-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشيخ مصطفى بن حرز الله.. الإمام القدوة

الشيخ مصطفى بن حرز الله.. الإمام القدوة

اقترن شطرٌ معتبر من عمر الشيخ الفقيد مصطفى بن حرز الله المبارك بتاريخ المسجد العتيق بمدينة باتنة. وبذلك قاسمه شيئا من مجده وسؤدده بعد أن تحمّل كفلا معتبرا من أحمال مسيرته الرائدة في جوانبها الدينية والتربوية والإصلاحية والتوعوية.

يستكمل المسجد العتيق بمدينة باتنة الذي تفوح من أركانه رائحة التاريخ العبق، والذي يُسمَّى حاليا بمسجد الشيخ الطاهر مسعوداني، يستكمل دورة قرن كامل من الزمن بالتقويم الميلادي، فقد أنشئ سنة 1923م في ظروف عصيبة امتزج فيها القهر مع التضييق اللذين مارستهما الإدارة الفرنسية ضد الجزائريين رغبة منها في سلبهم أغلى ما يملكون من مقوّمات تتمثل في دينهم ولغتهم إثر بسط يديها القذرتين على أرضهم، والسطو على خيراتها سطوا جشعا، وأذاقتهم كل صنوف الفقر والحرمان.

كان مبنى المسجد العتيق بباتنة في أصله مخمرة يمتلكها يهوديّ. ولما أشاع مالكُه بيعَه، اقترب منه المحسن إبراهيم فاضلي، وهو من رجال الوجاهة والمال وقتئذ، واشتراه منه. وخوفا من تراجع البائع إن كشف ما ينوي القيام به، تحايل عليه، وتظاهر أمامه عن نيته في إبقاء المحل مخمرة أو تحويله إلى مقهى. وبمجرد أن تمت عملية البيع، ووثقت أوراقها، أعلن أن مسجدا سيقام في المكان. وشرع في تهيئته، وبدأ رواده في التزايد يوما بعد يوم خاصة وأن مسجد حي الزمالة الذي سبقه في الوجود قد تهدم، والتصق سقفه بالأرض، وأمسى أثرا بعد عين عقب الزلزال العنيف الذي دك مدينة باتنة قبيل افتتاح المسجد الجديد.

من أجل أن يساهم هذا المسجد في الحياة التعليمية لأبناء مدينة باتنة، تشكلت فيه ثلاثة كتاتيب قرآنية تتقدم واجهته. وقد ضمت لاحقا إلى قاعة الصلاة السفلى. وأما توسيعه فلم يحصل إلا في فترة الاستقلال.

في وقت قصير، أصبحت هذه المؤسسة الدينية منارة ذات سراج منير وقلعة مشعّة في إحداث الاستفاقة النهضوية الإصلاحية التي شهدتها مدينة باتنة. وأصبحت معلما تنويريا يلوذ به كل المواطنين، وموئل اجتماع الوطنيين الذين شغلتهم هموم القضية الوطنية، وخاصة السائرين في ركب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بعد تأسيسها، والمقتنعين بتوجهاتها.

بدأ المسجد مسيرته مع الشيخ مولود صالحي الزريبي الذي قدِم إليه من زاوية الحجاج (زاوية آل ابن عزة القريبة من مدينة آريس) التي اشتغل فيها مربّيا. وبعد رحيله، استخلفه الشيخ الطاهر مسعودان الحركاتي، وهو أحد رجال الصف الثاني الأقوياء في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان صوته مسموعا وكلمته خارقة كسنان الرمح ونافذة كأشعة النبراس في ظلمة الليل الحالك، لا تُرد، وقلّما يعقب عليها. وكان جياش العاطفة إذا اعتلى المنبر، أو وقف خطيبا في جموع الناس. ولم يكن يخفي ميوله السياسية أمام مناوئيه من أصحاب القناعات التي تخالفه. ولا يتوقف عن منافستهم ومعاركتهم. وفي فترة الثورة التحريرية، أتعبته الإدارة الفرنسية، وفرضت عليه الإقامة الجبرية، وضعته تحت مجهر عينيها لتتبع كل حركاته وسكناته، وإحصاء حتى شهيق وزفير أنفاسه. ولما التحق الشيخ الطاهر مسعودان بالرفيق الأعلى في سنة 1974م، عوضه الشيخ الإمام محمد الصالح زموري الأوراسي الذي كان يتولى منصب الإمامة في مسجد ابن خلدون بمدينة قالمة، وهو المسجد الذي شيِّد في خمسينيات القرن التاسع عشر. وفي الطور الرابع من مسيرة هذا المسجد، حل به الشيخ الإمام مصطفى بن حرز الله.

ينتسب الشيخ مصطفى بن حرز الله إلى عرش الخذران، وهو أحد أعراش منطقة الأوراس التي استوطنت ناحيته الجنوبية الغربية ذات السهول السهبية الواسعة. وقبل قانون 1863م الفرنسي الذي أعاد تشكيل خريطة الأعراش في الجزائر وتوزعها، كان عرش الخذران يشكِّل مع أعراش أخرى تكتلا بشريا تحت مظلة اسم: “الأخضر حلفاوية”. وولد لأبويه علاّوة والسيدة رقية بنت الشيخ محمد بن حرز الله في الحادي عشر من شهر فيفري 1944م بإحدى المداشر القريبة من بلدة سقانة حاليا. ولم تكن أسرته ميسورة الحال، وإنما كانت تعيش حياة صعبة معتمدة على موارد زراعية بسيطة تكاد لا تكفي لتلبية حاجاتها الضرورية. وهو طفلٌ صغير، فقد والدته بسبب الجوائح التي انتشرت في تلك السنوات بسبب المجاعة من باب الاحتمال. ولم يجد من يكفله ويخفف عنه آلام اليتم سوى عمته مريم التي انتشلته من الضياع، ورأفت به، وعوضته حنان أمه المفقود.

بعد بلوغه ست سنوات من العمر، دُفع به إلى الكتّاب القرآني الذي اجتهد أهل الدشرة في تأسيسه بعد أن جلبوا له مؤدِّبا جلس فيه لتعليم أبنائهم ذكورا وإناثا. ورغم النفور الحاصل بين الشيخ وطلبته نظرا لطريقته التي تبالغ في العقاب الشديد بالضرب المبرّح على أخمصي قدمي كل من يُظهر تثاقلا في الحفظ أو تأخرا فيه، إلا أن التلميذ المواظب والنبيه مصطفى الذي رُزق ذاكرة قوية تمكن من استظهار القرآن الكريم كاملا بعد أن قارب عمره أربعة عشر سنة.

لما انطلقت الثورة التحريرية، انحاز الشيخ مصطفى إليها، وكُلف بتلقين الصبيان آيات القرآن الكريم من طرف قاضي الثورة في الناحية التي يسكنها. ومن المعروف أن النظام التعليمي أثناء الثورة كان يتبع فرع القضاء. وكان قضاة الثورة هم من يشرفون على تنظيم التعليم وتسطير برامجه ومتابعة تنفيذها وتفقد المعلمين وتوجيههم ودفع الجراية “الأجرة” إليهم. وأرى أن هذه المزاوجة بين القضاء والتعليم في ثورتنا هي قضية تحتاج إلى بحث ينظر في أسبابها ويجيل البصر في إيجابياتها وفي سلبياتها على حد سواء. وفضلا عن ذلك، كان يتولى كتابة الرسائل والمناشير لمسؤولي الثورة.

انتسب الشيخ مصطفى في مطلع الاستقلال، وبعد استفادته من دورة تكوينية قصيرة إلى سلك التعليم. وقاسم المعلمين الطلائعيين شرف التصدي لتعليم أبناء الجزائر المستقلة في أيام حالكات سادت فيها ظروف قاهرة وقاسية. وأشرف لفترة قصيرة على تعليم كوكبة من المتعلمين في سقانة. ولما فتح معهد التعليم الأصلي بباتنة أبوابه، التحق به للاستزادة المعرفية وتحصين مكاسبه. إلا أن الفقر الذي كان والده يعاني منه وقلّة ذات اليد أرغماه على الانقطاع رغم بوادر التفوق والتقدم على زملائه في الدراسة خلال المدة القصيرة التي قضاها في معهده.

لما كان الشيخ مصطفى شغوفا بطرْق أبواب العلم، فإن عزيمته لم تضعف ولم تخبُ. وانعطف إلى التعلم الذاتي اعتمادا على قدراته الشخصية. واستطاع الالتحاق بسلك الأئمة بعد نجاحه في مسابقة الانتقاء في مطلع سبعينيات القرن الماضي. وعُيِّن إماما في مسجد سقانة العتيق. ووقف منتقدا البدع الخرافات التي تُقعد العقول عن التفكير السليم ومحاربا الانحرافات الاجتماعية الفردية والجماعية بأسلوبه الودي العفيف الذي يبتعد عن التجريح والمخاصمة. واستطاع القضاء على عادات باطلة كالزرد بعد تنوير عقول أبناء مجتمعه، وتخليص عقيدتهم من الشوائب التي تدنّسها. وصبر في هذه المعركة الإصلاحية التي قاوم فيها مناوئين جهلة صبر المحتسبين المحسنين.

بعد سنوات، انتُدب للاستفادة من دورة تكوينية بمعهد تكوين الأئمة بمدينة سيدي عقبة الذي كان يشرف عليه الشيخ المجاهد الثابت عمر دردور. ووجد في رحاب هذا المعهد الفرصة التي كان ينتظرها، وغرف من أساتذته الأزهريين علما جمّا نافعا، وأخذ منهم ثروة علمية لا تقدر بثمن نمّت ذخيرته السابقة وصقلتها حتى أصبح يجلس في الجموع للإفتاء وإجابة السائلين في أمور دينهم ودنياهم.

في سنة 1986م، وقعت عين اللجنة الدينية للمسجد العتيق لمدينة باتنة عليه بعد شغور منصب الإمامة به، فسعت سعيا موفقا إلى جلبه ليتولى أمر الصعود على منبره إماما خطيبا. ولم يكن هذا الاختيار عشوائيا، وإنما كانت تقف وراءه فكرة المحافظة على وتيرة السير التي دأب عليها هذا المسجد من حيث الاستقرار باعتباره مسجدا جامعا. وبفضل رزانته وهدوئه وثقته بنفسه، تمكّن الشيخ مصطفى بن حرز الله أن يحافظ على كل التقاليد الجميلة في هذه المؤسسة الدينية العريقة، وأن يضيف إليها من لوازم المحاسن ما جعله يجتاز المرحلة الصعبة التي مرت بها الجزائر من دون اهتزازات صاخبة أو رجات عنيفة. واستطاع أن يكون رُبّانا حكيما يقاوم المياه اللجية العنيفة بمجاديف الحكمة والتبصر والتعقل، وأن يحفظ لبيت الله حرمته وقداسته، وأن يجمع كلمة من يقفون خلفه للصلاة.

عاش الشيخ مصطفى بن حرز الله في مدينة باتنة عيشة هنيّة مَرضية، وغدا محبوبا كشجرة الياسمين العطرية حتى أصبح واحدا من وجوهها المحترمين وكبرائها المبجلين الذين يتقدمون الصفوف ويترأسون المجالس. واستطاع بأخلاقه أن يكون قريبا من كل سكانها، وأن يكسب قلوبهم في طراوة ونُدُوّة، وأن يجعلهم يحتضنون احترامه طواعية بفضل شخصيته المتوازنة وسلوكه المستقيم. ولم يتأخر عن مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، والرد على دعواتهم. ومن مبتكراته التعليمية التي ستظل تثقل ميزان حسناته تحفيظه الأميين القرآن الكريم سماعا عن طريق إدراك أصوات كلمات الآيات والسّور في حلقات تلتئم بين صلاتي المغرب والعشاء.

عُيِّن إماما في مسجد سقانة العتيق. ووقف منتقدا البدع الخرافات التي تُقعد العقول عن التفكير السليم ومحاربا الانحرافات الاجتماعية الفردية والجماعية بأسلوبه الودي العفيف الذي يبتعد عن التجريح والمخاصمة. واستطاع القضاء على عادات باطلة كالزرد بعد تنوير عقول أبناء مجتمعه، وتخليص عقيدتهم من الشوائب التي تدنّسها. وصبر في هذه المعركة الإصلاحية التي قاوم فيها مناوئين جهلة صبر المحتسبين المحسنين.

من بصماته الأخرى التي ستظل شاهدة على مساهماته الخيرية مشاركته في تأسيس المدرسة القرآنية ذات النظام الداخلي التي تتبع المسجد العتيق. وهي المدرسة التي اضطلع بتسييرها في بداية انطلاقتها الشيخ محمد عبد القادر العوبي، رحمه الله. وكان لهذه المدرسة فضل تعبيد شطر الطريق أمام طلبتها الذين فتحت أمامهم أبواب مواصلة دراساتهم في المعاهد التي تختص في تكوين إطارات الشؤون الدينية في مختلف المستويات.

كان الشيخ مصطفى مقصودا من طرف من يطلبون الفتوى لشدة اعتداله ورجاحة فكره في ترجيح الآراء والميل إلى التيسير ودفع المشاق الجالبة للتنفير والتزامه بالرزانة ورباطة الجأش والصبر في مخاطبة ومناقشة السائلين، ولتقيده بالمذهب المالكي الذي سار على دربه الأجداد السابقون في هذه الديار.

أصيب الشيخ مصطفى بن حرز الله في أواخر عمره بداء التليُّف الكبدي، وهو داءٌ كامن خبيث، ولا يفصح عن تهديداته ولا تظهر أعراضه إلا بعد أن يستشري ويستولي على الكبد، ملكة الغدد في جسم الإنسان، ويعطل الكثير من الوظائف الحيوية التي يسيطر عليها. وهذا هو السبب الذي يعسر علاجه، ويُبعد الشفاء منه والنجاة من أضراره. ولما استفحل الداء الذي أتعبه، فرض عليه المكوث في الفراش تحت رعاية تمريضية ضمنها له أنجاله الصالحون. وبقي يقاوم في صبر حتى أعاد أمانة الروح إلى بارئها في صبيحة اليوم الخامس من أوت الماضي، وسار إلى عفو مولاه راضيا مغتبطا.

من بصماته الأخرى التي ستظل شاهدة على مساهماته الخيرية مشاركته في تأسيس المدرسة القرآنية ذات النظام الداخلي التي تتبع المسجد العتيق. وهي المدرسة التي اضطلع بتسييرها في بداية انطلاقتها الشيخ محمد عبد القادر العوبي، رحمه الله. وكان لهذه المدرسة فضل تعبيد شطر الطريق أمام طلبتها الذين فتحت أمامهم أبواب مواصلة دراساتهم في المعاهد التي تختص في تكوين إطارات الشؤون الدينية في مختلف المستويات.

أخذت التأبينية التي أقيمت للشيخ مصطفى بن حرز الله في المسجد العتيق مظهر درس وعظي عنى بإبراز دور العلماء العاملين في المجتمع، ولم يجر فيها التعرض التفصيلي إلى سيرة حياته ومناقبه ومآثره حتى يعرفه مشيعوه الذين يحملون له المحبة في قلوبهم والذكر الحسن في ذاكراتهم.

لم يسر الشيخ مصطفى بن حرز الله أشواطا بعيدة في مسار تعلماته المتقطعة، ولم يكن من أصحاب الشهادات الجامعة العليا، ولم يمض في طريق التزلف والتكلف والتقرب على حساب سمعته كما هو ديدنُ بعض من نظرائه، ومع ذلك استطاع أن يتزين بارتداء كساء الإمام القدوة المزخرف بنقوش الاستحقاق. وكم تحتاج هذه المفارقة إلى قوة إبصار ومقاربة تشريح وتفكيك حتى تقتبس منها العبرة.

رحم الله الشيخ الجليل مصطفى بن حرز الله بواسع رحماته، ورفع درجه في عليّين، وأعظم أجره، وجزاه خيرا عميما عن سكان مدينة باتنة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!