-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الصحافة بين الإثارة والمسؤولية الاجتماعية

محمد قيراط
  • 3819
  • 1
الصحافة بين الإثارة والمسؤولية الاجتماعية

شهدت السنوات الأخيرة انحرافا كبيرا لوسائل الإعلام عن مسارها الحقيقي، وعن رسالتها المجتمعية، وعن مسؤوليتها الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى انتشار فضائيات العار، وصحافة الدكاكين وفضائيات خدش الحياء وانجراف قيمي وأخلاقي لا مثيل له. فبدلا من نشر القيم وخدمة النسيج الأخلاقي والاجتماعي نرى مثل هذه المؤسسات الإعلامية تهدم كل ما له علاقة بالمقومات والأسس التي يقوم عليها المجتمع.

ينعم الصحافي في أي مجتمع بمكانة مرموقة واستراتيجية يحسد عليها بحيث يستطيع أن يصل إلى الرأي العام بكل سهولة وبسرعة فائقة، كما يستطيع أن يصل إلى صاحب القرار ومصدر الخبر وأي إدارة أو مؤسسة في المجتمع بدون عناء، هذه الامتيازات تقابلها مسؤولية كبيرة يجب أن يتحلى بها القائم بالاتصال ويضع في ذهنه أنه مسؤول على كشف الحقائق ومحاربة الفساد وتقديم الحقيقة لا غير بدون تلاعب واستغلال وابتزاز لخدمة طرف على حساب طرف آخر. تبرز أهمية المؤسسة الإعلامية ومسؤوليتها الاجتماعية في الدول النامية أكثر من أي مجتمع آخر، وهذا نظرا للدور الاستراتيجي والفعال التي تلعبه وسائل الاتصال الجماهيري في مجتمعات بحاجة إلى تعليم وتوعية صحية وبيئية وسياسية وغيرها من المهام الرئيسية لتحقيق التنمية الشاملة والخروج من التخلف والفقر والجهل وغير ذلك من المشاكل العديدة والمتنوعة في مثل هذه الدول.

ظهور وانتشار الصحافة الصفراء في الدول النامية لا مبرر له سوى أنه تقليد أعمى للغرب ومتاجرة بشرف المهنة وأهدافها النبيلة. ومع الأسف الشديد انتشرت الظاهرة وتوغلت في أوساط المجتمعات النامية بحجة أن الجمهور حر في اختيار ما يتفق مع أذواقه وحاجاته. وهكذا نلاحظ انتشار صحافة همها الوحيد هو تحقيق الربح عن طريق كشف الفضائح وأخبار الجنس والجريمة وأخبار المشاهير والنجوم محليا ودوليا. ففي الوقت الذي ينتظر فيه المجتمع من المؤسسة الإعلامية بأن تقوم بدور إستراتيجي وفعال في المجتمع يفاجأ بانتشار صحافة تستمد مقوماتها وقيمها من مجتمعات وأوساط غريبة عجيبة بعيدة كل البعد عن المجتمع العربي الإسلامي. 

العبارة التي أصبحت متداولة في أوساط أصحاب صحافة الدكاكين وتجار صحافة الإثارة والفضائح هي “الجمهور يريد هذا النوع من الصحافة” وهذا انطلاقا من مبدأ احترام أذواق الجمهور وما يريده. المغالطة الكبيرة هنا هي أن وسائل الإعلام هي التي تصقل أذواق الجمهور واحتياجاته وليس العكس.

فالجمهور أو المستقبل عندما يتعود على سلعة إعلامية معينة فإنه يتبناها ويدمنها ويحبها مع مرور الزمن. فإذا عودنا الجمهور على مادة إعلامية محترمة، هادفة تسهم في تكوينه وتكوين شخصيته وتساعد على تطوير ثقافته السياسية وثقافته العامة فهذا الجمهور يصبح يبحث عن الصحافة الجادة والصحافة الهادفة، أما إذا هربنا من المسؤولية الاجتماعية للصحافة وهربنا من مسؤوليتنا كصحافة هادفة وفعالة في المجتمع وذهبنا نبحث عن غرائز المراهقين وإثارة شعورهم وعاطفتهم وأحاسيسهم في هذه الحالة نعتبر أنفسنا أننا غرسنا قيما وعادات في الجمهور وحولناه من جمهور فاعل هادف إلى جمهور يبحث عن أخبار الجنس والإثارة والفضائح وأخبار النجوم إلى غير ذلك.

هنا نتساءل ما هي القيم الخبرية التي تقدمها الصحافة الصفراء، وما هي الأهداف التي تصبو إلى تحقيقها؟ اليقين هنا أن الهدف الأول والأخير للصحافة الصفراء وصحافة الإثارة هو زيادة المبيعات لرفع سعر الإعلان وبذلك زيادة الأرباح أما غير ذلك فهو مجرد وسيلة للوصول إلى الهدف. ومن هنا نرى أن الصحافة الصفراء هي دخيلة على مجتمعاتنا وقيمنا وأخلاقنا وآدابنا وعاداتنا وتقاليدنا. والغريب في الأمر أن أصحاب هذا الاتجاه أو مؤيدي صحافة الدكاكين يصرون على أهميتها في المجتمع وأن الجمهور حر في اختيار ما يشاء، والمنظومة الإعلامية من واجبها تقديم له ما لذ وطاب من المادة الإعلامية بمختلف اتجاهاتها وأشكالها وأنواعها. فالحزب السياسي الذي يملك أكثر من سبع جرائد ودوريات يعني أنه تحول من العمل السياسي إلى المتاجرة بالصحافة الصفراء وصحافة الإثارة، وعندما تتكلم مع مسؤول الحزب يرد عليك بكل اعتزاز أن هذه هي حرية الصحافة، وحرية الصحافة بالنسبة له هي المتاجرة بالمهنة النبيلة والمتاجرة بأخبار الجنس والإثارة والجرائم والفضائح.. الخ. وذهبت أحزاب أخرى تتاجر بالصحافة الصفراء وتتبنى ما يسمى بالثقافة الجنسية كمبدأ أساسي من مبادئها وتستعمل الصحافة كوسيط لنشر هذه الثقافة والحصول على الأموال الطائلة.

السؤال الذي نطرحه هنا ونحن نستعرض ظاهرة خطيرة تمس مؤسسة استراتيجية في المجتمع وتمس طاقة هامة جدا من الطاقات المتوفرة في المجتمع والتي بإمكانها أن تساهم في عملية التنمية الشاملة وحل العديد من مشاكل الأمة، وهو كيف نضع حدا لهذا التسيب ولهذا الانحراف ونضع المؤسسة الإعلامية في طريقها الصحيح؟ تستوقفنا هنا ثلاث مؤسسات رئيسية تتمثل في وزارة الإعلام والمجلس الأعلى للإعلام ونقابة الصحافيين. هذه المؤسسات الثلاث كل من جهتها مطالبة بحماية المهنة من المتطفلين والتجار والانتهازيين الذين يستعملون الصحافة للابتزاز والفضائح والجنس والتشهير وخدش الحياء. المجتمع المدني بإمكانه كذلك مراقبة ما تقدمه هذه الصحافة الصفراء للمجتمع ومن خلال الآليات المختلفة يستطيع أن يضغط على المشرع والجهات المعنية لوضع حد للتجاوزات وابتزاز المهنة من أجل تحقيق مصالح ضيقة على حساب المصلحة العامة وقيم ومبادئ المجتمع.

المؤسسات السالفة الذكر، وكل حسب اختصاصها، بإمكانها أن تحدد الحقوق والواجبات ومسؤولية كل واحد. كما بإمكانها إقصاء كل غريب ودخيل على المهنة، وهذا في حدود القانون المعمول به وفي حدود ميثاق أخلاقيات المهنة وفي حدود الأعراف والعادات والتقاليد والقيم والأخلاق المتداولة في المجتمع. نحن هنا لا ندعو للرقابة والتدخل السافر في عمل المؤسسة الإعلامية وإنما الدعوة هنا موجهة للضمير المهني وللضمير الأخلاقي. فكل صحافي في مجتمعاتنا العربية يجب أن يتساءل ويقول ماذا قدمت للمجتمع؟ ماذا قدمت للقارئ؟ وما هي الأخطاء والتجاوزات والأمراض الاجتماعية التي عرضتها على الرأي العام وصاحب القرار واُتخذت فيها إجراءات وقوانين وتشريعات لتصحيحها والقضاء عليها؟ مجتمعاتنا العربية بحاجة إلى صحافة ملتزمة نزيهة ومسؤولة، صحافة رأسمالها يكون الجمهور وربحها خدمة الجمهور وتحقيق التنمية الشاملة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
1
  • ammar

    و النفس راغبة ان رغبتها و ان تردها الى قليل تقنع