المبدأ لا يعرف التجزئة..
لا أفهم، أحيانًا، لماذا يسعى بعضُهم إلى فرض وصاية فكريّة أو سيّاسيّة على أشخاص تجاوزا سنّ الرّشد بسنوات ضوئيّة؟ ولا أفهم لماذا يغضبُ بعضهم لمجرّد أنّ غيرهم اختاروا طريقًا غير الذي يرتضونه لأنفسهم؟ أسوق هذا الكلام لأنّني لم أسمح لنفسي مرّة واحدة بفرض رأيي أو موقفي على أيّ شخص ولو بلغت علاقتي به حدّ قرابة الدّم؛ فالمسألة شخصيّة وقناعة ذاتيّة، ولا تخضع لمساومة أو مقايضة. ولأنّني حدّدتُ منطلقاتي الفكريّة، واخترتُ على ضوئها نهجي السياسي، فلا أفهم لماذا ينزعج بعض النّاس من خيّار مبدئي، أدرك أنّ عليّ القبول بنتائجه مهما كانت؟فالمبدأ لا يعرف التجزئة، ولا يقبل القسمة على اثنين.
فإذا كان هدف هؤلاء هو الحرص على مصلحتي (..) فلا أعتقد أنّ هناك من هو أحرص عليها منّي، وإذا كانت الهدف هو محاولة استقطابٍ مرحليّة، فإنّ حسابات الدكاكين لم تعد صالحة هذه الأيّام. وأعتقد أنّ العرف الديمقراطي يقتضي من الإنسان شيئا من الشفافيّة والثبات على الموقف، أمّا التلوّن بحسب المواسم السياسيّة، فلا أراه ذا فائدة..
في الغرب، لا نقرأ ولا نسمع شيئا من هذا، لأنّ الاختلاف في الرأي مكرّسٌ، فقد يختلف أعضاء العائلة الواحدة فكريا وسياسيًّا، لكنّهم يجتمعون حول مائدة واحدة في البيت. أمّا نحنُ، فربّما كان الاختلاف مدعاةً إلى خلاف، ومناكفات، تصلُ إلى حدّ الصّدود وغلق الحدود العائليّة. وبالتّالي ما زال أمامنا وقتٌ لقبول فكرة الاختلاف، وتكريسها كحق لا يقبلُ البيع والشراء..
منذ العام 1989، ظهر ما يربو عن المائة حزب سياسي، وبعضها لم يكن أكثر من أكشاك صغيرة لا تستقطب النّاس، بفعل عجز أصحابها عن الترويج لأفكارهم، وإقناع الآخرين بجدواها، فوُلدت ميّتة، وانتهت في النسيان. ولكنّ بعض الأحزاب قاوم عوامل التعريّة السياسيّة، وفرضَ قدرًا من الاحترام بممارسة للفعل الديمقراطي في ظروف صعبة أحيانًا، ولكن رغم هذا، لم تصل التجربة إلى مستوى الحكم على قدرتها في صناعة رأي عام سياسي، ورؤية مستقبليّة مقبولة لدى قطاع واسع من النّاس، وليس أدلّ على ذلك من أنّها لا تمتلك المناعة الكافية، لمقاومة حالة الانشطار والتصحيحيات التي تظهر عشيّة كل موسم انتخابي.. ولهذا يترصّد النّاس بعضهم البعض، وتنتشر ثقافة التصنيف، والعمالة والتخوين. ويصبح مبدأ “من ليس معي فهو ضدّي” أكثر العملات انتشارًا في سوق السياسة والتحزّب..
لكلّ هذا، لا أرى نفسي معنيًا بهكذا سياسة. فأنا اخترتُ منذ البداية التجمّع الوطني الديمقراطي، ولم تكن لي قبله انتماءاتٌ حزبيّة، ولن تكون لي بعده، فالمسألة محسومة بالنّسبة لي، ولا فائدة من تكرار سؤال “لماذا؟”، والأمر بالنّسبة لدعم وتأييد المجاهد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، لا يحتاج إلى تبرير، لأنّ المبدأ يتأسس على الوفاء، وعلى ما حققه الرجل طيلة سنوات عمره، وليس العهدات الرئاسيّة فحسب، لصالح الجزائر.
واختياري بوتفليقة، لا يعني الانتقاص من حق المرشّحين الآخرين، وأنا أعرف أربعة منهم معرفة شخصيّة، وأقدّر لهم حرصهم على خدمة وطنهم، فهم جزائريون، ولهم الحق في تحقيق طموح سياسي مشروع يتأسّس على برامج ورؤى تُعرض على الشعب ويفصل فيها الصّندوق. ولكن في أيّ منافسة سياسيّة يكون الرّهان على فارس واحد.. وأنا اخترتُ فارسي مثلما اختار الآخرون.
في السّاحة السياسيّة اليوم، يتنافس ستة مرشّحين بينهم سيّدة، مضى الأسبوع الأوّل دون أن يسمع النّاس شيئا عن البرامج، ومرّ الأسبوع الثّاني ولم يكد ينتهي حتّى أبان بعضُهم عن ملامح برنامجه، وانتهى الأسبوع الثالث وكل الحملة الانتخابيّة، وكان حالُ المرشّحين فيه، أشبه بفريق كرة قدم أهدر ثمانين دقيقة في اللعب خارج المرمى، وعندما شعر أنّ الحكم سيعلن نهاية المباراة راح يرمي بثقله ليسجّل خمسة أهداف كاملة فيما تبقّى من الوقت.. فلم يلمس الجمهور سوى حديث مقتضب عن قضايا تعنيه، ومع هذا يمكن القول إنّ الساحة تعرض بضاعات، بعضها واقعي، وبعضها الآخر بحاجة إلى خمسين سنة لفهمه. ولأنّني من أنصار المرشّح الحر السيّد عبد العزيز بوتفليقة، يمكنني قول ما يأتي، حتّى أكون أكثر وضوحًا عن سبب اختياري لهذا الرّجل:
أوّلا، لا يمكنني أن أدير ظهري لرجل لم يُدر ظهره لوطنه عبر مساره الطويل، فالوفاء صار نادرًا في أيّامنا هذه. بالرّغم من أنّ هناك من النّاس من ينظر إلى الوفاء.. على أنّه “شيتة”، أو تملّق، أو تزلّف، وهو كلامٌ مردودٌ عنه، لأنّ الوفاء لأهل الوفاء، لا يعني أنّ المنافسين الآخرين هم في خانة مقلوبة، بل كلّ واحد يحوز قدرًا من احترام وتقدير الشعب الجزائري.
ثانيًا، لم تكن لي معرفة سابقة بعبد العزيز بوتفليقة، لأنّه عندما التحق بالثورة التحريريّة لم أكن وُلدتُ بعد، وعندما كان يقود الديبلوماسيّة الجزائريّة كنتُ حافيَ القدمين أبحثُ عن مدرسة مثل كثير من أبناء الجزائر في سنوات الاستقلال الأولى، وكنتُ منبهرًا بكاريزما هذا الرجل الذي نجح في أن يمنح الجزائر موقعًا سياسيا بين الكبار في عزّ الحرب الباردة والساخنة معًا، وبلا شكّ فإنّ كثيرًا من الذين يناوئونه اليوم كانوا منجذبين إليه قبل أربعين عامًا، أو منذ انتخابه في العام 1999. وحين تعرّفت عليه، من خلال عديد الفعاليات الثقافيّة والفكريّة، اكتشفتُ أنّ الرجل ليس رجل سياسة كما كنتُ أعتقد، لكنّه رجل دولة بامتياز. لأنّ في الجزائر يوجد كثيرٌ من رجال السياسة، وقليل من رجال الدّولة، والفرق بينهما واضحٌ وجليّ، ذلك أنّ رجل السياسة يسعى لأن يأخذ شيئا من بلده، بينما يعمل رجل الدّولة على تقديم شيء لبلده، وشتان بين من يقدّم ومن يأخذ.. فلا يختلف اثنان، وإن كانَا من مناوئيه، في أنّ بوتفليقة قدّم عُصارة عمره لبلده، ويمكنني أن أحيل القارئ على تصريح له أمام جمعٍ من الشباب في العام 2000 جاء فيه: “ما جئتُ من منطلق رغبة في شرفٍ ما أو في كرسيّ ما، أو في مسؤولية ما. لقد كنتُ من أبناء هذا الوطن المحظوظين الذين أعطاهم الوطن الكثير وأكثر مما يستحقون. فما كان لي أن أتحمّل مسؤولية كهذه، ولكن – وقد وصلت إلى هذا المنصب- سأقوم بمهامي كاملة غير منقوصة.. وأعاهدكم على أن أبقى للمصالح العليا للبلاد مخلصًا، وللدفاع عن مصالح الشّعب وفيّا، ومستميتًا من أجل المصالحة بين الجزائريين على اختلاف مناهلهم ومشاربهم وأعمارهم وأجيالهم”. وقال في العام 1999 “بلادي امتُحنتْ لكنها لم تتكسر، وشعبي عاش أزمة حادة لكنه لم ينهزم، ولم تنل منه المصاعب ولم تَحُلْ دون تعلقه بالحياة المصائب.. فكان الأمل قرينَ الألم وكلما اتسعت دائرة الثقة والأمل ضاقت مساحة الخوف والألم”.
فالرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بخبرته وحنكته، امتلك حسّا ثقافيّا قلّما يتوفّر عليه رجل دولة، فأذكر أنّه قال في يونيو 1999 أمام جمع من الأدباء والمثقفين العرب:”..ورغم بعض الانزلاقات لم يصمت المثقف ولم يتردد المفكر ولم يجبن الكاتب.. كانوا جميعا جنبا إلى جنب مع المواطن العادي الحالم بالأمن والاستقرار والطمأنينة.. وإلى جنب أفراد الجيش الوطني الشعبي والقوى الحية للأمة يعملون على اجتثاث جذور الفتنة واقتلاع بذور الشر إلى الأبد.. ليجد المواطن الأمن، ويجد المبدع والمفكر مجالا أوسع للإبداع والفكر وتجد الديمقراطية حماة لها ومدافعين عنها وشهداء في سبيلها..”.
هذه بعض الشواهد التي استحضرتها، ليس لتبرير موقفي، فهذا أمرٌ شخصيّ يدخل في نطاق حريّتي وقناعتي، ولكن لإبراز قيمة وقامة ومقام الرّجل الذي يواجه منذ فترة مرضه حربًا من أصحاب النفوس المريضة، ممن استثمروا في وضعه الصحيّ حدّ العظم، واعتقدوا أنّ هذه الورقة كافيّة، لكسب معركة افتراضيّة طرفها الآخر الشعب الجزائري الذي يقرأها وهي “طايرة” كما يقولون..
هذا السلوك غير الأخلاقي الذي نقله بعض ممتهني السياسة إلى واجهة النقاش، لم يألفه الجزائريون في حياتهم، إذ بالرغم من شفافيّة إعلان الرئيس في 2005 عن طبيعة مرضه، وقال حينها “لا حيلة لي مع الله”، وكذلك في 2013 ولم يُخف شيئا عن الجزائريين، وجدَ بعض السّاسة والوافدين الجدد عليها، مادّة دسمة لدخول المعترك الانتخابي بالبحث في تفاصيل الوصفة الطبيّة، فقرأنا في أوّل الأمر أنّهم يعيدون دهن مقبرة العاليّة، يا لطيف، وعندما عاد إلى أرض الوطن قالوا إنّه يقعد على كرسيّ متحرّك، فردّ مواطنٌ بسيط “ليقعد الرجل الذي جعل الجزائر تقف”، ثمّ قالوا لكنه لا يقدر على الكلام، وعندما تكلّم، قالوا لكنّنا لم نره واقفًا، وعندما رأوه واقفًا، قالوا متى يمشي، وعندما يمشي، سيقولون ولكنّه لا يجري، وإذا راح يجري، تساءلوا لماذا لا يشارك في أولمبياد ري ودي جانيرو القادمة؟.. هل بعد هذه المنطق السياسوي الذي تتحكم فيه أمزجة لا همّ لها إلاّ محاسبة النّاس على مواقفهم، لتكن مساحة الاحترام والتسامح أوسع من مساحة حشر الأنف في قناعة ذاتيّة.