المال هناك والملاريا هنا
لا جدال في أن مدرب منتخب الكرة وحيد خاليلوزيتش، هو واحد من أكفإ التقنيين الذين انتدبتهم الجزائر في تاريخها الكروي، ومنحتهم كل الصلاحيات وكل الإمكانات المادية بسخاء لا نظير له، ومع ذلك لو حقق الرجل التأهل المأمول لكأس العالم، فإنه سيكون أدى المهمة، التي تقاضى فيها أكبر مرتب مُنح لموظف في الجزائر منذ الاستقلال.
لقد أصرّ المدرب البوسني، الذي سبق له العمل في عالم الاحتراف في فرنسا بالخصوص، على أن يُسيّر شؤون المنتخب الجزائري، على طريقته الاحترافية الأوروبية، رغم أن “الخلطة” الجزائرية التي لا احتراف فيها، أعطت في بعض الأحيان أكلها، فنجح الرجل في الفوز في بعض التحديات، عندما قرّر أن يبني فوق الأطلال، ورفض الترميم، رغم “التحرشات” التي تعرّض لها، عندما أبعد زبدة المنتخب الذي شارك في كأس العالم الأخيرة، وعندما قبِل باعتزال البقية رغم الزلزال الذي هزّه، بعد تعثر المنتخب الجزائري في كأس أمم إفريقيا.
ولكن الحقيقة التي لا يمكنه الهروب منها، هو أن الرجل لم يصطدم في مسيرته نحو البرازيل أبدا بالمنتخبات المفترسة، من أسود ونسور وفهود وفيلة، فكانت مهته أسهل من كل الذين سبقوه في مهنة الأشغال الشاقة في الجزائر، التي يمتهنها كل الجزائريين صباحا ومساء من دون ملل ولا كلل.
في الاختبارات الكلينيكية التي يقوم بها الأطباء عادة، قبل مباشرة فحص المريض سريريا، وبحثا عن التشخيص لتقديم العلاج، هناك سؤال ملح يطرحه الطبيب، وهو الظروف التي يعيش فيها المريض، لأجل ذلك يقول الأطباء إن العلاج الناجح في أوروبا ليس بالضرورة ناجح في مناطق أخرى والعكس صحيح، وهي نفس وجهة نظر المهندسين والقضاة، ورغم أن الخلطة الجزائرية في عالم كرة القدم، أحدثت الكثير من الهزات والخيبات، إلا أن التاريخ يشهد أن الفوز في أم درمان لم يكن وليد خطط تكتيكية، بقدر ما هو إصرار بالكامل، وربما لو قاد خاليلوزيتش وساعده مورينيو وغوارديولا في تلك المواجهة المنتخب الجزائري، ما حقق الانتصار، لأن الثلاثة سيمنعون مدافعا دوره في الخلف، من التقدم في قلب المباراة نحو الهجوم والتسجيل، فكان واضحا أن اللاعبين في تلك المقابلة كانوا خارج الحسابات التكتيكية، كما كان أيضا المنتخب الذي فاز على فرنسا عام 1975 والذي فاز على ألمانيا عام 1982، وهو ما جعل الأوروبين أنفسهم يدخلون مفردة “الروح القتالية” أو “الغرينتا” في قاموسهم الكروي، حتى لا يبقى الانتصار من صنع فنيات اللاعب وتكتيك المدرب فقط.
عودة خاليلوزيتش للإعلام الجزائري المُبرمج هذا الجمعة، هو ربما اقتناع منه بأن المباريات الكروية الحاسمة مثل الأحداث الحاسمة، لا يمكن أن يصنعها شخص واحد، ولا يمكن أن تُصنع في مكان واحد بعيد، فالرجل اختار دائما اللاعبين الذين ينشطون خارج البلاد، وفضل دائما أن يتحدث مع الصحافيين من خارج البلاد، وبقيت الجزائر بالنسبة إليه بنكا يتقاضى منه راتبه، وأنصارا يمرضون بالملاريا من أجل منتخب بلادهم.