الرأي
الخلاف الفقهي في عرض "الدراما الدينية":

الفن في ميزان الحلال والحرام

ح.م

الدراما التلفزية المعاصرة ،اجتذبت لفعلها المتحرك تقنيات لها القدرة في بلوغ أعلى درجات التأثير في روح المشاهدين، وتخلت عن الأشكال التقليدية في صناعة مشاهدها المرئية، وهي تقتبس من السينما تقنياتها التي تمنح الصورة أبعادا أخرى ،وترتقي بتفاصيل الحدث الكاشف عن كل مكوناته المختبئة فيما مضى وراء حدود مشهد تلفزي ضيق بضيق شاشته.

و”دراما الأحداث الدينية” تعد المثل الحاضر في ارتقاء دراما تلفزية بلغت ذروتها بلغة سينمائية راقية ، رغم ما قد يثار حولها من جدل باعث لروح الحيوية في فقه ديني تشريعي أو نقد فني جمالي أو في قراءة إعلامية .. فهي بالمعنى الجمالي والفكري إنقلاب في استخدام تقنيات السمعي البصري وتوظيف عصري لخصائصها.. تخلت كليا عن تقنيات صناعة تلفزية مستخدمة تقنيات سينمائية مبهرة لمشاهد تلفزي تقليدي ..وهي بالمعنى الأكاديمي قراءة لأحداث تاريخية مؤثرة في التاريخ البشري لها قيمتها المتعاظمة.

وينطلق الجدل وفق قاعدة تشريع التلاؤم بين القراءة الفنية  وقدسية الأحداث في تفاصيل وقوعها والأبطال الذين يحركونها .. وهناك في القراءة الدينية  الحد الفاصل بين المدنس والمقدس.. فالمقدس وفق الشرائع الاجتهادية يحرم تدنيسه باستنساخ مصور أو تشبيه أو حتى ظلال..ويأخذ الأنبياء والرسل والملائكة والخلفاء الراشدون مكانة المقدس غير القابل للتدنيس.

   ويقف المبدعون العرب دائما أمام حاجز الحرام والحلال في رسم الصياغات النهائية لنتاجهم الفني الإبداعي ..ولأنهم لايفتون في الفقه فقد عرفوا طريقهم إلى الفقهاء والمراجع الدينية لأخذ الأذن في تحليل عرض الصورة عبر القنوات.

كما كان من قبل مع صناع مسلسل”خالد بن الوليد”، حيث لم يشذوا عن هذه القاعدة وقد اختاروا الشيخ يوسف القرضاوي مستشارا فقهيا ومرجعا دينيا يفتيهم بما يحلل ويحرم في المشاهد التاريخية الدينية.. ومرجعية القرضاوي لا يختلف عليها أحد في العالم العربي أو العالم الإسلامي .. وهي رغم كل شيء اجتهاد في تصنيف العلم الفقهي  لابد أن يقوم على قاعدة القرآن والسنة.

  اجتهاد القرضاوي بمكانته الفقهية..أباحت عرض مشاهد مسلسل خالد بن الوليد، في جزئه ألأول..لكن  تعليمات “الأزهر الشريف” التي تحرم تصوير الصحابة في الأعمال الدرامية منذ أكثر من أربعين عاما كما حرمت تصوير العشرة المبشرين بالجنة في الأعمال الدرامية..حرمت ما حلله القرضاوي.

وظهر في مسلسل  خالد بن الوليد الذي عرض قبل سنوات في التلفزيون الجزائري عم الرسول”ص” حمزة بن عبد المطلب والصحابيان ابو عبيدة بن الجراح وعبدالله ابن رواحة .. وهذا الظهور دفع الأزهريين إلى اتهام القائمين على المسلسل بأنهم “متجاوزون للصواب” فلا يجوز ولا يصح من وجهة نظرهم ” استثمار سيرة الصحابة في مكسب درامي ومادي”.

و مراجع دينية أخرى رفضت تصوير شخصيات الصحابة ككل وليس فقط العشرة المبشرين بالجنة لأنهم كما يعتقدون “شخصيات وشهب وكواكب منيرة ولا يوجد من يستطيع أن يجسد هذه الشخصيات”… هذا فضلا عن خداع الصورة الذهنية التي تترك آثأرا بين الجمهور إزاء الشخصية التي تقوم بأداء ادوار الصحابة وربطها في ادوار أخرى يقومون بها مما يسيء للصحابة  وهذا ما يدعو إلى منع ظهور مثل هذه الشخصيات في الأعمال الدرامية”..

ودائرة الممنوعات تتسع وتتسع معها مساحات التطرف وتجعل الفن العربي وآليات صناعته مشدودة دائما إلى هاجس الحلال والحرام.. أو هاجس الخوف من المسموح به أو اللا مسموح..والمشهد الحياتي المؤرخ ماديا له وقائع منهجية وشخوص هم بشر ويحملون الخصائص البشرية ولاشيء يدعو إلى توسيع قائمة الممنوعات  وتنزيه شخصيات بشرية  صنعت التاريخ وورثنا صناعاتها الإنسانية بوحي من رسالة السماء ولابأس في ان يراها احدنا مجسدة في شخصية فنية لتقترب  من الحس الذهني أكثر ويدرك المتلقي واقعيتها،  بواقعيتها العقلانية.

 الأزهر اجتهد من قبل ومنع عرض فيلم “الرسالة”في مصر بسبب ظهور “الحمزة” عم النبي صلى الله عليه وسلم ، فمسيرة الممنوعات الناتجة عن تطرف لا يتلاءم مع روح العصر  شلت قدرات إبداعية  وحاصرتها في زنقة الحلال والحرام، اجتهاد الأزهر ألزم مصر وحدها  في منع عرض فيلم الرسالة للراحل مصطفى العقاد ومنع عرض مسلسل “خالد بن الوليد” .. فهو رغم كل شيء اجتهاد وليس فريضة .. ومن حق كائن من كان ان يقبل بهذا الاجتهاد أو يرفضه طالما كان حصيلة رؤية عقلية بشرية لاتستند إلى  المطلق في القرآن الكريم أو السنة النبوية الصحيحة ..

وبعيدا عن رؤية الاجتهاد بصوابها أو خطئها فان مسلسل “خالد بن الوليد” ومسلسل “عمر بن الخطاب” و مسلسل “هارون الرشيد” الذي يعرض حاليا كان انقلابا في معالجة دراما تلفزيونية استثمرت بتقنية عالية المؤثرات السينمائية الأكثر تأثيرا في عقل المتلقي المعاصر، وقدمت للجمهور لغة سينمائية متكاملة بصورتها وشخوصها وحوارها وصوتها  وأضوائها وموسيقاها  هي أرقى ما يكون في ساعات البث التلفزي  المتحرر من مؤثراته التقليدية.

مقالات ذات صلة