-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العنف يخترق أسوار مدارسنا

العنف يخترق أسوار مدارسنا

يماثل المجتمع جسم الإنسان الحي في أزمان سلامته وفي لحظات إصاباته، ولذا فهو ليس بمنجاة من الأمراض الذي تدب في نسيجه كما يحصل مع أجسام البشر. والمرض هو خروج عن المعتاد وانحراف عن الحالة الطبيعية التي يفترض أن تستقر عليها الحياة إن تعلق الأمر بالفرد أو ارتبط بالمجتمع. وتعد الإصابات المرضية عوامل كابحة لازدهار الفرد ومقعدة لتقدم المجتمعات. ولهذا السبب، يرى بعضهم أن العنف، مثلا، هو واحد من المشكلات الصحية العامة التي ينبغي التجنيد لمحاصرتها والحد منها، ومنع استشرائها واستفحالها حفاظا على السلامة والاستقرار الاجتماعيين.

العنف ضد الرفق واللّين والملاطفة، ويعني استعمال القوة التي تؤدي إلى التهديد والإيذاء وإلحاق الضرر بالمعتدى عليه. وقد يقود إلى الإصابة البليغة أو إلى الموت. وللعنف أصناف، وهي متدرجة من حيث درجات الإساءة، وكل أصنافه مرفوضة ومنبوذة، لأن ما نراه بسيطا منها يمهّد ويحرض على إتيان ما هو أعلى منه قسوة وفظاظة، ويعمل على تغذية الأصناف الأخرى ذات الآثار الوخيمة والنتائج الوبيلة. فالعنف اللفظي أو الكلامي، مثلا، كثيرا ما يكون مقدمة تفضي إلى صنوه الجسدي الفض الذي يخلف إصابات جسيمة.

لما يصل العنف القبيح إلى المدرسة، ويهز هدوءها، ويرج سكينتها، ويقلب الطمأنينة والراحة في فضائها إلى خوف ورُهاب، ويهدد أركان العلاقات بين أفرادها، فذلك يعني أن المجتمع المدرسي قد اجتاحته جائحة مرضية، وأن الفعل التربوي الذي يهذب السلوك قد أخفق، ولم يأت أكله على الصورة الجميلة المأمولة. وانتشار العنف الجسدي القاسي في المدرسة يعني أن العقل قد انهزم أمام العضلة.

تمتد وتتداخل العلاقات بين أفراد المجتمع المدرسي، وتتقاطع وتتشابك. ويمثل اللجوء إلى العنف في المدرسة (وخارجها أيضا، وإن كنت أحصر كلامي في المدرسة) المظهر المرئي والملاحظ لاختلال ألمّ  بهذه العلاقات، وهو جزء صغير وضئيل منها. ولعل التشبيه يجد المطابقة شبه التامة مع الجبل الجليدي العائم في المحيطات المتجمدة الذي لا يرى منه سوى ثمنه أو ما زاد عن ذلك قليلا؟. ولا هروب من البحث الدقيق والعميق لاكتشاف بذور هذه المشكلة التي يتماوج منحناها المعبر عن عنفوانها صعودا يوما بعد يوم. ولا يقعدنا أي مانع أو منازع من طرح سؤال صريح وخالص الوضوح مضمونه: ما الذي تغير في المجتمع المدرسي المعروف برتابة سكينته حتى غزاه وباء العنف، وأصبح أحد أكبر المقلقات التي تهدد كيانه، وتنذر بالشؤم، لا قدر الله؟.

لا يمكن أن نحصر العنف المدرسي في حادثة واحدة حتى وإن كانت مؤلمة حقا، وانفطرت لها القلوب؛ لأنها بلغت شأوا من الشدة المنكرة التي لا توصف. وإنما وجب أن ننظر إليه نظرة شاملة كاملة، لا تقبل التجزيء أو التقطيع إلى قطع ونتف. والنظرة الكليانية هي وحدها من تقودنا إلى مرافئ الحلول المساعدة على قهر هذه الآفة.

أرفض التسليم بالقول القائل أن العنف في المدرسة هو ظاهرة عالمية، وأن في مدارس الغرب (الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وغيرهما) يظهر بأشكال أشنع وأفضع. ذلك لأن المدارس في هذه الدول لا تمنح مكانة للأخلاق، وهمها الأول هو تربية أبنائها على مبادئ المواطنة لتحقيق التعايش السلمي بين أبناء الوطن الواحد. وأما مدرستنا فهي مدرسة تقدم التربية عن التعليم، وتضع التربية الأخلاقية ضمن أولوياتها.

يصعب أن نقاوم ظاهرة العنف المدرسي ما لم نرجع إلى معلم المدرسة احترامه الذي يليق به، وأن ننزله المنزلة التي يستحقها، وأن نبوأه المكانة التي يستوجبها. وكل محاولة لمقاربة مشكلة العنف المدرسي بغية محاربتها لن تأتي أكلها ما لم نلجها من بوابة المعلم. وأما بقية التصويبات التي تنصب على الأطراف الأخرى، فهي مجرد مكملات.

أرى أن التغير الحاصل في المجتمع المدرسي ناتج عن اهتزازات مخيفة في نسيج العلاقات التي تربط بين أفراده ومع شركائهم، وفي كل الإتجاهات، وخاصة العلاقات التي تقرن بين المعلم والتلميذ في القسم، وفي الفناء وخارج أسوار المدرسة. وهذه الاهتزازات هي من أدت إلى تغير النظرة إلى المعلّم حتى عرته من بُردة قداسته الطاهرة. ومن حق الأجيال التي سبقت الأجيال المتأخرة أن تتساءل في تعجب: لماذا فقد معلم اليوم، وهو ركيزة ودعامة المجتمع المدرسي وقلبها النابض والمحرك، لماذا فقد الحظوة التي كان سلفه بالأمس يتمتع بها في حضوره وفي غيابه؟، ومن المتسبب في تدحرج مكانته؟. وما السبيل الأنسب لإعادة بناء أو ترميم النظرة التقديرية نحو معلم المدرسة؟.

لما يصل العنف القبيح إلى المدرسة، ويهز هدوءها، ويرجُّ سكينتها، ويقلب الطمأنينة والراحة في فضائها إلى خوف ورُهاب، ويهدد أركان العلاقات بين أفرادها، فذلك يعني أن المجتمع المدرسي قد اجتاحته جائحة مَرضية، وأن الفعل التربوي الذي يهذب السلوك قد أخفق، ولم يأت أكله على الصورة الجميلة المأمولة. وانتشار العنف الجسدي القاسي في المدرسة يعني أن العقل قد انهزم أمام العضلة.

ككثير من مجتمعات المعمورة، هبّت على المجتمع الجزائري عواصف هوج غيّرت من نظرة أفراده إلى الحياة، وبلورت عندهم رؤى جديدة متعلقة بصياغة مستقبلهم. وفي خضم هذا الانقلاب المعقد، أصبحوا أكثر تصميما على الاستثمار في أبنائهم بكل ما يملكون من طاقات ومن موارد، وخاصة من حيث تعليمهم والارتقاء بهم في سلم الحصول على الشهادات العليا التي تضمن لهم مراكز وظيفية تكفل لهم الراحة والسعادة في القطاع العام أوفي القطاع الخاص. وترتب عن هذا التغيير انقلاب في القيم المدرسية، وفاز التعليم والاكتساب المعرفي المجردين بصدارة التقدم على حساب التربية التي تشكل الحلقة الأولى والأساس المتقدم في الفعل المدرسي.

من جانب آخر، فإن انحياز المجتمع إلى الماديات بصورة تجاوزت الحدود خلف مساوئه، وتعدت تأثيراته إلى المعلمين باعتبارهم جزءا من المجتمع، فانقادوا له، وساروا في ركبه غير مبالين بقيمة ما يفقدونه من قيم معنوية عاش من أجلها أسلافهم الذين قبلوا حتى العيش الخشن في شظف وشدة وضيق. ووجدوا في ما يسمى بـ”الدروس اللصوصية” المكرسة للتحصيل المعرفي الصرف على حساب التربية والتوجيه المعوّض الذي تهافتوا عليه، وتنافسوا في حقله. وقل نشاطهم واجتهادهم في أقسام المدرسة الرسمية مما عمق فجوة التباعد بينهم ومتعلميهم، وانفسخت عرى العلاقة الروحية بين الطرفين حتى تلاشت وتبددت.

لقد أفسد جشع “الدروس اللصوصية” طباع المعلمين حتى نسوا أنهم أصحاب رسالة سامية، وحوّلتهم إلى “أُجراء” في نظر الأولياء. ونحن نعلم أن القاعدة التي تربط بين الأجير وسيده مبنية على الاحتقار والازدراء في كل الحالات. والتنافس المادي بين المعلمين الذي يجرون خلف “الدروس اللصوصية” أنبت عداوات مريرة بينهم، وأصبحوا يغتابون بعضهم بعضا أمام المتعلمين في الأقسام، ويتراشفون ويتنابزون بأقبح الصفات؟. ومعروف أن في مستودعات “الدروس اللصوصية” تلقن حلول بعض التمارين البالية، ويضرب صفحا عن التربية والتهذيب وتقويم السلوكات خشية انقطاع المتعلمين.

انبلجت من هذا الانحراف الشائن قضية عويصة مؤداها أن طموح الأولياء أصبح يتجاوز، في كثير من الحالات، قدرات أبنائهم، ويتعدى هرمية مخرجات المدرسة. وأصبح هذا الطموح المغشوش لا يقنع إلا إذا نال الولي مبتغاه في توجيه أبنائه وفي معدل نجاحهم في الامتحانات الرسمية. ومع قصور ومحدودية قدرات المتعلمين الضعاف والمتوسطين، يتولد في أنفسهم حالات من الضجر، ويحيط بهم القلق بعد أن يخيب ظن أولياهم فيهم من حيث مستوى التحصيل المعرفي وتحقيق التفوق المنتظر. ولا يجدون من أسلوب يغطون به إخفاقاتهم سوى الانحراف والميل عن جادة الطريق المستقيم والانجراف إلى تعاطي المهلوسات، وهي أم الشرور. وتنتهي بهم رحلة التيهان إلى طريق مسدود. وتحت عامل الضغط النفسي يلجأون إلى القيام بردود أفعال عدوانية شرسة كمن يحاول التخلص من واقعه والانتقام لنفسه من وضع لم يكن من اختياره، ولم يتقبله، وإنما فرض عليه فرضا رغم أنفه. ومن أجل التخفيف من وطأة هذه المشكلة، وجب إعادة النظر في أساليب تقويم المتعلمين ونظام توجيههم، وجعل هذا الأخير، أي التوجيه، مستندا إلى مدى تطور ونضج قدرات كل متعلم بدل الاعتماد فيه على الكم المعرفي المخزن في ذاكرته والذي يحفظه عن ظهر قلب، ويصبه صبا على الورق في أيام الفروض والامتحانات المدرسية والرسمية.

مما زاد الطين بلة هو أن المناهج المعتمدة بعد الإصلاح التربوي الذي شرعنا فيه مع مطلع الألفية الجارية أتسمت بالكثافة المفرطة، والثقل غير المفيد والموسوعية المبالغ فيها. فهي مناهج مكتظة بالمعارف في كل المواد، وبعض هذه المعارف يفوق مستويات المتعلمين ولا يتناسب مع نموهم العقلي؛ وكأن واضعيها يهدفون إلى تخريج علماء متبحرين في كل أصناف العلوم منذ المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية. ولا أدنو من أي قذف أو تجريح إن قلت أن هناك من المعلمين والأساتذة من يقفون حيارى وعاجزين عن فهم واستيعاب أقساط من معارف هذه المناهج فهما صحيحا وسليما يؤهلهم إلى نقلها لغيرهم. ومن المعروف أن ضعف المعلم في الجانب العلمي يفقده السيطرة على متعلميه، ولا يعود محل ثقة واحترام في أعينهم. وقد تنشب بين المعلم والمتعلم خلافات تتحول، شيئا فشيئا، إلى نزاعات بسبب هذا الضعف الذي ينكشف بعد كل مناقشة أو سجال حول معلومة ما.

لا نستطيع أن نبرئ دور الأولياء في تلقين أبنائهم تربية أسرية قاعدية منيعة تنبني على قاعدة احترام الناس أجمعين وبشكل أخص معلم المدرسة. وأن يحسنوا، وأقصد الأولياء، علاقاتهم مع المعلمين، وأن يشعروهم دوما أنهم يتعاونون في تسيير رأس مال مشترك سيدر على الوطن ذهبا في المستقبل إن نجحوا في صياغته وأفلحوا في تكوينه.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!