصدر “أبو قتادة” فتوى يكفِّر من خلالها الشيخ راشد الغنوشي لإيمانه بالديمقراطية كوسيلة وأداة للحكم، وهذا الإيمان لدى الغنوشي تكرَّس عنده أكثر وهو متواجدٌ في منفاه ببريطانيا، وبالتأكيد استفاد كذلك من تجربة “الجبهة الإسلامية للإنقاذ” الفاشلة بالجزائر والتي اعتمدت على الكثرة العددية الناخبة وعلى التجييش الشعبي والجماهيري ولم تلقِ بالاً وتحسب حسابا للنخب المتنفذة في مؤسسات الدولة، ولهذا نجد الغنوشي يتحاشى منطق المغالبة ويجنح دائما إلى منطق التوافق، وهذه القاعدة هي التي عمل على تطبيقها برغم المشاكل التي تعرض لها بعد ثورة الياسمين في تونس بسبب التنازلات التي قدمها وهو يمتلك الأغلبية، وفي هذا السياق يقول “يجب تقدير إمكاناتنا وإمكانات خصومنا والتخلص من وساوس التآمر الذي تصاب به الحركة الإسلامية، فتتخيل أن العالم يتآمر عليها.. صحيحٌ أن العالم يكرهنا، ولكن السياسات لا تُبنى على المبادئ فقط، وليس من المستحيل أن تلتقي مصالحُنا مع مصالح أعدائنا”.

 ولهذا نجد الغنوشي اليوم يضع يده في يد زعيم “نداء تونس” الرئيس الباجي قايد السبسي الذي وضع ثقته في الغنوشي كشريك سياسي معتدل وزكى أطروحاته الحكيمة وشعوره الوطني الذي أعطى الأولوية لتونس ولمصلحة تونس قبل مصلحة الأمة.

 وإذا كان الغنوشي لا يجد حرجا في التوافق مع تلميذ المرحوم بورقيبة الذي اضطهده واضطهد الآلاف غيره وحرمه من حقوقه السياسية، فذلك لأن السبسي ينتمي إلى مدرسةٍ لها مشروعٌ واضح يمكن التعاطي والتعاملُ معه، وهذا الذي جعل الغنوشي يحترم بورقيبة ويقول عنه في خطابه الافتتاحي للمؤتمر العاشر إنه زعيمٌ ومجاهد، وهذه تعدُّ بحق مصالحة مع التاريخ، ولما سئل الغنوشي قبل هذا التاريخ عن بن علي وبورقيبة أجاب بالقول “بورقيبة يحمل مشروعا ثقافيا معاديا ولكنه واضح، اما ابن علي فليس لديه مشروع ثقافي، إنه يريد ان يحكم اعتمادا على أسوأ الناس في تونس.. بورقيبة دكتاتور، ولكنه يحمل مشروعا ثقافيا.. بن علي رجل أمن متردد.. ولأنه ليس هناك مشروعٌ ثقافي فقد استطاع المفسدون أن يحتلوا الفراغ، أناس يحملون مشروعا معاديا للعروبة والإسلام”.

 وبالتالي يمكن القول بأن التوافق الذي يدعو إليه الغنوشي ليس توافقا سياسيا وفقط، وإنما هو توافق ثقافي وفكري، هذا التوافق الذي يحرص عليه الغنوشي لا يكون معروضا ومطروحا على النخب وموقع حركة النهضة في المعارضة، بل هو مبدأ قائم وأساسي حتى في حالة ما إذا  كانت النهضة في السلطة وفي مركز التمكين والقوة، أي هي خيار استراتيجي وليس تكتيكياً.

هذا الذي لازلنا نعاني منه على مستوى الجماعات الدينية التي تدّعي بأنها هي وحدها “الفرقة الناجية” والبقية في ضلال ورِدّة، وما هذه إلا من ألاعيب السياسة التي استخدمت الدين كـ”أفيون للشعوب” وللتضليل وكسب الشرعية. 

 بالعودة إلى الوثيقة التي تضمنت خطاب الشيخ راشد الغنوشي في افتتاح مؤتمر حركة النهضة الأخير يوم 20 مايو2016، لا نجده يكابر ويبرِّئ الحركة من الوقوع في الأخطاء، بل دعا إلى تقويم مسارها ومراجعة سياساتها وتجديد قياداتها، وإلى خيار التوافق الذي أنجى سفينة تونس من الغرق، وخاطب الجمهور بحسٍّ وطني بالمؤتمر قائلاً: “إننا يمكن أن نخسر الحكم، لكن ستربح تونس، وأن تونس أعز علينا من أنفسنا ومن حزبنا..”، وحول مرجعية حزبه قالها بوضوح “هو حزبٌ ديمقراطي وطني متفرِّغ للعمل السياسي بمرجعية وطنية تنهل من قيم الإسلام، ملتزم بمقتضيات الدستور وروح العصر، مكرِّس بذلك التمايز الواضح والقاطع بين المسلمين الديمقراطيين وتيارات التشدّد والعنف التي تنسب نفسها إلى الإسلام والإسلام منها براء..”، إذن التفرُّغ للعمل السياسي دون غيره له دلالة في فك الارتباط الوظيفي بين ما هو سياسي وما هو دعوي، وفي تبني القيم النبيلة للديمقراطية القائمة على حقوق الإنسان وحكم الشعب في ظل الدستور ومع الحداثة الإيجابية وضد التطرف والفكر التكفيري الداعشي، هذا الفكر الذي بالتأكيد سيصعِّد من لهجته ضد الشيخ راشد بعد خياراته الأخيرة التي مدَّ فيها الجسور مع العلمانية الراشدة وبعد ما قول في خطابه “إننا حريصون على النأي بالدين عن المعارك السياسية، وندعو إلى التحييد الكامل للمساجد عن الخصومات السياسية والتوظيف الحزبي، لتكون مُجمِعة لا مفرِّقة..”.

 والحال هذه: ماذا يفعل تجارُ الدين لو سُحبت منهم المنابر؟ وكيف يصفُّون حساباتهم مع خصومهم السياسيين والمثقفين باسم الدين؟ بل إن الغنوشي نفسه لا يسلم من هذه المنابر وبالخصوص ما يتعلق بالمرأة في خطابه، حيث يقول: “إني أؤكد أن حركتنا معتزة بما نالته المرأة من مكاسب وحقوق، ماضون في تدعيمها حتى نضمن المزيد من الحرية والرقي للمرأة…”، فرغم ما حققته المرأة من مكاسب في عهد ما قبل الثورة وقد كان محل اعتراض الحركات الدينية وبعض الشيوخ، إلا أن الغنوشي يعِد بالمزيد، وهذه قضية تحتاج إلى نقاش وبالخصوص أن تونس والمجتمعات العربية والإسلامية غير متجانسة وليست ذات مشروع ومرجعية واحدة.

لقد ختم الشيخ الغنوشي خطابه بعبارة لا يمكن أن تمرَّ علينا بسهولة، وهي الشعار الذي حمله الرئيس الأمريكي خلال حملته الانتخابية التي مكَّنته من دخول البيت الأبيض “عندي حلم” فالغنوشي يقول: “الحلم التونسي هو الذي يحفِّزنا على العمل والكدّ والبذل وتحويل الثورة إلى ثروة”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
8
  • بدون اسم

    كلهم منافقون لم يستطيعوا الوصول الى الحكم باسم الدين يريدون ان يصلوا بفصله يغيرون المبادء كتغييرهم للجوارب الغاية تبرر الوسيلة

  • AZIZ

    وكأني اراك ضد الخلافة ومن اتباع فصل الدين عن الدولة ياعدة؟؟!!حينما يعرف الانسان انك كنت نائبا باسم النهضة وحينما يعرف انك كنت مستشارا لوزير الشؤون الدينية حينها يعرف عمق الازمة التي تتخبط فيها الامة الاسلامية ويعرف مافعله الكيان السعودي بالاسلام والمسلمين

  • بدون اسم

    هل تسمي التساوي في الميراث واتخاذ الخلان مكاسب

  • MORAD

    لقد فهم الغنوشي بان الإرث الحضاري العربي قد انتهى، و أن العلمنة مطلب إصلاحي تنبع من حاجة إسلامية ماسة للتجدد والاستئناف الحضاري، نتمنى له التوفيق .

  • بدون اسم

    يا فلاخخخي خليك من الترويج للبضاعة الكاسدة .الغنوشي فاشل .سلم الله الشقيقة تونس من شر الاخوان المفلسين في السياسة والدين .والله انهم مراهقين سياسيا وانت تراهم رجال .ماشفت والو...خليك مع البطاطا هههههه

  • صالح

    المرة القادمة ياسي عدة بين لنا توجهك انتهت النهضة كما انتهت حمس وستصبح هي تزور مع السبسي وسترى ذلك

  • Omar

    للإيضاح الغنوشي تربى على يد الدعاة في الجزائر و للأسف اصبح لا يعطي لها بال. اما ذكر تجربة القيس بالفاشلة فهذه اتهام من جاهل بما وقع تحديدا . السؤال الذي اطرحه هل الغنوشي اصبح منظر للجزائر فعندنا و مازال من هو اعلم من الغنوشي . بالنسبة لي التونسي يبقى تونسي و الجزائري يبقى جزائري و الفاهم يفهم

  • بدون اسم

    النبي صلى الله عليه وسلم هو من اخبر ان الامة ستفترق والناجية واحدة ...وصفات الطائفة الناجية موجودة في كتب العقائد لائمة الاسلام السابقين من المالكية او الشافعية او الحنابلة .اين الامانة العلمية يافلاحي المتماحي نعم انت تمحو نفسك بنفسك .