-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العقلانية الإسلامية وإبداع التوازن في العلاقة بين العقل والوحي

ناصر حمدادوش
  • 882
  • 0
العقلانية الإسلامية وإبداع التوازن في العلاقة بين العقل والوحي

لا يوجد دينٌ جمع في توازنٍ بديعٍ بين العقل والنَّص مثل الإسلام، إذ أنَّ استقراءَ نصوص مصادره: القرآن الكريم والسُّنة النبوية يطلعنا على هذا التأسيس والدَّفع باتجاه هذه العقلانية الإسلامية.

مع أنَّ العقلانية لا تزال محلَّ تجاذبٍ وجدلٍ في المفهوم والماهية والدلالة بين المفكرين والفلاسفة قديمًا وحديثًا في معرفة حقيقة العقل وحدوده، وهو جدلٌ لا طائل منه، ما نقَل تركيز البحث من تفسير العقل على أنه جوهرٌ وجوديٌّ فريدٌ إلى تفسيره كقوَّةٍ مدركةٍ ومنتجةٍ للمعرفة، فهو المخاطَب بالوحي الإلهي ليتحمَّله فهمًا وعِلمًا، ويستجيب له تطبيقًا وعملاً.

والعقل نعمةٌ إلهيةٌ للتمييز بين الحقِّ والباطل، وبين الخير والشَّر، وبين الخبيث والطيِّب، وبين النَّفع والضَّرِّ، وبين الحُسن والقبْح عبر واجب التأمُّل والتدبُّر والتفكير، وهو ما يجعل التطابق بين العقل والعلم والقلب واقِعًا، في قوله تعالى:”إنَّ في ذلك لآيةً لقومٍ يعلمون” (النمل:52)، وقوله: “إنَّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يعقلون” (الرَّعد:04)، وقوله: “أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها..” (الحج:46)، إلاَّ أنَّ هذا العقل لا يستقِلُّ بذلك لخاصِّية النِّسبية والقصور البشري فيه، وهو ما يجعله في حاجةٍ إلى هدايات الوحي، إذ أنه ليسَ وسيلةً للكشف المباشِر عن الحقِّ، إذْ يتَّبع منهجًا متدرِّجًا ومترابطًا بين المقدِّمات والنتائج وبين المعاليم والمجاهيل، ومع ذلك فإنَّ هذا التفكير العقلاني تحفُّه مخاطر غير عقلانية كالعَجَلة والأهواء والنَّزَعات والعادات والمُيول والتقاليد، وهو ما يوقِعه في الخطأ من حيث أنَّه وسيلةً لمعرفة الصَّواب.

والعقل مِن عَقَلَ الشيء: أي أدرَكه وأثبَتَه، وعَقَل المسألة، أي: فهمها، فهو غيرُ مستقلٍّ بذاته بل هو بحاجةٍ إلى غيره، ومنها: ارتباطه بالحواس، إذْ لولا الحواس لَمَا كانت هناك حركةٌ عقليةٌ ولا وجودٌ للتفكير، كما قال الله تعالى: “صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُون.” (البقرة:171)، وما كان بحاجةٍ إلى غيره فهو ناقصٌ، إذْ أنَّ قوَّتُه متوقِّفةٌ على غيره، وأيُّ خللٍ في أدواته ستؤثِّر حتمًا على حقيقةِ نتائجه، ناهيك عن محدودية هذه الحواس بظرفي الزَّمان والمكان، فالعين لها مجالٌ محدودٌ للرؤية، والأذُن لها مجالٌ ضيِّقٌ للسَّمع.. وهكذا.

وإذا كان هذا سبيل العقل في “عالم الشهادة” فهو في “عالَم الغيب” أعْجز وأضعف، وبالتالي لا يمكنه الاستقلال بمعرفة الحقِّ المطلق لوحده.

وبالرَّغم من الثقافة النَّصية التي يصطبغ بها الفكرُ الإسلامي، إلاَّ أنَّ هذا الوحي نفسَه أعطى أُفُقًا واسعًا لوظيفة العقل وحضوره، وبمسْحةٍ سريعةٍ نجد هذا الكمَّ الهائل من المساحة النصَّية التي تؤسِّس لهذه العقلانية الهادية والهادئة، بصيغةٍ تثير أعلى درجات الدهشة والإعجاب، بتوظيف صيغة الفعل المتحرِّك والمتجدِّد، مثل: “تعقلون”، “يعقلون”، “عَقَلُوه”، “يَعْقِلها”، “نَعْقِل” في 49 لفظةً في أكثر من 300 آية، مثل قوله تعالى: “.. وما يعقِلُها إلاَّ العالمون.” (العنكبوت:43)، وقوله: “لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ.” (الأنبياء:10)، وقوله: “كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.” (النور:61)، وأنَّ من أسباب مهالك الدُّنيا والآخرة هو انعدام هذه العقلانية في العلاقة بالله تعالى، كما قال سبحانه: “وقالوا لو كنَّا نسمع أو نعقل ما كنَّا في أصحاب السَّعير.” (المُلك:10).

وبإطلالةٍ خفيفةٍ على المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف، نجد تلك الاحتفائية الكبيرة بالعقل في مئات المواضِع التي تشرَّف بها هذا اللفظ بأنْ نطق به الفمُ الشريف لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

بالرَّغم من الثقافة النَّصية التي يصطبغ بها الفكرُ الإسلامي، إلاَّ أنَّ هذا الوحي نفسَه أعطى أُفُقًا واسعًا لوظيفة العقل وحضوره، وبمسْحةٍ سريعةٍ نجد هذا الكمَّ الهائل من المساحة النصَّية التي تؤسِّس لهذه العقلانية الهادية والهادئة، بصيغةٍ تثير أعلى درجات الدهشة والإعجاب، بتوظيف صيغة الفعل المتحرِّك والمتجدِّد، مثل: “تعقلون”، “يعقلون”، “عَقَلُوه”، “يَعْقِلها”، “نَعْقِل” في 49 لفظةً في أكثر من 300 آية.

ومن أشهر تلك الأحاديث في الحدِّ الفاصل بين المكلَّفين في ترتيب المسؤولية في قوله صلى الله عليه وسلَّم: “رُفِع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة..”، ومنهم: “وَعَن الْمَجْنُون حَتَّى يعقل.”، وهو قاعدةٌ من أهمِّ القواعد في الإسلام، يندرج تحتها زخَمٌ من الفوائد والأحكام.

وللعقل منزلةٌ محورية في التشريع الإسلامي، وهو معيارٌ في التصرُّف والفعل، ومن أهمِّ الكليات الخمس التي جاءت الشريعة الإسلامية للحفاظ عليها، كما يقول الإمام أبو حامد الغزالي -عليه رحمة الله (450هـ- 505هـ) في كتابه “المحصول في علم الأصول”: “ومقصود الشَّارع من الخَلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكلُّ ما يتضمَّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكلُّ ما يفوِّت هذه الأصول فهو مفسَدة..”، ولا شكَّ بأنَّ فوَات العقل هو فواتٌ للنفس والدِّين، إذ لا معنى لوجودهما بدونه، ومهما اختلف علماء المقاصد والأصول في ترتيب هذه الكليات الخمسة فلا شكَّ بأنها مترابطة ومتكاملة، وقد ذكر الإمام الشاطبي (توفي:790هـ) في كتابه “الموافقات” بأنَّ هذا الحِفظ يكون بأمرين: الأول بما يثبِّت أركانها ويحافظ على قواعدها، وذلك بمراعاتها من جِهة الوجود، والثاني بما يدرأ عنها الاختلالَ الواقع أو المتوقَّع، وذلك بمراعاتها من جهة العدَم، وحِفظ العقل كذلك:

– فحِفظ العقل من جِهة الوجود: يكون بصناعة العقلية العلمية للإنسان، وقد أبدع العلاَّمة الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه “العقل والعلم في القرآن الكريم” في إبراز معالم هذه الصناعة، ابتداءً من أنَّ العقلانية الإسلامية لا تقبل دعوى بلا دليلٍ أو برهان، ولَطالَما تردَّد هذا الصوتُ القرآني: “قل هاتُوا برهانكم إنْ كنتم صادقين.” (البقرة:111)، إلى تأسيس العقائد عن الله والكون والإنسان والحياة على رفض الظنِّ في موضع اليقين، كما قال تعالى: “وما لهم به من علم، إنْ يتَّبعون إلاَّ الظنَّ، وإنَّ الظنَّ لا يغني من الحقِّ شيئًا.” (النجم:28)، إلى عدم إتّباع الأهواء والعواطف في مجال العلم، كما قال تعالى عن المشركين: “إنْ يتَّبعون إلاَّ الظنَّ وما تهوَى الأنفس، ولقد جاءهم من ربِّهم الهدى.” (النجم:23)، إلى رفض الجمود والتقليد الأعمى للمتقدِّمين أو المتأخِّرين، كما قال تعالى: “وإذا قيل لهم اتَّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتَّبعُ ما ألفينا عليه آباءنا، أَوَ لو كان آباؤُهم لا يعقلون شيئًا ولا يهتدون.” (البقرة:170)، إلى ذمِّ التبعية العمياء للآخر من ذوي الجاه والسُّلطان الداخلي أو الخارجي، مثل قوله تعالى: “وقالوا ربَّنا إنَّا أطعنا سادتنا وكُبَرَاءنا فأضلُّونا السَّبيلا.” (الأحزاب:66) إلى التأكيد على التفكُّر والتدبُّر والتعبُّد بالنَّظر العقلي، مثل قوله تعالى: “قل انظروا ماذا في السموات والأرض، وما تغني الآياتُ والنُّذُر عن قومٍ لا يؤمنون.” (يونس:101).

– وحِفظ العقل من جهة العدَم: وذلك بتحريم كلِّ مُفْتِرٍ أو مُسكرٍ يغتال العقل ويعطِّل الوظيفة العقلية، فقد جاء فيما رواه الإمام أبو داوود في سننه عن أمِّ سلمة رضي الله عنها قالت: “نَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلِّ مُسْكِرٍ ومُفْتِر.”، وهو يشمل تحريم الخمر والتدخين والمخدِّرات وكلِّ المهلوسات.

ونظرًا لقابلية الإسلام لهذه العقلانية فقد كان للموروث العقلاني للحضارة الإسلامية -بهذه الخصوصية- رصيدٌ لا مثيل له في تاريخ البشرية كإبداعٍ للتاريخ، بل إنَّ أخصَّ مظاهر التمدُّن والحضارة هو: تجلِّيات العقلانية وفاعلية ظهور العقل في حياة الإنسان، وهو ما ترجمته “حضارة النصِّ” و”حضارة الرَّأي” في الإنتاج المعرفي للمسلمين، وذلك بحضور العقل في النَّص في تفسير القرآن وعلومه، وفي مناهج المحدثين في الحِفظ والتثبُّت والتدوين والتصنيف في شرح الحديث وعلومه، وفي لوحات الفنِّ والأدب وعلم الكلام، وفي الإنتاج العقلي الأصولي والفقهي في العبادات والمعاملات بمناهج الاستدلال والاستنباط، وفي العلوم الكونية والطبيعة وتجلّياتها في روائع الحضارية الإسلامية.                          وهذه العقلانية الإسلامية سابقةٌ عن العقلانية الغربية التي بزغت ملامحُها مع عصر النهضة والأنوار في القرن الـ16م فقط، كنقطةِ تحوُّلٍ كبرى في النظام المعرفي الغربي، إذ تعرَّفتْ على العقلانية كمفهومٍ تداوليٍّ في الفلسفة المعاصرة (الحداثة وما بعد الحداثة)، إلاَّ أنها لا تزال في صراعٍ عدمي بين العقل والوحي، وبين الدنيا والآخرة، وبين الجسد والرُّوح، وبين الشَّريعة والحياة، وبين الدِّين والدولة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!