القرآن بالعامية؟
روى المرحوم نايت بلقاسم، قصة بليغة، فيها الكثير من الألم ومن الرسائل أيضا، وقعت في مدينة الدار البيضاء المغربية في منتصف القرن الماضي لدكتور ألماني، قرّر أن يتميز عن أبناء جلدته، فسار إلى بلاد المغرب من أجل تعلم اللغة العربية، ليكون دون الألمان متقنا للغة لا أحد يجيدها في بلده، فتعرّف على دكتور أدب مغربي، وباشر تعليمه المركّز، فقضى قرابة الخمس سنوات يلتهم أحرفها وشِعرها وأمهات كتبها، إلى أن حفظ القرآن الكريم وكل المعلقات الجاهلية وروائع حافظ إبراهيم وشوقي، فخرج يشمّ هواءها في شوارع الدار البيضاء، وهو يشعر بأنه قد بلغ النجوم، فراح يتمتع بما تعلّم من خلال استعماله لأول مرة اللغة العربية في شوارع الدار البيضاء، متحدثا لعامة الناس بعربيته الفصيحة دون دكتور الأدب العربي، الذي رافقه على مدار سنوات تعلّمه العربية، فصادف طفلا صغيرا فخاطبه: هل تدلني يا صبي على عربة تجرّها دابة لأتجول في أرجاء مدينتكم؟ ولكن الصبي المغربي البريء، لم يفهم شيئا من كلام الدكتور الألماني، فاستعمل معه مرادفات أخرى، لا تجدها سوى في المنجد العتيق للغة العربية، ولكن الصبي المغربي بقي ذاهلا غير فاهم لكلام الدكتور الألماني، فتنقل إلى صبي آخر وثالث، وبقي يبحث عن مغربي يفهم كلامه، ثم عاد إلى مكان إقامته يطلب رفيقه دكتور الأدب ليخبره بما حدث له، فردّ عليه أيضا ببراءة: كان عليك يا صديقي أن لا تحدثه بالفصحى، كان عليك أن تقول له بدلا عن كلمة أرجو أن تدلني: “نبغي” وإذا سافرت إلى الجزائر تقول له “حاب” وفي مصر “عايز” وفي لبنان “بدّي”، وهنا أمسك الدكتور الألماني برأسه وصاح بلغة عربية بليغة: “يا ويلتي على عمر أفنيته في تعلم لغة لم تُركبني حتى حمارا”.
كان هذا جزاء استعمال اللهجة الدارجة في الشارع، فما بالك باستعمالها في المدرسة، كما يُحضر لذلك فريق السيدة نورية بن غبريط، الذي صام عن الإصلاحات الحقيقية لإنقاذ المدرسة الجزائرية، وعندما حاول العلاج، راح يبحث في تسوّس ضرس بدن يئن بأورام خبيثة تنخره في كل مكان، وإذا كان الحديث عن العامية في الطور الابتدائي في حد ذاته كارثة، فإن الطامة الكبرى تكمن في التبريرات التي تقدمها السيدة الوزيرة، فهي تارة تتحدث عن سوء فهم الناس لهاته القرارات، وأخرى تتحدث عن كون الصغار سيُصدمون بلغة لا يفهمونها، وكأنها لا تعلم بأن أطفال السنة الأولى والثانية وما قبل التحضيري، مجبرون على حفظ سور من القرآن الكريم من دون اللجوء إلى استعمال العامية، التي وصفها رئيس الجمهورية نفسه في أحد خطاباته بكونها معجونة باللغة الفرنسية، وتحدث ساخرا عن كون بعض الجزائريين يتحدثونها لعدة دقائق دون أن يذكروا منها كلمة عربية واحدة.
لو طالب هؤلاء العباقرة أو الخبراء الذين قدّموا النصيحة للسيدة بن غبريط، بالعودة إلى الفرنسية في التدريس لهان الأمر، ولو اختاروا كدول خليجية مثل الإمارات العربية وقطر اللغة الإنجليزية وطلقوا العربية في التدريس بالثلاث لهان الأمر.. لكن أن يعودوا إلى العامية فذاك ما لا أحد فهمه، ولا نظن أن السيدة نورية بن غبريط رمعون فهمته؟