-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المترشحون للرئاسيات..

المترشحون للرئاسيات..
ح.م

هالني أن يصل عدد المترشحين والراغبين في منصب الرئاسة إلى عتبة المائة والخمسين، كما هالني كثرة الطامحين والطامعين في منصب الخلافة العظمى بالمفهوم الشرعي وفي منصب رئيس الجمهورية بالمفهوم الاصطلاحي السياسي المعاصر، إذ وصلت النسبة تقريبا إلى أن كل مليون جزائري يقابله أربعة طامحين لمثل هذا المنصب الذي تشيب لهوله وتبعاته ومسؤولياته الولدان، هذا المنصب العالي الذي تحفه النار من أبعاده المكانية الستة (أمام، خلف، فوق..) والزمانية الثلاثة (الماضي، الحاضر، المستقبل).

والذي هالني أكثر وأخذ بمجامعي هو هذا الاستخفاف العجيب والاندفاع الغريب الذي وصل حد الإسفاف والمهانة نحو منصب قيلت فيه الآلاف من الحِكم والأمثال والوصايا والقصائد والأشعار، وأُلّفتْ فيه عشراتُ الآلاف من الكتب والمصنفات بشتى لغات العالم، فمن قرأ مذكِّرات القادة ورؤساء الدول والحكومات والملوك والوزراء.. يعلم علم اليقين خطورة وحساسية وحراجة التقدم نحو هذا المنصب، وأذكر أنني قرأت ما لا يقل عن ثلاثمائة كتاب من مثل هذه المذكرات، فعلى سبيل المثال لا الحصر (مذكرات رومل ثعلب الصحراء، وهتلر ، ولينين وستالين وخروتشوف وجوكوف وبروز تيتو وديغول وتشرشل والسلطان عبد الحميد الثاني وعبد الناصر وشكري القوتلي وخريف الغضب لهيكل وحافظ الأسد لباتريك سيل وعبد الغني الجمسي وعبد الفتاح إسماعيل وسعد الدين الشاذلي وأحمد بن بلة وهواري بومدين لعميمور والشاذلي بن جديد وعلي كافي..)، والقائمة طويلة جدا. يتبيَّن له يوميات القائد أو رئيس الحكومة أو الوزارة الشاقة جدا، والتي هي عبارة عن برنامج يومي صارم يبدأ بقراءة التقارير الواردة من داخل الوطن وخارجه والتي تفوق المئات من الصفحات.. وغيرها من الواجبات الصارمة المحدَّدة بالوقت وبنوعية الخطاب والكلام والحركة والرمز ونوعية اللباس والجلوس.. وغيرها الكثير من التفاصيل لمن أراد الاطّلاع لمعرفة خطورة المنصب وحساسيته..

وقبل أن نحيل هؤلاء الطامحين لمنصب الرئاسة على مختلف مدارس واتجاهات ونماذج التحليل النفسي، لاكتشاف خبيئتهم ودوافعهم النفسية والتعرّف على تراكم ومخزون عقدهم المرضية، نودّ أن نتوقف ولو لبرهة قصيرة للتعريف بمنصب الخلافة العظمى، فهي كما عرّفها الجمع الغفير من فقهاء السياسة الشرعية عبر التاريخ الإسلامي، بأنها: (نيابة عن الله تعالى لحراسة ورعاية شؤون الدنيا والدين)، وانطلاقا من هذا التعريف فقد كتب (ابن قتيبة والجويني والباقلاني والماوردي والفرا والغزالي والطرطوشي وابن تيمية والعز وابن خلدون..) وغيرهم المصنفات، وبيّنوا عِظم وخطورة تلك المسؤولية وتداعياتها الدنيوية والأخروية على مصير صاحبها ومتوليها في الدارين، فضلا عن عاقبة التقصير في أداء واجباتها وفق المنظور الشرعي الثقيل جدا، دافعين كل الأدلة النقلية (الكتاب، السُّنة) والعقلية والتاريخية والتجربية لتعظيم خطورة الاقتراب منها، فهي ليست فسحة أو تسلية أو مناسبة لقضاء أيام في أحضان عقدة شهوة حب التسلط على الناس، لأن خدمة الناس والتقرب إلى الله بخدمتهم ورفع راية الأمة والوطن عاليا خفاقا في الدنيا، واكتساب رضوان الله في الآخرة يمكن أن يُحسنها حتى جامع القمامة من موقع عمله إن أحسنه وأتقنه، كما يمكن أن يحسنها الإمام القدوة، والمؤذن الساهر، والإعلامي النظيف، والجندي الشجاع، والشرطي المستقيم، والطبيب الرحيم، والجامعي الباحث المُنتج للمعرفة والعلم، والأستاذ المربِّي المستقيم، والقاضي العادل، والممرِّض الشفوق، والسائق الهادئ، والكهربائي الخبير، والبائع البشوش، والمزارع الكاد، والفلاح المثمر، والتاجر الصدوق.. وكل أفراد المجتمع بحسب موقعه ومكانته ودوره، والمهمّ في ذلك كله يكمن في تمتعه بعقيدة سليمة، وبخوف من الله حقيقي وليس صوريا مزيفا، وبتربية أصيلة ومستقيمة، وبأخلاق كريمة، وأن يكون حملا من القيم الفاضلة اتجاه أهله وعشيرته وقبيلته وبلدته وولايته ووطنه والإنسانية جمعاء..

وفي ملتي واعتقادي أن الفرد والمواطن الصالح ليس بحاجة لأن يصير مديرا أو مسؤولا أو حاكما أو وزيرا، أو رئيس جمعية، أو زعيم حزب، أو واليا، أو رئيس دائرة، أو رئيس بلدية، أو رئيس حكومة، أو رئيس برلمان، أو رئيس جمهورية حتى يخدم وطنه.. لأن خدمة الوطن واجبٌ ديني وشرعي وضرورة حياتية وحتمية حضارية وواجب وطني.. وثمة الملايين من الجزائريين داخل الجزائر وخارجها يخدمون الجزائر خير وأعظم خدمة، ممن هم يتولون مناصب في الدولة أو في الحكومة أو في الوزارة أو في المجلسين (البرلمان، الأمة: من فعل جلس واستراح من أموال الأمة المقهورة)، ويمتصون دماءها وأموالها وخيراتها لذويهم وعصابتهم، ولا أحب أن أضرب الأمثال الكثيرة جدا في هذا المجال، لأن الناس جميعا – بما فيهم المشتاقين لمنصب الرئاسة – يعرفونها كمعرفة مجردة لا قيمة لها في عالم السلوك والثقافة ولكنهم يستعملونها كوسيلة من وسائل الدعاية الكاذبة المحشوَّة بالنفاق وخداع الناس الغافلين.. ولكم مثال الطبيب الجزائري المبدع (زرهوني) الذي اختارته الولايات المتحدة الأمريكية للإشراف على ملفها الصحي والسهر على المنظومة الصحية لأكثر من ثلاثمائة مليون أمريكي بميزانية تقدر بثلاثين مليار دولار في العام، أي ما يعادل مداخيل الكسالى والعاجزين والمسرفين من الجزائريين من المحروقات في العام، فهو يخدم سمعة العقل الجزائري، كما هو في الوقت نفسه وصمة عارٍ على جبيننا لأننا طردناه سنة 1975م عندما عاد يحمل شهادة الطب.

كما يحتل منصبُ الرئاسة هذا في الديمقراطيات الحديثة –قبل أن يرقى إليه البعض- مكانا مرموقا جدا، وقد تركت أوربا وأمريكا تجربة ورصيدا في صناعة الأحزاب وتربية الشخصيات وفق التدرُّج في سلم النضال الحزبي، ولن أُطيل الحديث في تجربة ألمانيا الغربية وعمالقة الحكم فيها كيف كانوا يربُّون بعضهم حزبيا ونضاليا للوصول إلى سدة الحكم وخدمة ألمانيا المهزومة، وكيف كانوا يعدّون خلفاءهم في مصانع الرئاسة كـ (فيلي برانت، هلموت كول، أنجيلا ميركل)، وتجربة فرنسا مع (منديس فرانس، غي موليت، شارل ديغول، فاليري جيسكار ديستان، فرنسوا ميتران، جاك شيراك، فرنسوا هولاند..)، وتجربة بريطانيا كـ (شمبرلين، تشرشل، مارغريت تاتشر، توني بلير، تريزا ماي..) وتجربة الولايات المتحدة الأمريكية (تيودور روزفلت، هاري ترومان، إيزنهاور، ليندون جونسون، نيكسون، رولاند ريغن، جيمي كارتر، بيل كلينتون، جورج بوش 1 و2)، وتجربة الهند (غاندي، جواهر لالا نهرو، أنديرا غاندي..).. والتجارب كثيرة جدا.. وهي مدارس ونظريات تُدرَّس اليوم في الجامعات، وهي مساطر ومعالم تلقن في حملاتها الانتخابية والدعائية والإعلامية، ونظريات وتجارب في تفاصيلها وحواراتها ومناظراتها ومشاريعها ومخططاتها الناهضة بشعوبها وبلادها..

هذا المنصب إذن منصبٌ عظيم وعظيم جدا، وليس كما يتخيله الكثير من المترشحين من الشعراء الهوّامين بشيطان الشعر، والكتّاب الحائرين، والفلاسفة الحالمين، والاقتصاديين الطوباويين، والمصلحين الخياليين، والمنشطين الإعلاميين المسلين، والرياضيين الفاشلين، والسياسيين المتمرسين الماردين على شهوات وصهوات الخيول السلطوية التي لم يبشموا منها.. وقد أردت من خلال هذه المقدمة أن ألفت انتباه هؤلاء الطامعين في هذا المنصب العظيم، أن يعرفوا قدره ومكانته في الشريعة والقوانين الوضعية، فلا يغرنكم ما آل إليه الوضع في الجزائر، حتى هان وصار مطمعا لكل عارف بقدره وجاهل به أيضا.

وقد قمت بعملية حسابية لعدد الأوراق الممنوحة لكل راغب في الترشح، فوجدتها تعادل ما يطبع خمسمائة نسخة من كتاب به مائتي صفحة، ويصير مجموع ما يستهلكه هؤلاء المائة والخمسون من الأوراق ما يطبع مئة وخمسين كتابا، ومجموع مئات الآلاف من الأوراق، وهذا شكل من أشكال إهدار المال العام لو كنتم تعلمون وتحبون الوطن وخدمته.

والكارثة الأكبر هي: أننا عرفنا واكتشفنا فقط أنه صار يقابل كل مليون جزائري أربعة طامحين لمنصب الرئاسة، وهذا مؤشر خطير عن استفحال عقدة الذُهان النفسية وارتفاع نسبتها لدى الفرد الجزائري، وعقدة الذُهان اكتشفها الراحل المرحوم مالك بن نبي في الشعب الجزائري، وهي اعتقاد المريض بها أنه قادرٌ على حِذْقِ ومهارة كل شيء، حتى الاضطلاع بمنصب الخلافة العظمى.

وأختم مقالي هذا بمقياس إيماني ساطع لا يستطيع هؤلاء المتعطشون لكرس الرئاسة أن يفعلوه ولن يفعلوه مطلقا، فقد جاء في كتاب (تهذيب الكمال في أسماء الرجال ج 20، ص 34) (أن عروة بن محمد لما دخل اليمن واليا، كان معه سيفه ورمحه ومصحف، وقال: يا أهل اليمن، هذه راحلتي، فإن خرجتُ بأكثر منها فأنا سارق، وقال يعقوب بن سفيان: عن علي بن المديني: وُلِّي عروة بن محمد اليمن عشرين سنة وخرج حين خرج على راحلته ومعه سيف ومصحف).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!