-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

اللغة العربية والأمن الثقافي

وليد بوعديلة
  • 635
  • 0
اللغة العربية والأمن الثقافي

نحن نعيش في عالم متسارع تتلاحق فيه الأفكار والتقنيات، وتصبح فيه الثقافات والهويات مهددة بكثير من القيم المعارضة والمخالفة لجوهرها ومعانيها، فارتفعت أصوات تنادي بضرورة وضع القواعد والاستراتيجيات التي تحفظ الثقافات الذاتية والأبعاد الخصوصية في حوارها مع الأبعاد العالمية (الأمريكية والأوربية تحديدا)، وهنا تتجلى أهمية البحث في قضايا اللغة والأمن الثقافي.

ولا ننسى أن لاستعمار الفرنسي سعى إلى القضاء على اللغة العربية، للقضاء على الثقافة العربية الإسلامية، ومن ثمّ مسخ الشخصية الجزائرية، وقد انفرد الاحتلال الفرنسي عن غيره من المحتلين في العالم بان مارس إبادة حضارية وثقافية ولغوية للشعب إلى جانب الإبادات الجماعية الوحشية بالمجازر وأعمال التقتيل والتعذيب، بمعنى أنه استهدف الحقول والعقول، الأرض واللغة، والثروة الغذائية والثروة الثقافية. ويتجلى هذا في كثير من المراسيم والقوانين التي وضعها للتضييق على التعليم العربي والقرآني، والقضاء على مراكز الثقافة العربية الإسلامية بالجزائر مند دخوله إلى غاية خروجه (حرق مكتبة الجامعة المركزية الجزائر 7 جوان 1962، من قبل المنظمة السرية 0AS).

وإن تأخرت العربية عن غيرها من اللغات فلأسباب تحتاج إلى تأمل وبحث، يعود لآثار الاستعمار والعولمة، علما أن الأمن الثقافي هو جزء هام من أجزاء الأمن القومي (الأمن الطاقوي، السياسي، المجتمعي، الاقتصادي، الصحي والعسكري… وكل محاولة أو مساهمة لصد الغزو الثقافي الحضاري الأجنبي تندرج في بناء الأمن الثقافي والحضاري، وهي خطوة هامة لكتابة مشهد الحصانة والمناعة ضد الغزو المهدِّد لكيان الدولة والمشتت للأمة. يقول الدكتور صالح بلعيد، وهو كاتب وباحث في اللسانيات ورئيس المجلس الأعلى للغة العربية: “الأمن الثقافي يتكون من كلمتين ذات معنيين مختلفين، هما الأمن والثقافة، فالأمن هو توفير الجو الآمن لتداول الحريات التي نمارسها، ودلالته تشير إلى الدفاع وتوفير الحماية المطلوبة، وأما الثقافة فتتضمن النشاطات المتعددة التي ينتجها الفكر في وقت ما وعبر التاريخ، وتبعا لهذا الربط، تعدّ الثقافة قوة لا يستهان بها في مختلف الشؤون والعلاقات، واللغة غير مفصولة عما تحمله من مضامين وتوجُّهات وأفكار”.

ويمكن حصر أهمية تحقيق الأمن الثقافي في حماية الهوية ضد الهويات المغايرة لها، وفي ضمان الاتحاد والوحدة الشعورية والفكرية لأبناء الوطن الواحد، وفي نشر فكر الاعتزاز بالذات وآثار الأجداد، مع الانفتاح  الواعي على الآخر والثقافات المختلفة بلا عقدة نقص أو انبهار. يجب أن لا تُبعدنا اللغات الأجنبية عن ثقافتنا وتراثنا وأرضنا، لا يجب أن لا تكون عامل تهديد لخصوبة لغتنا العربية، وأن لا تُحدث اغترابا وانفصالا وانفصاما في شخصيتنا.

إن الأمن الثقافي يجعل الفرد مشاركاً وإيجابياً وفعالاً، وقادراً على مواجهة أي تغيرات مجتمعية خارجية أو داخلية، وتجعله قادراً على التكيف مع أي تغيرات في مجتمعه وحاجاته وطموحاته، ويساعده على توظيف أفكاره بطريقة فعالة لتحقيق أفضل مستويات التقدم للوطن.

ويعدّ الدكتور عبد السلام المسدي من أبرز الباحثين العرب المهتمين بالأمن اللغوي، وفد كتب كتاب “العرب والانتحار اللغوي” 2011، وكتاب “الهوية العربية والأمن اللغوي.. دراسة وتوثيق” 2014،  وهو يؤكد على دور القرار السياسي في حماية اللغة العربية، وإن انهيار المنظومة اللغوية كان بسبب عدم فعالية وجدية هذا القرار، ونحن في الجزائر كان علينا أن نتتبع أخبار قطاعات وزارية كثيرة (التربية، التجارة، الثقافة، السياحة، التعليم العالي…)، والموقف من العربية، ثم الإطلاع على تجاذبات عديدة عن إصلاحات المنظومة التربوية، والقضايا المطروحة اجتماعيا وثقافيا ودينيا، وغيرها من القضايا الخاصة بالمجتمع الجزائري لكي نفهم الفرق بين الأولويات من منظور الدولة والمجتمع، وقد بدأت برامجُ التعريب في الستينيات بالتدرج من المراحل الابتدائية وتتواصل لمراحل أخرى، لكن لم يكتب لكل المبادرات والقوانين التجسيد والتفعيل، فمثلا أنجزت الدولة قانونا لتعميم استعمال اللغة العربية في 16جانفي 1991، ولكن تم التراجع عن تطبيقه، ويزدادا التراجع والصراع مع لغة وهوية المجتمع في فترات مختلفة،  لتتواصل حلقات عداء ثقافة المجتمع ولغته، ولتعاني مرة أخرى مكونات الثقافة العربية الإسلامية والمرجعيات الهوية الجزائرية.

مع حضور اللغة الفرنسية في الجزائر بقوة واحتلالها حيّزًا مهمًّا من الفضاء الثقافي ومنافستها الشديدة للُّغة العربية، أصبحت مسألة التعددية اللغوية في الجزائر مطروحة بحدّة، ولاسيما بعد اعتماد التعددية السياسية وتراجع دور الدولة في النشاط الثقافي والحياة الاجتماعية، في وقت لم تكتمل عملية التعريب ولم تُحسم المرجعيات الثقافية للمجتمع الجزائري في غياب مشروع ثقافي حقيقي.

وهنا علينا أن نقرأ بوعي عميق كتاب الدكتور فريد حاجي “السياسة الثقافية الفرنسية في الجزائر 1837-1937” الصادر عن دار الخلدونية سنة 2013، وهو كتاب هامّ في ميدانه لأنه يكشف الممارسات والتشريعات الفرنسية الاستعمارية المواجِهة للثقافة العربية الإسلامية، بالاعتماد على الوثائق الرسمية لقولبة المجتمع وصياغة هوية جديدة له، وهو ما استمرّ في جزائر الاستقلال السياسي والتخبط الثقافي، يقول ناصر الدين سعيدوني: “مع حضور اللغة الفرنسية في الجزائر بقوة واحتلالها حيّزًا مهمًّا من الفضاء الثقافي ومنافستها الشديدة للُّغة العربية، أصبحت مسألة التعددية اللغوية في الجزائر مطروحة بحدّة، ولاسيما بعد اعتماد التعددية السياسية وتراجع دور الدولة في النشاط الثقافي والحياة الاجتماعية، في وقت لم تكتمل عملية التعريب ولم تُحسم المرجعيات الثقافية للمجتمع الجزائري في غياب مشروع ثقافي حقيقي”.

وتوجد الكثير من الملتقيات والمشاريع البحثية والكتب التي تناولت المسألة اللغوية العربية بالجزائر، والعلاقة بين اللغة والأمن المجتمعي،  ونحن نؤكد أن الموضوع قد نال الاهتمام نظريا لكن التطبيق ناقص جدا. وقد نشر المجلس الأعلى للغة العربية كتابا موسوما بـ”الأمن الثقافي واللغوي والانسجام الجمعي” 2018، وهو من أعمال يوم دراسي، كما نُظمت الكثير من ندوات “الأمن اللغوي والاستقرار الاجتماعي” عبر الوطن، وينجز الباحثون عبر الجامعات الجزائرية مشاريع بحث عن التخطيط اللغوي والأمن الاجتماعي، وعن الأمن اللغوي والمجتمع، وعن المسألة اللغوية وتحديات العولمة… وغيرها من الموضوعات الإستراتيجية الهامّة، فيبحثون في السياقات التاريخية والملامح الاجتماعية، ويدرسون مستويات الحضور والغياب للغة العربية ويقترحون الحلول.
ومن الكتب الهامة نذكر كتاب المسألة الثقافية في الجزائر: النخب- الهوية– اللغة (دراسة تاريخية نقدية)، وأنجز الدكتور محمد العربي ولد خليفة كتابا بعنوان: ”المسألة الثقافية وقضايا اللسان والهوية”، ونذكر جهود صالح بلعيد (كتاب “في الأمن اللغوي”) والمجلس الأعلى للغة العربية.

ومن الرجال الأحرار الذين دافعوا عن اللغة العربية نذكر المرحوم عثمان سعدي، وقد توفي في 29 نوفمبر 2022، وعندما تفقد الجزائر الدكتور عثمان فهي تفقد مناضلا وطنيا ومثقفا كبيرا، وهو الذي جعل قلمه وسيلة لكتابة الهوية الجزائرية في أبعادها العربية الإسلامية، غير المتنكرة لأمازيغيتها، فقد كان حريصا على كشف الممارسات الفرانكفونية في الجزائر، والقيم والمرجعيات الغربية الاستعمارية التي تحرّكها، وكتب الكتب والمقالات التي تشكل وعيا عميقا بالقضية الثقافية ودورها في بناء الدولة وحماية الأمة، من خلال “عروبة الجزائر عبر التاريخ” أو “الأمازيغ عربٌ عاربة”، وغيرهما من الكتب. إنه من المثقفين الراسخين في الوطنية والمرجعية الثقافية، وكأنه كان يقول للأجيال بأن الوطن لا ينهض بالمقاومة الغذائية والطاقوية والتجارية فقط، وإنما بالمقاومة اللغوية والدينية أيضا.

لنعترف أن الصراع الفكري والسياسي مستمرٌّ مع الاستعمار، ومعه الصراع اللغوي، ولكن تتغير الوسائل والطرق فقط، وإن من يبحث في مجال الأمن اللغوي أو الثقافي يجد الكثير من الاقتراحات والمبادرات، والوصول إلى نقطة الحفاظ على اللغة العربية وحماية الدولة والمجتمع من أخطار الاحتلال اللغوي وفقدان السيادة اللغوية، ومن العناصر المساعدة نذكر مثلا:

– نشر مفاهيم الأمن اللغوي والثقافي بين أفراد المجتمع بكل الطرق، وتوفير مستلزمات نجاح عملية نشر هذا الوعي.

– ضرورة ربط موضوعات الإعداد الثقافي بالتحديات الثقافية المعاصرة (الإنترنت، الانفتاح الإعلامي، الوعي الديني)، وذلك حتى يتحقق الأمن الثقافي لدى الشباب، ويتم الحفاظ على الهوية الوطنية، لأن الأمن اللغوي والثقافي وقاءٌ لحماية الأجيال من الاختراقات الفكرية الهدامة المسبِّبة للفتن.

– الاهتمام بالتربية والتعليم ودورهما  في الأمن الثقافي، وتشجيع الأطفال والشباب على حفظ النصوص الأدبية العربية الراقية، وتشجيعهم على الإبداع الأدبي وتحفيزهم، وإلزام المدارس الخاصة والأجنبيّة بتخصيص حصص كافية لتدريس اللغة العربيّة لطلابها، وإرجاع مادة اللغة العربية لأقسام اللغات الأجنبية كما كانت قبل نظام “ل م د”.

– السعي في إيجاد السبل لتكوين الأولياء عن قضايا الأمن اللغوي والثقافي وأهمية تعليم اللغة العربية وحفظ القرآن الكريم، وتشجيع حفظه من الصغار والكبار، وهذه مسؤولية الدولة والمجتمع معا.

– النظر في تفعيل دور الجامعات والمراكز والمؤسسات العلمية والجمعيات للاهتمام بالأمن الثقافي، وتشجيع الباحثين والمبدعين في هذا المجال. كما نشجع وندعم الباحثين في الطاقة، الصحة، الغذاء… وتتحمّل مراكز الدّراسات والجامعات دوراً كبيراً في تسليط الأضواء على اللغة العربيّة واقتراح الوسائل لتعزيز مكانتها وهذا يفتح أمامنا مسالة العناية بالعلوم الإنسانية والشرعية والأدبية واللغوية بالجامعات والثانويات.

– تقديم البدائل الدينية واللغوية والأدبية للمضمون الموجود في شبكة الانترنت، من خلال التطبيقات البيداغوجية واللغوية المختلفة .

– الانفتاح على الثقافة الغربية والاستفادة من تطورها العلمي، لخدمة مرجعيتنا الوطنية في الثقافة والدين والقيم، فنعرف ما أنجزه الغرب والشرق (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية) لخدمة ثقافاتهم وكيف استطاعوا الانتشار والتأثير.

– أن يكون الاهتمام باللغة العربيّة من أولويّات السلطة والسّاسة، لأنّ القضيّة اللغويّة مسألة سياسيّة قبلَ أنْ تكون قضيّة ثقافيّة، من خلال سنّ القوانين ومن خلال إنشاء مؤسسات لحمايتها.

–  الإعلاء من شأن اللغة العربيّة في التداول اليومي وعلى واجهة المحلات والمراكز التجارية.

– تطوير الوعي اللغوي لدى الإعلاميين من خلال إصدار “الدليل اللغوي” وتكثيف برامج التدريب لتحقيق الكفاية اللغويّة. والتأكيد على دور الإعلام والمؤسسات الثقافيّة في التوعية بأهمية اللغة العربيّة.

– ينبغي تطبيق قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي تعاقب المسؤولين بغرامات مالية في حال مخاطبة الشعب بغير لغته، وأدعو كذلك لرفع الدعاوى القضائية من أفراد المجتمع ضد المؤسسات التي تفرض الوثائق الإدارية بغير العربية.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!