الرأي

الفردوس الديمقراطي الكاذب لشعوبٍ تقاتل على الكفاف

حبيب راشدين
  • 1242
  • 3
ح.م

استحقاقاتٌ انتخابية ثمانية خاضها الأشقاء في تونس، تحت سقف ما وُصف بـ”الانتقال الديمقراطي” كانت كافية لتعرية وفضح أساطير “الفردوس الديمقراطي” وهي تسوَّق لشعوب تقاتل ببطون خاوية على قوت اليوم، فيما تقاتل نخبُها بشراسة لإنقاذ التجربة، بدل إنقاذ البلد، وتوفير القوت اليومي للمواطن، قد يصدق فيها مقولة الراحل هواري بومدين، وهو يفكك لشعوبنا المنكوبة ولنخبها الخدعة البصرية في الترويج الكاذب لـ”الفردوس الديمقراطي” يسوَّق لشعوب بطونها خاوية.

نفس المسار، ونفس قواعد اللعبة التي سمحت سنة 2014 بانتخاب رئيس معمر لشعب فتي، أعيد تدويره من مخلفات الدولة العميقة البورقيبية، هي التي أفضت إلى انتخاب رجل سبعيني، قادم من مدرجات كلية الحقوق، لم يسبق له أن ترأس أو أدار مؤسسة أو حزبا، أو حتى أبسط جمعية مدنية، وجهٌ جديد بلا ماض سياسي، أو نضال حزبي أو نقابي، نظيف اليد واللسان، لم تُفسده معاشرة المجتمع السياسي في السلطة والمعارضة، أو الجلوس إلى موائد اللئام من أرباب المال والأعمال، حمل وديع بلا مخالب أو أنياب، سوف يدخل بعد أداء القسم قصرَ قرطاج، بصلاحيات جد محدودة، في نظام برلماني هجين فُصِّل قميصه على مقاس الكيانات الحزبية.

احتفال التونسيين بما وُصف بـ”العرس الديمقراطي” سينتهي حين يبدأ استحقاق تشكيل حكومة مجهولة الهوية من لفيف مفروق من الأحزاب تقوده حركة النهضة، ومعارضة متوثّبة للعراك، تآلف فيها المائق والتائق من مخلفات عهد بورقيبة وبن علي، تمتلك في الحد الأدنى الثلثَ المعطل لأي إرادة إصلاح، سواء لمؤسسات الحكم المصابة بأعراض “الشيخوخة المبكِّرة” أو لمنظومةٍ اقتصادية متهالكة، في بلد مرتهن للمديونية الخارجية.

 المحطات الانتخابية الثلاث التي أعادت في الظاهر الكلمة للناخب التونسي طغت عليها إرادة النخب الوارثة لإدارة “المرحلة الديمقراطية الانتقالية” في اتجاه إنقاذ ما يمكن إنقاذه من التجربة الانتقالية، بدل تحويلها إلى فرصة لمصارحة التونسيين بواقع الحال، والتنافس لتقديم حلول مبتكرة لأزماتهم. ليخرج الناخب التونسي من هذه الاستحقاقات كما دخلها، ببرلمان عاجز، ملغم بالمحاصصة الحزبية التي سوف تقيِّد حركة الحكومة القادمة، ورئاسة لن تغنيها المشروعية الكبيرة التي منحها لها الناخب عن القبول بإكراهات التعايش مع برلمان بلا أغلبيةٍ واضحة، وحكومة عاطلة ومعطلة.

ما رأيناه في الأسابيع الأربعة الماضية من استحقاقات انتخابية تُنفذ تحت سقف الدستور التونسي الجديد، احترمت فيها ـ في الظاهر ـ قواعدُ اللعبة الديمقراطية، ولم يُعبَث فيها بصوت الناخب، حتى وإن كانت الهيأة المستقلة قد عبثت بنسب المشاركة لحفظ ماء الوجه، هو عينه ما كان يتربص بنا لو أننا جارينا دعاة تفكيك المؤسسات القائمة، والذهاب إلى مرحلة انتقالية، كانت ستعرِّض البلد لأسوأ مما أنتجته التجربة التونسية، مع مجتمع سياسي مترهل في الموالاة والمعارضة، ومجتمع مدني قد خضع لنفس عمليات التخليق المخبري على يد “دولة الدي أر أس”.

لأجل ذلك، يحسن بنا أن نستخلص سريعا بعض الدروس من التجربة التونسية، من جهة واجب خفض سقف التوقعات المرجوَّة كذبا من “الفردوس الديمقراطي” عموما، ومن الاستحقاق الانتخابي الرئاسي القادم تحديدا، باستثناء ما قد يمنحه من فرص لضمان ديمومة الدولة واستعادة الاستقرار، ولكونه الممرّ الوحيد المتاح اليوم في التجارب الديمقراطية لنقل السلطة التأسيسية من الناخب إلى وكلاء منتخَبين، لم نبتكر بعد وسيلة تلزمهم بالوفاء بوعودهم، وقد يحسن بنا التركيز على مطالبة المتنافسين باقتراح برامج إصلاحية عاجلة واقعية، تعالج مَواطن الخلل في المنظومة الاقتصادية، وتحسِّن الأحوال المعيشية للفئات الهشة، مع الالتزام بمراجعة عميقة لمنظومتي التعليم والصحة، قبل فتح ورشات إصلاح مؤسسات الحكم التي تحتاج بالضرورة إلى استقرار سياسي، اقتصادي، اجتماعي، أمني، وتحتاج حكما لأكثر من عهدة رئاسية.

مقالات ذات صلة