المؤسسة القضائية أعلى
لا يمكن لأية مؤسسة أن تضمن تحولا ديمقراطيا سلسا وفعالا سوى المؤسسة القضائية، كل حديث عن ضمان أو مرافقة أو دور إيجابي لمؤسسات أخرى يعد من قبيل المزايدة، ذلك أنه مهما كانت هذه المؤسسة أو تلك قوية ومهما كان دورها فعّالا إذا ما وَضعت نفسها فوق أو قبل المؤسسة القضائية كسرت الأساس الأول الذي ينبغي أن تُبنى عليه الشرعية.
لذا فإنه إذا كان من مطلب للطبقة السياسة التي تسعى لإعادة بناء الشرعية في نطاق مسار الانتقال الديمقراطي المرتقب فإنه في تقديري ينبغي ألا يبحث عن طريق آخر أو ضمانات أخرى، لأن أية مؤسسة أو أية جهة أو أية ضمانة أخرى مقترحة إذا لم تتم في ظل قضاء مستقل ونزيه وقوي ستنحرف عن الغاية منها ولن تحقق الهدف المنشود.
واستغرب كيف لا نجعل من شعار القانون فوق الجميع أساس أي إصلاح مرتقب بالرغم من تأثيره الواضح والأكيد على كافة الإصلاحات الأخرى. هل يمكن منع التزوير مثلا من خلال تجنيد كل الأجهزة الأمنية إذا لم تكن هذه الأجهزة تعمل في ظل مبدأ القانون فوق الجميع؟ هل يمكن لسلطة المال أن لا تطغى إذا لم يكن القانون يعلوها؟ بل هل يمكن للمجتمع الدولي بكافة مكوناته أن يضمن انتقالا ديمقراطية في أي بلد إذا لم يكن يخضع بالدرجة الأولى للقوانين الداخلية للبلد المعني وللقوانين الدولية التي تحكمه؟
أظن بأن المدرسة القانونية اليوم ينبغي أن تسود على حساب المدرسة الواقعية أو المادية التي تجعل من القوة وموازين القوة الأساس الذي يحكم العلاقات بين الدول وداخل كل دولة.
والدعوة لسيادة هذه المدرسة في بلادنا ينبغي ألا ينظر لها بعين المثالية بعيدا عن واقعية موازين القوة وتأثير العوامل المادية، بل ينبغي أن يُنظر له على أساس أننا ننتمي إلى حضارة تجعل من العدل أساس الملك، وتراثنا التاريخي ومخزون تقاليدنا عبر العصور تؤكد أن النصر في أي من المعارك إنما يكون للقيادة العادلة على حساب القيادة القوية مهما كانت أنواع القوة التي تملك… وما هزائمنا المتكررة وما ضعفنا المزمن وما الأزمات العميقة التي نعيشها إلا نتيجة ابتعادنا عن الانطلاق من العدالة كمحرك للإصلاح والتغيير وإفشاء السلم والأمن في البلاد. وكل دعوة لمن يرافق عملية الإصلاح أو الانتقال الديمقراطي أو إعادة بناء الشرعية خارج نطاق هذا المرفق الحيوي إنما هي من قبيل الدفع بهذا الطرف أو ذاك أن يكون فوق القانون…