-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
ثاموغلي

الطبيبة الرائدة علجية بن علاڤ … وفضح الاستعمار

الطبيبة الرائدة علجية بن علاڤ … وفضح الاستعمار

أصدرت الطبيبة الجزائرية الرائدة علجية نور الدين بن علاڤ، مذكراتها بعنوان:

Le devoir d’espérance” سنة 2007م، عن دار القصبة، وشّحتها بمجموعة من الصور والوثائق التاريخية، زادتها أهمية في نظر الدارسين. ولا أخفي عليكم أنها فاجأتني مفاجأة سارة، بما ورد في الكتاب من معلومات تاريخية هامة حول سياسة التجهيل الفرنسية، المفروضة على الجزائريين المقهورين في عقر دارهم، إبان فترة الاحتلال، ووسمت الكاتبة هذه السياسة بسمة “التمييز المدرسي L’apartheid scolaire”. “واجب الأمل

كنت أتصور كتابها -قبل قراءته طبعا- أنه لن يخرج عن سياق التأريخ لمسارها المدرسي والجامعي وليس إلا. لكنني وجدته -بعد قراءته- أوسع من ذلك، إذ فوجئت بأهميته التاريخية، فهو سِِفر تاريخي رصدت صاحبته فيه بعض مظالم الاستعمار الفرنسي خاصة في مجال التعليم، كما أعطت لمحة عن سياسة التمييز العنصري المجسدة في قانون الأهالي (1881م)، الذي أطلق أيدي الإدارة الفرنسية من أجل قتل روح المقاومة في قلوب الجزائريين. وترسخت هذه السياسة في أذهان المستوطنين طيلة سنوات الاحتلال.

 

نبذة عن نسبها وأهلها

تنتسب الطبيبة علجية نور الدين بن علاڤ، إلى النسب الشريف، فهي سليلة الأدارسة بمدينة فاس المغربية في أواخر القرن الثامن الميلادي. ومنها تفرع جدها سيدي أعمر اُويعقوب الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، وكان قد حل بمدينة تلمسان لبعض الوقت، لينتقل بعدها إلى بلاد الزواوة ، فاستقر بقرية آث يعقوب وبها دفن،أما أحفاده فقد توزعوا على قرى بلدية ثامازيرث بدائرة لربعها ناث يراثن، ولاية تيزي وزو. وكان أهلها من الجزائريين القلائل المحظوظين الذين حالفهم الحظ ، في الحصول على قدر من التربية والتعليم في المدارس الفرنسية الأولى، التي أنشأها الفرنسيون في بلاد الزواوة (القبائل).

ولد أبوها أعمر نور الدين بقرية آث حالي، سنة 1893م، وفي السن السادسة من عمره، التحق بمدرسة ثامازيرث التي كانت تبعد عن قريته ببعض الكيلومترات، وبموازاة التمدرس في المدرسة الرسمية، كان يتردد على كـُتاب القرية فتعلم مبادئ اللغة العربية، وحفظ ما تيّسر من القرآن على عادة المرابطين. وبعدها انتقل إلى مدينة الجزائر، أين واصل تعليمه في مدرسة ساروي SARROUY الشهيرة، والمخصصة للأهالي (INDIGENES) القاطنين بحي القصبة، ثم انتقل إلى دار المعلمين ببوزريعة، ومنها تخرج برتبة معلم الأهالي سنة 1912م. هذا وقد قضى والدها مساره المهني في أعماق الجزائر، فكان تعيينه الأول في مدرسة قرية ڤنزات بآث يعلى (ولاية سطيف)، ثم نقل إلى مدرسة عين بسام بولاية البويرة،ومنها إلى مدرسة المدية، لينتقل إلى مدرسة خميس مليانة سنة 1925م، ثم إلى مدرسة أربعطاش بمتيجة سنة 1927م، ليحط الرحال في الأخير بمدينة الجزائر.  

تزوج أعمر نور الدين سنة 1916م من ابنة قريته السيدة لويزة ياكر، المولودة سنة 1900م، وكان من حظها أن انتقل والدها  يزيد ياكر إلى مدينة الجزائر ليشتغل مترجما في محكمتها، وسكن بوسط العاصمة، شارع ديبيش في عمارة مأهولة بالأوروبيين، وأرسل ابنته لويزة إلى مدرسة دوردور القريبة من مقر سكناه.

 

مسار علجية نور الدين  المدرسي والمهني

ولدت علجية نور الدين في سنة 1919م بالمدية، حين كان والدها معلما هناك، و كان من حظها أن ولدت في كنف عائلة متعلمة، الأمر الذي مكنها من تحقيق المعجزة بالنسبة لجيلها، وهذا رغم سياسة التجهيل الاستعمارية، والعراقيل العديدة التي وضعها الفرنسيون أمام الجزائريين، كحرمانهم من المنح المدرسية، وتوقيف مسارهم المدرسي عند عتبة نهاية التعليم الابتدائي، ولم يشفع لعلجية وإخوانها كون والدها معلما، فحرمت من مزاولة تعليمها في المدارس المخصصة لأبناء الأوروبيين، ورغم المثبطات العديدة الناجمة عن السياسة العنصرية الفرنسية، فقد أكملت علجية مسارها المدرسي بالنجاح، فكانت أول فتاة جزائرية تتحصل على شهادة الدكتوراه في الطب، بعنوان: “الأعراض الصيفية الخطيرة لدى رضع مدينة الجزائر”، في شهر جانفي من سنة 1946م. وبعد أن أخذت قسطا من الراحة بقرية ثامازيرث الهادئة بمنطقة القبائل، فتحت عيادتها بشق الأنفس- لكونها جزائرية مسلمة- في شارع طنجة رقم 18، الطابق الثالث، وذلك يوم 28 سبتمبر 1946، وتميز جدول توقيت عملها بالكثافة، بحيث خصصت الفترة الصباحية لزيارة المرضى في منازلهم، ومتابعة البعض منهم الذين وجهتهم إلى مصالح المستشفيات، وتخصيص زيارتين لمصحة “دار العسكري”. أما الفترة المسائية فخصصتها لفتح عيادتها. ومكنها تنقلها في الأحياء الشعبية من الاطلاع عن كثب على بؤس الجزائريين، الأمر الذي أقنعها بوجوب بذل مساعيها للتخفيف من آلام إخوانها في إطار الأعمال التطوعية الموجهة لفائدة فئات اجتماعية كثيرة.

 

صور عن التمييز العنصري الفرنسي

لم تفوت الطبيبة علجية نور الدين بن علاڤ، الفرصة لتقديم صور تجسد سياسة التمييز العنصري، التي عانى الجزائريون من ويلاتها وهم في عقر دارهم. ومن هذه الصور، رفضُ الإدارة الفرنسية سنة 1928 طلب والدها المعلم الراغب في مواصلة دراسة الفلسفة بالجامعة الجزائرية، لا لشيء سوى لأنه جزائري مسلم (indigène).

وعندما انتقلت عائلتها إلى سكن محترم بأعالي مدينة الجزائر سنة 1936، عكّر أحد الفرنسيين صفو هذه العائلة بتهديداته المتواصلة لها، لأنه لا يريد أن يرى “بيكو” (لقب تحقيري يطلق على الجزائريين) بجنب منزله! وذكرت علجية أيضا أنها تعرضت لمعاملة عنصرية، أثناء الحرب العالمية الثانية، عندما قصدت البلدية بصفتها طالبة في الجامعة، وقدمت بطاقة التقسيط للموظفة، قصد الحصول على تذكرة لشراء الحذاء، فخاطبتها الموظفة السيدة فيدال بسخرية قائلة لها: “إنك جزائرية مسلمة، وعليه ليس لك الحق في الحصول على التذكرة لشراء الحذاء، بل لك الحق في شراء الحايك (الحجاب)”! هذا غيض من فيض، ممّا ذكرته الكاتبة عن المعاملة العنصرية التي عانى منها الجزائريون أيام الاحتلال الفرنسي.

 

علاقتها بالحركة الوطنية

لا شك أن ما عانته علجية نور الدين من ويلات العنصرية الفرنسية، قد لعب دورا ما في إيقاظ وعيها الوطني، ولم تزدها تلك المعاناة إلا إصرارا للتشبث بهُويتها الجزائرية الإسلامية، وتجسد ذلك بالخصوص في اقترابها من الحركة الوطنية الجزائرية. في هذا السياق حاولت أثناء انتفاضة 8 ماي 1945، بمعية زملائها في جمعية الطلبة المسلمين الجزائريين، تقديم يد المساعدة لضحايا هذه الأحداث في الشرق الجزائري، وفوّضها زملاؤها للاتصال بالقنصليتين الأمريكية والبريطانية، قصد الحصول على سيارة إسعاف، لكنها رجعت خائبة، وقد جلب لها هذا الموقف الوطني سخط الطلبة اليهود الذين فكروا في الاعتداء عليها في مستشفى مصطفى باشا لولا لطف الله.

وناضلت في إطار حزب الشعب الجزائري، من أجل ترقية المرأة الجزائرية، فساهمت مع غيرها من النسوة (خاصة نفيسة حمود، وفاطمة زكال) في تأسيس الخلية الأولى للمرأة الجزائرية برعاية حزب الشعب. كما اختيرت علجية لتكون ضمن الوفد الذي استقبل الزعيم مصالي الحاج في حي بوزريعة، بعد عودته من منفاه في برازافيل بالكونڤو، في مطلع شهر أكتوبر 1946م. 

ونشطت أيضا في إطار المجتمع المدني، فقدمت الدعم والمساعدة في مجال الرعاية الصحية، لإخوانها الجزائريين، ونسقت جهودها مع الكشافة الإسلامية التي كانت متواجدة بقوة في الساحة، من أجل الوصول إلى العائلات الفقيرة. كما شاركت أيضا في تأسيس لجنة المساندة للطالب المسلم، بهدف تقديم المساعدة للطلبة الجزائريين في فرنسا والجزائر. ورأت هذه اللجنة النور في شهر جانفي 1947، وتشكل مكتبها على النحو التالي: الطبيب قاض رئيسا، الأستاذ حاج صدوق، والطبيبة علجية نزر الدين نائبان للرئيس، الشيخ مزيان أمينا عاما، والأستاذ زيدي أمين المال. واستطاعت هذه اللجنة أن تجمع تبرعات مالية معتبرة عن طريق أحد مناضلي حزب الشعب الذي كانت له صلة بالعديد من المحسنين.

 

زواجها

تعرفت علجية نور الدين على الشخص الذي صار زوجا لها (وهو عبد الكريم بن علاڤ) عن الطريق الصدفة، عندما قصدت صيدلية شارع الشارت Rue de Chartres بالجزائر لاقتناء الدواء لعيادتها، التي وظف بها بعد إكمال دراسته في الصيدلة، وكان ذلك في شهر سبتمبر سنة 1946، ثم زفت إلى زوجها يوم الاثنين أول ديسمبر سنة 1947، وعقب ذلك يممت وجهتها شطر الصحراء الجزائرية، لقضاء شهر العسل في بوسعادة، وبسكرة وتوڤرت.

وفي شهر جانفي 1948، حصل زوجها عبد الكريم على رخصة من وزارة الصحة الفرنسية، مكنته من فتح صيدلية بشارع مارنڤو (شارع عرباجي حاليا) قرب القصبة، وصارت معلما لهذا الشارع، الذي كان يشكل نقطة التلاقي بين الفرنسيين والجزائريين أيام الاحتلال.

 

إدراجها في القائمة السوداء

وبعد اندلاع ثورة نوفمبر، بأشهر، تناهى إلى سمع علجية بن علاڤ، أن اسمها واسم زوجها مدرجان في القائمة السوداء التي وضعها المعمرون للقضاء على المثقفين الجزائريين، وعلى اثر ذلك اضطرت عائلتها الصغيرة إلى الهجرة إلى مرسيليا  بنية قضاء بعض أشهر فقط، لكن غربتها دامت إلى سنة 1962.

هذا وقد خصصت الكاتبة قسما هاما من الكتاب لنشاطها بعد الاستقلال لا يتسع المجال لذكره، واكتفيت بالإشارة إلى الجوانب التي ألقت الضوء معاناة الجزائريين أثناء الاحتلال. ولا شك أن الكتاب يعد شهادة حية عن سياسة التمييز العنصري الفرنسي، تنضاف إلى الأدلة الدامغة التي تصب في وعاء الوطنيين الداعين إلى تجريم هذا الاستعمار الغاشم.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!