الرأي

الفساد الذي لا يحاربه أحد

حبيب راشدين
  • 1898
  • 9

الفاتح من شهر أوت مرّ عليه الإعلام العالمي مرور الكرام، مع أنه أرَّخ لتسجيل رقم قياسي آخر في لوح إفلاس المدنية الحديثة، القائمة على الاستهلاك المفرط لموارد الطبيعة، حيث استهلك سكان الأرض في سبعة أشهر حصتهم السنوية من كثير من الموارد غير القابلة للتجديد: بدءا بالمياه والموارد الغابية ومصادر الطاقة الاحفورية وانتهاء بكثير من الموارد المنجمية التي تقوم عليها الصناعة العالمية، وسوف نقترض ابتداء من هذا اليوم وحتى نهاية السنة من حصة العام القادم، التي قد نستهلكها العام المقبل قبل نهاية شهر جويلية، ويتوقع الخبراء أنه في بحر عشر سنوات قادمة سوف نحتاج إلى ثروة أرضين لإعالة بشرية تستهلك بإفراط، وتعيش على الدين الذي بلغ هذه السنة 226 ألف مليار دولار، أو ما يعادل 324 % حجم الدخل العالمي الخام.
الإفلاس كما نرى حقيقة ثابتة، ليس لها أفُقٌ يبشِّر بوقف نمو الدين العالمي، وقد صار الاعتماد على الدين في إدارة الاقتصاد الأهلي والعالمي هو القاعدة، وفاقت عوائده الربوية أضعاف عوائد الاقتصاد الانتاجي، ويحتل قطاع الخدمات وعلى رأسها الخدمات المصرفية ثلاثة أرباع حجم نشاط البورصات العالمية، وقد التحقت نسبة الاستدانة عند الأفراد بمستوى استدانة المؤسسات والدول، وقد أضيف إليها استهلاكنا لحصص الأجيال القادمة من موارد الطبيعة غير القابلة للتجديد في حلقة مفرغة: نستهلك ـ أفرادا ومؤسسات ودولا ـ فوق دخلنا الحقيقي لإشباع حاجة الاقتصاد الرأسمالي المعوْلم إلى تسويق مزيد من البضائع التي باتت تستهلك الحصة السنوية من الموارد في سبعة أشهر وتضطرنا إلى الاقتراض من حصص السنة القادمة.
مواجهة الآفتين غير واردة بأدوات ومنهج الاقتصاد الرأسمالي القائم على الاستهلاك كمحرِّك للنمو، والذي يزيد من حجم مديونية الأطراف الثلاثة، من جهة الحاجة إلى مصادر التمويل الربوية للإنتاج كما لتمويل الاستهلاك، وقد فتحت العولمة بفتح مزيد من الأسواق آفاقا جديدة لتغذية سرطان الاستهلاك الذي تحول أواسط القرن الماضي ومطلع هذه الألفية إلى سلوك عدمي مستبد متنام، غير قابل للمعالجة إلا بإسقاط النموذج الرأسمالي الليبرالي الرِّبوي المعادي للطبيعة البشرية ولوظيفة الاستخلاف الراشد في الأرض.
قبل عقدين فقط كانت البشرية تتواصل بشكل جيِّد عبر الهاتف الثابت، بينما لا يكاد اليوم بيتٌ في المعمورة يخلو من أربعة أو خمسة هواتف نقالة، تستهلك مواد نادرة غير قابلة للتجديد، وقد فتحت باب إنفاق جديد يشكل أكثر من 30 % من ميزانية الأسرة، ولك أن تقيس على ذلك في مجال استهلاك وسائل النقل، والفرجة والتسلية، ومساحيق ومستحضرات التجميل، التي وإن كانت أضافت بعض الرفاهية في الحياة اليومية، فإنها قد أضافت أعباء جديدة على دخل الفرد وقادته من حيث لا يحتسب إلى الانخراط المفرط في دوامة الاستدانة التي تحمل بدورها كلفة إضافية تستهلك من دخل عمله.
دخول قرابة ثلاثة ملايير من الصينيين والهنود سوق الاستهلاك والإنتاج بوتيرة تقترب من وتيرة الاستهلاك والإنتاج في المجتمعات الغربية سوف يسرِّع بوتيرة هندسية الآفتين: باستهلاك مفرط متنام لموارد طبيعية غير قابلة للتجديد تقودنا في أجل منظور إلى واقع مرعب نستهلك فيه حصة السنة في ثلاثة أشهر، وإلى مضاعفة نسب استهلاك الدين الذي سوف يحوِّل الأفراد والمؤسسات والدول إلى كيانات تستعبدها بلا رحمة فئة قليلة من أرباب المصارف.

مقالات ذات صلة