-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الفاتيكان.. عينٌ على التسامح وأخرى على المسيح

الفاتيكان.. عينٌ على التسامح وأخرى على المسيح

الفاتيكان هو المؤسسة الدينية الوحيدة في العالم التي تمتلك دولة –ولو بحجم دويلة- وقصة هذه الدويلة نقرأها في الوثائق التاريخية التي تشير إلى أنه بعد توحيد إيطاليا عام 1870 وبعد توتر العلاقة بين الحكومة والكنيسة، رفض الباباوات الاعتراف بالدولة وقرروا الاعتصام في الفاتيكان لمدة ستين عاما إلى أن أجبروا الحكومة الإيطالية على توقيع اتفاقية في عام 1926، تتعهد الحكومة بموجبها بالاعتراف بسلطة الكنيسة وبإعادة الأراضي المسلوبة وبالاعتراف بالفاتيكان دولة مستقلة، تمثل بالإضافة إلى هذه الصفة المهد الثاني للمسيحية في روما بعد كنيسة المهد الأولى في بيت لحم.

لقد فتح المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني شهية الكنيسة البابوية في روما لخوض تجربة “حب الأغيار” وحبب إليها الانفتاح على غير المسيحيين بعد سنوات من القطيعة، وطفقت الكنيسة البابوية تتداول مصطلحات الحوار والتسامح على أوسع نطاق وأرسلت وفودها وممثليها إلى العالم الإسلامي الذي دخلوه من بوابة الأزهر في أرض الكنانة مصر، وكان من الطبيعي أن يقبل الأزهر الدعوة البابوية إلى الحوار لاقتناع مشيخته بأن الحوار مع الآخر من أوكد مقاصد الشريعة الإسلامية وخاصة حينما يكون هذا الآخر “المسيحيون” الذين لا يزال بعض البعض منهم على هدى أسلافهم النصارى كما جاء في القرآن الكريم: “.. ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق”، فمعرفتهم الحق ألانت قلوبهم تجاه المؤمنين: “ولتجدنَّ أقربهم مودَّة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى”.

قد يستغرب غير الضالعين بواقع المجتمعات المسيحية حديث القرآن الكريم عن جماعة نصرانية ودودة أو متوددة إلى المسلمين، ولكن الذين احتكوا بهذه الجماعات المسيحية ودرسوا عنها يعرفون أن معدل التخلي عن المسيحية واعتناق الإسلام في أوساطها أكبر مما يُتصور، وقد شبَّه بعض المحللين ظاهرة الارتداد المسيحي بعملية استلاب كبرى واختراق إسلامي كبير للكيان المسيحي. هذه حقيقة كشفت عنها بعض الوثائق البابوية المسربة التي تتحدث عن توجس فاتيكاني كبير من حركة مد إسلامي داخل العمق المسيحي.

يُعرف عن بابا الفاتيكان الحالي (فرنسيس) المولود خورخي ماريو بيرجوليو أنه من أكثر البابوات انفتاحا وتسامحا مع العالم الإسلامي، وهو في هذا المسلك على خطى البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الذي عمل على إحياء ثقافة التسامح المسيحي الإسلامي تنفيذا لقرارات المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، فقد زار يوحنا بولس الثاني كبريات الدول الإسلامية ومعها كبريات التجمعات الإسلامية وخاصة في إفريقيا، وقد أكمل البابا فرنسيس هذا المسعى فشرّق وغرّب وطاف في العالم الإسلامي وكانت له اليد الطولى في بناء “البيت الإبراهيمي” في أبو ظبي الذي تعدّه أوساط فاتيكانية أكبر إنجاز بابوي في أرض “الغريم الإسلامي” منذ قيام الكنيسة الكاثوليكية.

لا ننكر وجود ثقافة التسامح مع العالم الإسلامي لدى القيادة البابوية في الفاتيكان، ولا ننكر أيضا أن هذه القيادة أعلنت دعمها للفلسطينيين المشرَّدين والمهجَّرين من أرضهم، كما لا ننكر تعاطفها ووقوفها مع العالم الإسلامي ضد عمليات التصفية العرقية في بورما وغيرها، ولكن في المقابل ينبغي أن لا نتجاهل التحالفات الخفية والمعلنة التي يعقدها الفاتيكان مع حلفائه اليهود والماسونيين من أجل كسر شوكة المسلمين وتكريس فكرة “إفريقيا المسيحية”، كما ينبغي أن لا نتجاهل مخططات التنصير التي يسيّرها ويرعاها الفاتيكان تحت مظلة “ديانات وثقافات متعددة لغاية إنسانية واحدة”.

إن الحب الهيامي الذي يظهره بابا الفاتيكان تجاه إفريقيا التي تضم تجمعاتٍ إسلامية معتبرة موزعة على عدد من الدول الإفريقية، هو في الحقيقة حبُّ مصلحة ولأجل مصلحة الكنيسة، والدليل على ذلك تصريحاته الكثيرة والمثيرة للجدل بخصوص ما يسميه “إفريقيا المسيحية” ذات الأصول الإغريقية كما يزعم، ويبدو أن “قداسة” البابا قد اختلطت عليهم الأمور وأنه من فرط الهيام بإفريقيا أصابه الهذيان فظن “إفريقيا” ليست إلا “إغريقيا” التي كتب عنها بعض الرحالة المسيحيين وقالوا عنها إنها الجنة المسيحية المفقودة التي انتقصت من أطرافها.

يمدُّ بابا الفاتيكان يده إلى العالم الإسلامي في صورة “الودعاء الذين يرثون الأرض” كما جاء وصفهم في إنجيل متى، وفي صورة بطرس الرسول الذي كان يتودد إلى خصومه لأنه يمثل –حسب الكتابات المسيحية- صورة المسيح المتسامي والمتسامح الذي يسعى إلى إزالة مظاهر الجفاء بين بني الإنسان وتهيئتهم للعيش في مملكة الرب والحب التي يقيمها المسيح.

منذ اعتلائه الكرسي البابوي، طفق البابا فرنسيس ينظر إلى العالم الإسلامي بعينين اثنتين: عين التسامح الذي وصل إلى حد اقتراح تشكيل حلف مسيحي إسلامي من أجل حماية المقدسات الدينية المسيحية والإسلامية، وتصريحه في أكثر من مناسبة بأنه لا فرق عنده بين كنيسة القيامة والمسجد الأقصى والاعتداء عليهما أو على أحدهما يعدُّ اعتداء على كل المسيحيين والمسلمين في العالم، وعين على المسيح في صورة البعثات الطلابية التي يستقدمها ويستقيلها ويرعاها ويربيها على طريقته وينفق عليها ويغدق ثم يعيدها إلى أوطانها وقد تنصَّر بعضُهم وتكونت لديهم الجاهزية الكاملة لتعويض بعثات المنصِّرين في العالم الإسلامي عملا بمقولة “أهل مكة أدرى بشعابها” واقتناعا بأن البيت يهده أهله ويهدمه ملاكه.

من حق الفاتيكان أن يدعو إلى المسيحية ويرغّب في تعاليم المسيح، فلا يوجد في ثقافة الأمم وقوانين جمعية الأمم ما يمنع دينا من الامتداد ومتدينا من الدعوة إلى دينه، ومن حق الفاتيكان أن يجلب من شاء إلى صفه وأن يتغنى بما يسميه “المملكة المسيحية المختطَفة”، ولكن ليس من حق بابا الفاتيكان أن يخدّر العقول ويجند الشباب والكهول على دنانير يدفعها إليهم مقابل أن يكونوا لسانا وعينا وعونا له في حربه ضد غريمه الإسلامي.

إن صورة الحمل الوديع التي يتظاهر بها الفاتيكان، تتناقض مع صورة “بطرس الناسك” الذي ثار من أجل حماية إرث المسيح فانقلب “لعنة شيطانية”؛ إذ خاض في الدماء إلى الرُّكب لأن حرصه على حماية روما كان أكبر من حرصه على حماية الأرواح.

مسكينٌ ذلك الشاب المسلم وتلك الشابة المسلمة اللذان تستهويهما الأبواب المشرَّعة التي يفتحها الفاتيكان ليدخل منها المحرومون والحالمون من أمثالهم، فليت هؤلاء يعلمون أن الفاتيكان الذي فتح لهم الأبواب ووفر لهم كل أسباب العيش الرغيد إنما فعل هذا لاستمالتهم ومساومتهم ومقايضة عقيدتهم الإسلامية بأورووات معدودة.

مسكينٌ ذلك الشاب المسلم وتلك الشابة المسلمة اللذان يكاد أحدهما من فرط فرحة الانتساب إلى معهد من المعاهد البابوية أن يطأ الثريا فتجري جاذبية الأورو الحكمة على لسانه فيكتب عما يسميه “حقائق دينية كبيرة” جهلها ردحا من الزمن ولم يدركها إلا في رحاب هذه المعاهد، ويكتب عن اكتشافه لنفسه ولحرِّيته الدينية والفكرية لأول مرة في رحاب “الفاتيكان المفدى” بعد أن ظل في وطنه يعاني من ظلم محاكم التفتيش التي تُنصَّب لكل صاحب رأي مخالف، ولو كانت المخالفة الدوس على الرموز الدينية بدعوى “حرية التعبير” التي لا  يجرؤ على الحديث عنها في رحاب الفاتيكان إلا كأخي السرار خوفا من زبانية الفاتيكان التي تتعقب كل “مهرطق”، تسوِّل له نفسه الإساءة إلى البابا الذي يترأس دولة الفاتيكان التي تتمتع وفق القانون الدولي بسلطة مستقلة ذات نظام حكم ملكي مطلق.

مسكينٌ ذلك الشاب المسلم وتلك الشابة المسلمة اللذان تستهويهما عقيدة الفاتيكان فيستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولكن لا يستهويهم عقل الفاتيكان، فهذه الدولة الصغيرة تمتلك تلسكوبا باسمها في الولايات المتحدة الأمريكية لرصد النجوم ولإجراء أبحاث من خلال هذا التلسكوب الذي يقع على قمة جبل “غراهام” جنوب شرق ولاية أريزونا، فيا تعاسة من باعوا عقيدتهم وعطَّلوا عقولهم، ليتهم أخذوا عن الفاتيكان عقله لا عقيدته.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!